محمود حسين: ليس اسماً مستعاراً.. ولكن ظاهرة فكرية

محمود حسين: ليس اسماً مستعاراً.. ولكن ظاهرة فكرية

هذا المقال, يكشف عن أحد أسرار الفكر المعاصر, ظاهرة الصداقة التي حولت اثنين من الكتاب إلى كاتب واحد وفكر واحد.

عن دار النشر الفرنسية (جراسيه) صدرت أخيراً مذكرات (هيرفيه بورج) بعنوان (من ذاكرة فيل). و (بورج) هو أحد أهم رجال الإعلام الفرنسي على مدى العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين. فلقد تولى مسئولية القناتين التلفزيونيتين الفرنسيتين الثانية والثالثة, قبل أن يتولى رئاسة المجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون في فرنسا, والذي يشرف بشكل مباشر على الراديو والتلفزيون الموجهين إلى خارج فرنسا مثل (راديو فرنسا الدولي) والقناة الخامسة في التلفزيون, بالإضافة إلى وضعه لاستراتيجية الإعلام الفرنسي ومتابعة تطبيقها, وبحث مشاكل وسائل الإعلام وظواهرها.

وعلى الرغم من أهمية مذكرات (بورج) بشكل عام فإن ما همّني على الأكثر فيها ذلك الفصل الطويل الذي يكتب فيه بعض ذكريات اثنين من الكتّاب المصريين الكبار المقيمين في فرنسا منذ حوالي خمسة وثلاثين عاماً أكثر مما يكتب فيه مذكراته هو. لكنهما معروفان للقرّاء على أنهما شخص واحد, إذ اتخذا لأنفسهما اسماً مستعاراً واحداً هو (محمود حسين), بينما اسماهما الحقيقيان هما (بهجت النادي وعادل رفعت).

وقد شاءت الأقدار لهما أن يتعرّفا على هيرفيه بورج عندما جمعهما العمل في مقر اليونسكو في باريس, حيث كان الكاتبان المصريان يعملان في مكتب مدير عام المنظمة, بينما كان بورج يعمل مندوباً لفرنسا في اليونسكو, ومنذ ذلك الوقت أصبحا أصدقاء مقرّبين.

وعلى الرغم من صداقتي للثلاثة منذ سنوات عدة, فإنني أعترف بأنني فوجئت في مذكرات بورج بكثير من الأسرار التي لم أكن أعلمها عن الصديقين الكاتبين الكبيرين. التقى (هيرفيه بورج) بالصديقين للمرة الأولى في بلجراد, لتبدأ رحلة صداقة وطيدة ممتدة. لكنه لا يذكر أي تفاصيل عن اللقاء الأول ومناسبته وما دار فيه. بل يعبره سريعاً ليسرد تاريخ علاقة بهجت وعادل, وإنتاجهما الفكري المشترك الذي نشرته أكبر دور النشر الفرنسية مثل (سوي), (ماسبيرو) و (لا ديكوفيرت).

يحكي (بورج) أن بهجت وعادل التقيا للمرة الأولى في القاهرة عام 1955 وهما طالبان. كان عمر بهجت 18 عاماً وكان عادل أصغر منه بعام. ثم انضما إلى مجموعة ماركسية صغيرة كان اسمها (الكفاح مستمر). يندهش بورج من هذا الارتباط الشديد بين الشابين نظراً لاختلاف بيئتيهما الاجتماعية والثقافية. فبهجت الابن الأكبر لأسرة ريفية متوسطة مسلمة متدينة, يعمل الأب مدرساً والأم لا تعمل. عادل أيضا هو الابن الأكبر, لكن لأسرة قاهرية يهودية ثرية غير متدينة!! هاجرت هذه الأسرة من مصر مثل كثير من اليهود عقب عدوان 1956 الثلاثي على مصر, إلا عادل, الذي رفض الهجرة, بل وتمرّد على طبقته وعلى دينه. اعتنق الإسلام وغيّر اسمه وتزوج وانخرط في نضال سياسي. هذا النضال قادهما إلى المعتقل عام 1959, واعتقل بهجت أولاً. فرقت بينهما المعتقلات لعامين, ثم جمعت بينهما مرة أخرى.

في ربيع 1964 زار الزعيم السوفييتي خروشوف مصر, وبهذه المناسبة أفرج جمال عبدالناصر عن المعتقلين الشيوعيين لينضموا إلى (الاتحاد الاشتراكي), وخرجا من المعتقل بعد خمس سنوات.

في الوقت ذاته خرجا من أمور أخرى: خرجا بماركسيتهما إلى ماركسية الزعيم الصيني ماوتسي تونج, بعد أن رفضا سياسة خروشوف.

وخرج عادل من زوجته, وخرج بهجت من خطيبته, وكانت الزوجة والخطيبة قد تخلتا عنهما أثناء اعتقالهما.

وخرجا من مصر كلها.

قصدا بكين, لكنهما استقرا في باريس!! حيث استقبلهما (بيني ليفي) الأخ الأصغر لعادل, خريج مدرسة المعلمين العليا.

يلاحظ (هيرفيه بورج) تأثير التغيرات السياسية والفكرية التي تحدث في أوربا وفي مصر على بهجت وعادل, ويصفهما بــ(التوأمين): حصلا على الجنسية الفرنسية مع تمسكهما بجنسيتهما المصرية, تركا الماركسية دون إنكار لأهميتها, اتخذا مذهب (الشك) لكشف أسرار ما يدور حولهما, غيرا في بعض أفكارهما, لكن شيئاً ثابتاً ظلا محتفظين به داخلهما: شعور ثابت بالثقة أنهما مصريان.

يصرح بورج أن مما أثار دهشته وجعله يكتب هذه السطور هو أنه على الرغم من هذه (التوأمة) التي كان من الممكن أن تنغلق على نفسها ويكتفي الاثنان ببعضهما, حدث العكس تماماً: انفتحا على الآخرين, ويصف بورج مؤلفاتهما بأنها كانت (رائدة وسبّاقة في الفكر المعاصر), منذ أول كتاب لهما نشراه عام 1969 وهو (صراع الطبقات في مصر), فيه نقد يساري للناصرية, جرؤا فيه على القول في ذلك الوقت - بأنه خلف الإجماع القومي تحتدم مصالح وصراعات اجتماعية.

اثنان واسم واحد

قدما مخطوطة كتابهما إلى الناشر المعروف فرانسوا ماسبيرو الذي قرأها, لكنه عبر عن تحفظ واحد صحيح: من الصعب نشر كتاب لمؤلفين مجهولين, إذ لن يباع, ومن الأفضل أن يحمل اسما واحدا. فكرا في حل: تزاوج ألقابهما أو تبادل أسمائهما الأولى مثل بهجت رفعت أو عادل النادي. لكنهما توصلا إلى اسم واحد مصري مستعار لكليهما: محمود حسين, ونجح الكتاب الأول بشدة, ترجم إلى عشر لغات وخرج أخيراً في طبعة شعبية, وأصبح الكتاب المفضل لأقصى اليسار في العالم العربي وإفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.

يقول (هيرفيه) إنه بعد حرب أكتوبر 1973, وانتصار المصريين فيها, واستعادة سيناء, وجد الصديقان بهجت وعادل أن الوقت أصبح مناسباً للبحث عن طرق أخرى للعلاقة مع إسرائيل غير الحرب. وأن حل الصراع يأتي عن طريق العمل على اعتراف إسرائيل بدولة فلسطينية مع اعتراف العرب بإسرائيل, وقد أكدت لهما ذلك زيارة الرئيس السادات الشهيرة إلى القدس.

كان الكاتب الفرنسي جون لاكوتير وزوجته سيمون قد التقيا بالصديقين في مصر في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي. وبعد حرب 1973 اقترحا عليهما أن يجريا حديثاً مع المؤرخ الإسرائيلي (ساؤول فريدلاندر), وافقا على أساس الاتفاق على ضرورة انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية التي احتلتها في حرب 1967, والاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. وقد نشرت مناقشاتهما في نهاية عام 1974 في كتاب بعنوان (عرب وإسرائيليون: حوار أول). وفي فبراير 1975, استضافهما (برناربيفو) في برنامجه التلفزيوني المشهور عن الكتب (أبوستروف) للحديث عن هذا الحوار.

أثر هذا البرنامج التلفزيوني واسع الانتشار إيجابياً في تعريف قطاعات واسعة من الفرنسيين بالصديقين المصريين وأفكارهما, يحكي بورج أنه بعد خروجهما من الاستديو الذي بث البرنامج على الهواء فوجئا بمجموعة من الشباب العرب في الشارع يستوقفانهما قائلين: إن حديثهما كان رائعاً, وإنهم شعروا بالفخر وهم يسمعونهما, كما أدى البرنامج إلى أن تدعوهما جامعات فرنسية إلى ندواتها ومناظراتها. بل أدى هذا البرنامج إلى دخولهما منظمة اليونسكو للعمل فيها!

كان من ضمن مشاهديه المدير العام الأسبق لليونسكو أحمد مختار امبو, أول إفريقي يدير هذه المؤسسة الدولية, الذي التقى بهما مرات عدة على الغداء أو العشاء. وفي إحد هذه اللقاءات, عرض على أحدهما الالتحاق للعمل بمكتبه, لكنه رفض موضحاً أنهما لا يعملان إلا معا!! ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر!!

بعد عام وافق (أمبو) على أن يعملا معه معا!

وظلا يعملان معه طوال فترة إدارته لليونسكو, وبعدما تركها, وجاء المدير التالي وهو الأسباني فيدريكو مايور عرض هذا الأخير عليهما الانتقال لإدارة تحرير مجلة (رسالة اليونسكو) التي تصدر باثنتين وثلاثين لغة شهرياً. وهكذا عمل الصديقان لأكثر من عشرين عاماً متواصلة في منظمة اليونسكو, قضوا معظمها في البحث والتحليل والكتابة.

يتوقف هيرفيه بورج عند جهدهما في تحليل مجتمعات الجنوب من الداخل بطريقة رائعة غير مسبوقة, ووضع الفرد وتطوره وتعبيره عن نفسه في مجتمعات ما يطلق عليه العالم الثالث. وقد ظهر فكر وبحث بهجت وعادل في كتاب قيم اسمه (السفح الجنوبي للحرية) ترجم إلى اللغة العربية وأسعى سعيا حثيثاً لنشره في مصر. ويعبر (هيرفيه بورج) عن سعادته لأنه انتج لبهجت وعادل فيلماً عن هذا الموضوع عرض على شاشة القناة الثانية للتلفزيون الفرنسي قبل أن يترك رئاستها بأيام.

مصر وفرنسا

ومن خلال بهجت وعادل يتحدث (هيرفيه) عن مصر والعلاقات المصرية الفرنسية, وقد زار مصر عدة مرات منها مرة ضمن الوفد المرافق للرئيس جاك شيراك, فيقول: (من خلال أحاديثي معهما وبعد لقاءات عدة وزيارات لمصر بين عامي 1975 و1998, تمكنت من أن أكوّن فكرة قوية عن العلاقات الثقافية في هذه الفترة بين مصر وفرنسا, والدليل عليها الزيارة الرسمية التي قام بها الرئيس شيراك إلى القاهرة عام 1989, وانتهت الزيارة بإقامة حفل عشاء خاص حضره بعض الكتّاب والصحفيين المصريين. يصف (بورج) هذا العشاء بأنه كان رائعا ومنسجماً حتى اللحظة التي فجّر فيها أحد الحاضرين المصريين سؤالاً غير متوقع موجها إلى الرئيس شيراك: وماذا عن حملة بونابرت يا سيدي??

أترك هنا (بورج) للتعليق على موضوع الحملة الفرنسية على مصر ثم أعلق عليه: (لم يكن الرئيس يتوقع أبداً مثل هذا السؤال في لقاء أقيم من أجل تنمية الصداقة والتعاون بين البلدين. صمت الرئيس وتضاربت آراء الحاضرين مما أثار اهتمام الصحفيين بالرغم من أن الحملة الفرنسية في مصر كانت صدمة بالنسبة للمصريين, لكن في الحقيقة لها تأثير إيجابي على مصر حيث عملت على تحديث المجتمع المصري ونزعه تماماً من تقاليد القرون الوسطى التي كان يؤمن بها ويعيش فيها لم تستغرق الحملة الفرنسية في مصر غير ثلاث سنوات, لم يكن لديها وقت لفرض العقوبة والذل على الشعب المصري كما كانت تعمل أي حملة أجنبية, لم تلعب أبداً الحملة الفرنسية دور السلطة الاستعمارية المتعسفة, ولكنها كانت إحدى دعامات الثقافة والإنتاج الفكري والعقلي للمجتمع المصري. هذا استكشفته في ذكريات صديقي المصريين, إن الحملة الفرنسية التي هاجمها المصريون لم تكن غزواً مسلحاً, ولكن كان يتبعها أسطول يضم كبار العلماء الفرنسيين الذين جاءوا مع الحملة ليضيفوا إلى المجتمع المصري رؤية عالمية جديدة وجديرة بالاحترام...). ويضيف (بورج) أن صديقيه المصريين يقصد بهجت وعادل قالا له إن فرنسا أهدت الحرية إلى مصر.

يبدو من كلام صديقي (هيرفيه) السابق أنه ليست لديه معلومات متكاملة حول الحملة الفرنسية على مصر. وخطورة هذا النقص الخطير في المعلومات أنه يرد على لسان واحد كان على قمة الإعلام الفرنسي, فما بالكم بباقي الإعلاميين هناك?? وأنا مندهش أيضاً من صديقينا المصريين المشتركين اللذين لم يوضحا له حقائق التاريخ مثل: أن الحملة الفرنسية احتلت مصر عسكرياً بقوة النار والسلاح, وأنها شهدت معارك ومقاومة مسلحة مستمرة من الشعب المصري حتى رحلت, وأكبر دليل على ذلك قتل خليفة نابليون بونابرت وهو القائد كليبر, وأن القوات الفرنسية العسكرية دخلت الجامع الأزهر بخيولها.

ومع ذلك فلقد أفادت الحملة مصر - بالطبع - ربما من حيث لا يحتسب الغزاة:

أصدقاء مشتركون

هناك آخرون أصدقاء مشتركون لبورج وبهجت وعادل يتحدث عنهم بورج في مذكراته. منهم الكاتب المغربي طاهر بن جلون. يقول بورج: (وجدت عند طاهر الشعور بالأمان, هذا الصفاء الهادئ. لم نكن دائماً متفقين, ولكننا لم نكن متكلفين. وقد خصص طاهر بن جلون صفحات صادقة للحديث عن صداقته مع بهجت وعادل في كتابه (الالتحام الأخوي), وربما قلت لنفسي عند قراءة هذا الكتاب إنني يجب على الأقل أن أفعل مثله عند جمعي لذكرياتي, وأن أتحدث عنهما بدوري).

ومنهم (جون لاكوتير) الذي يعرفه كثير من الكتّاب في مصر بسبب كتابه الشهير عن جمال عبدالناصر. و(جون دانييل) مؤسس ورئيس تحرير المجلة الفرنسية الأسبوعية المعروفة (لا نوفل أوبزرفاتور). ويتذكر بورج أنه في أكتوبر من عام 1973 في غمرة الحرب العربية الإسرائيلية, وغداة الثغرة, أراد جون دانييل أن يلتقي بكاتبي بيان نشر في جريدة (لوموند) الفرنسية اليومية المعتبرة, وموقع باسم (محمود حسين), كان عنوانه (الفخر المستعاد) ويشيد بعبور الجيش المصري لقناة السويس. وقد جمع بينهم صديق مشترك في أحد المطاعم الباريسية. يقول بورج: (استقبلهما جونك دانييل بعبارة: (كل شيء إذن سيبدأ من جديد). وبدا على الفور تفاهم بينهم, في المقام الأول في إدراك الصراع العربي - الإسرائيلي. فلقد كان (الفخر المستعاد) للجيوش العربية أيضاً إمكان للتعايش مع الدولة العبرية التي ظهرت. كنا نجد نفسنا كثيراً متفقين أنا وجون دانييل في عدد من الموضوعات بداية من تلك التي تخص العالم العربي والقضية الفلسطينية, والتغيرات التي تطرأ على موازين القوى في العالم, وعدم المساواة بين الشمال والجنوب, ومصاعب العالم الثالث. لكن هذا التقارب لم يمنعنا من التصادم. ففي نوفمبر 1992, نشرت مجلة لا نوفيل أوبزرفاتور كاريكاتيرا سيئاً لي, فأرسلت له كلمة مختصرة: (شكراً على الكاريكاتير والمقالة المناسبتين في هذا التوقيت بالذات, وداعاً جون). هذا الأخير ردّ على هيرفيه في اليوم نفسه على الفاكس معتذراً عن نشر الكاريكاتير, ومذكّراً إياه بأنه يتعامل معه بشكل سيء على مدى الشهور الستة الأخيرة, كما أن القناتين التلفزيونيتين الفرنسيتين تتعاملان معه أيضاً بشـــكل سيء, وذلك أثناء رئاسة بورج لهما. وعادت الصداقة بين جون دانيــيل وهيرفيه بورج مرة أخرى بسبب هذا ارد الذي انتهى بكلمة (إلى اللقاء) بدلاً من كلمة بورج (وداعاً).

وينهي (هيرفيه بورج) الفصل الذي سجله لذكرياته مع بهجت النادي وعادل رفعت بالحديث عن قيامهما بالتعاون مع المفكر الفرنسي (ريجيس دوبريه) بتنظيم ما يشبه النادي الدولي تحت شعار (مثقفون لعالم واحد). وذلك بعد رئاسة بهجت النادي وعادل رفعت لتحرير مجلة (رسالة اليونسكو) الشهرية واسعة الانتشار. وقد قاموا بتنظيم عدة حلقات نقاش في مصر والهند.
تمتزج كلمات بهجت النادي وهيرفيه بورج في السطور الثمانية الأخيرة. حيث أفضى بهجت إلى هيرفيه بأنه في فترة المراهقة فقـد أوهامه حول الخلود. (خسارة هذا اليقين فتـح باباً كبيراً: القلق في مواجهة الموت, والوحدة أمام الحياة). يقول بورج: (في النهاية لا يبقى سوى الحب والصداقة).

 

 

سمير غريب

 
 




غلاف الكتاب





هيرفيه بورج