تصحيح التاريخ صهيونيا هيثم الكيلاني
تصحيح التاريخ صهيونيا
لا تأتي القدرة على تغيير التاريخ من فراغ فكري، فثمة نظريات واتجاهات فكرية تمهد السبيل إلى ذلك. ونكتفي بالإشارة إلى مرجعين أخذا بعدا كبيرا في دائرة الثقافة العالمية: أولهما نظرية "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" التي دعا فيها صاحبها فرنسيس فوكوياما في العام 1992 لى اعتبار الليبرالية الديمقراطية آخر مرحلة من مراحل التاريخ، فالبشرية تتجه نحوها لتحط رحالها عندها، والإنسان الأخير يتكون في رحاب تلك المرحلة. أما المرجع الثاني فهو نظرية "صراع الحضارات" التي تحدث عنها صاحبها صموئيل هنتجتون في بحث طويل نشره في مجلة "فورين أفيرز - صيف 1993 " الأمريكية. وقد كرس هنتجتون، بطريقة غير مباشرة، فكرة فوكوياما حين اعتبر أن العالم الجديد قد طوى صفحة الحروب، وأنه متجه نحو نوع جديد من الصراع، هو "صراع الحضارات". وستكون الحدود الفاصلة بين الحضارات هي "جبهات القتال" في المستقبل. وسواء كان العالم قد وصل إلى "نهاية التاريخ"، أو أنه مقدم على صراع حضارات، فإن المرجعين اللذين ينظران للمستقبل وعالمه الجديد، يتفقان على انتهاء جزء أو مجلد من مجلدات التاريخ، وختمه على أنه يسجل نهاية مرحلة من مراحل حياة البشرية. ولأن الأمر كذلك، فليس هناك ما يمنع من قراءة ذلك التاريخ المنتهي، وإعادة صياغة بعض صفحاته، بما يحقق الغرض الذي يقصد إليه صاحب القراءة وإعادة الصياغة. ومن هذا القبيل، وعلى هذا الأساس أيضا، سلكت الصهيونية دائما مسلك التدخل في كل إطار ثقافي أو تاريخي أو صدام أيديولوجي أو صراعي، ترى فيه نفعا لها، فتقتنص فرصة تطرح من خلالها مطلبا،، أو تسعى إلى هدف محدد، أو تكسب مغنما لدعوتها. ولنا أن نتوقع تنشيط هذا المسلك بأشكال ووسائل متنوعة، وبخاصة بعد أن استقرت إسرائيل عضوا أصيلا في المنطقة. وكانت قبل ذلك، وطوال نصف القرن الماضي، تلهث وراء ترسيخ كيانها مع الآخرين خارج المنطقة العربية، وتسعى - من خلال الأجهزة الصهيونية والقوى المناصرة لها - إلى تصحيح التاريخ أينما تجد إلى ذلك سبيلا. توظيف الأسطورة ويوظف الصهيونيون القصص القديمة والأساطير لأغراض سياسية وإعلامية، ويدمجونها في إطار الأيديولوجيا العدوانية التوسعية. ويستخدمون هذا الموروث من القصص والأساطير - وهو غني ومتنوع - حسب متطلبات الزمان والمكان. وهذا الموروث جاهز دوما لأن يمد قاصديه بما يشاءون من عناصر العداء والإثارة. وتذكر كاتبة بريطانية، هي هيلينا كوبان - جريدة الحياة،21 / 12 / 1995- أنه "علينا ملاحظة أن مشاعر العداء تجاه سوريا تستمد شرعية لدى البعض من الكتب الدينية المستعملة لإحياء عيد هانوكاه اليهودي الذي أصبح يعادل لدى الكثير من يهود أمريكا عيد الميلاد المسيحي". وتصف هذه الكتب في مقاطع كثيرة كفاح اليهود ضد السوريين وتندد بحكامهم - وهي نصوص تعود إلى أكثر من ألفي سنة. وثمة مثال جد مهم لا يخطئه النظر ولا تغفله البصيرة . فلقد كان جوهر الخطيئة في محاولة صلب السيد المسيح هو أن اليهود تآمروا عليه، ووضعوا الحاكم الروماني أمام خيار وحيد هو صلب السيد المسيح. وبعد نحو ألفي عام من ذلك الحدث التاريخي المتوارث والمسجل بوقائعه وشواهده في الكتب الدينية وكتب التاريخ، تتكاتف قوى الصهيونية العالمية من أجل استصدار شهادة من الفاتيكان تبرئ اليهود من دم السيد المسيح. وهكذا خضعت كتب التعليم في أوربا وأمريكا وغيرهما للإيضاح أو الحذف أو التعديل بما يتماشى مع هذا التصحيح للتاريخ. ونذكر واقعة أخرى - على سبيل المثال - هي قريبة منا زمنيا، من حيث نشؤها ثم طيها. ففي إثر جرائم الإبادة والتدمير والمظالم والاعتداءات التي ارتكبتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني ووطنه، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1975قرارها المشهور (3379 - 10 / 11 / 1975) الذي اعتبرت فيه الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية والتمييز العنصري. وقد جاء هذا القرار تحديا وناقضا للأسس القانونية والأخلاقية التي قامت عليها إسرائيل. وما أن بدأت عملية التسوية في خريف 1991 ، حتى تكاتفت قوى الصهيونية وأنصارها على إلغاء ذلك القرار. وهكذا كان، فقد أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا يلغي قرار العام1975. وهو مسلك فريد في حياة الأمم المتحدة، لم تشهد له نظيرا آخر قط حتى اليوم. ومن هذا القبيل أيضا، رفضت إسرائيل أن تقيم علاقات دبلوماسية مع ألمانيا، إلا إذا اعتذرت لها ألمانيا عن كل ما فعله الحكم النازي باليهود في الحرب العالمية الثانية، وإلا إذا دفعت إلى إسرائيل مالا ثمن خطيئة هتلر. وتنقلنا هذه الأمثلة إلى حادثة تاريخية عمرها خمسة وعشرون قرنا، ولكنها، بالرغم من قدمها العميق، قد تمد ظلالها إلى عصرنا هذا، عصر تغيير التاريخ: تزييفا، أو تصحيحا، أو اعتذارا. ونقصد بذلك ما سمي السبي البابلي. فقد تطلب إسرائيل من العراق، حينما يحين الحين، أن يعتذر عما فعله ملك بابل بأورشليم ويهودها، وأن يرد إليها الأموال التي غنمها، ويعوضها عن الخسائر التي أنزلها الجيش البابلي بالمدينة. وقبل أن ننعطف إلى تلك الحادثة المستقاة من التوراة، يحسن بنا أن نتصفح أوراق تحقيق علمي تاريخي حديث قامت به مجلة تايم الأمريكية (عدد 18-12-1995). وهو تحقيق ذو صلة - ولو بعيدة - بموضوع هذه المقالة وبالحادثة التي سنشير إليها فيما يأتي من حديث. لقد تواترت أقوال المؤرخين - فيما قدمته مجلة تايم - على أن أقدم نص في العهد القديم قد كتب في أثناء وجود اليهود في السبي في بابل، أي بعد عام 587 ق. م. كما بلغت أقوال هؤلاء المؤرخين حد اليقين بأنه لا يوجد أي أثر أو دليل على ما قيل عن اضطهاد الإسرائيليين في مصر، أو عن خروجهم منها بقيادة النبي موسى بالشكل الذي ورد في الكتابات اليهودية، أو عن غزوهم العسكري لأرض كنعان بقيادة يوشع بن نون. فقد أثبتت الدراسات والتنقيبات الأثرية أن مدينة أريحا والمدن المجاورة لها التي غزاها يوشع في القرن 13 ق. م. كانت مهجورة من بداية القرن 15 حتى القرن 11 ق. م. وعلى هذا فلم يكن هناك ما يغزى وما يدمر. ولقد تعب رجال الحفريات طوال قرن ونصف قرن في شق باطن الأرض الفلسطينية، ولم يعثروا على أي ذكر لأي من مملكتي داود وسليمان. كما مشط علماء الآثار الإسرائيليون سيناء شبرا شبرا، طوال 15 عاما ( من 1967 حتى 1982 )، فلم يجدوا أي أثر قط يشير إلى تيه بني إسرائيل أربعين عاما في صحراء سيناء، مع أنهم عثروا على آثار تعود إلى العصر الحجري، على حد مقال مجلة التايم، وقد انتهى العلماء إلى افتراض أن هذه القصص مؤلفة لغرض اختراع ماض بطولي. حقيقة السبي البابلي على هذه الأرضية من المعلومات التي عرضتها مجلة "تايم"، ننتقل إلى الحادثة التوراتية في شأن ما يسمى تاريخيا "السبي البابلي"، وهو أقرب ما يكون إلى النفي أو الترحيل. وكان شائعا في حروب العصور القديمة. فكان المنتصر يغنم أملاك المهزوم ويصادر ما يحلو له من ممتلكاته، ويسوق إلى بلاده قسما من الشعب المنهزم أسرى أو منفيين ليستخدمهم في مرافق الحياة المختلفة. ولقد كان ذلك أمرا معترفا به حتى بين أطراف القوم الواحد أو الديانة الواحدة. فقد هاجم ملك إسرائيل - واسمه يهواش - جارته مملكة يهودا، وهدم أسوار أورشليم وغنم ما في الهيكل من ذهب وفضة، ونهب قصر الملك وعاد بقسم كبير من سكان أورشليم أسرى إلى السامرة. وتروي لنا التوراة أيضا أن ملك إسرائيل في الشمال قتل 120 ألف يهودي في يوم واحد في مملكة يهودا في الجنوب، وسبى 200 ألف نسمة وساقهم إلى السامرة. ونأتي بهذه الأمثلة للذكرى، بالرغم من أن الأرقام تفوق حدود التصور والمبالغة. وفي الفترة التاريخية ذاتها، نفى الملك الآشوري سنحاريب ( 705 - 681 ق. م. ) من جنوبي العراق إلى شماليه 208000 نسمة من الآراميين، عقابا لهم على اشتراكهم في الثورة الفاشلة التي قادها البابلي مردوخ بلادان العام 703 ق. م. وتعرضت مملكتا إسرائيل ( في الشمال ) ويهودا ( في الجنوب) للغزو وما يرافقه من مظاهر الأسر والدمار. وقد تحدثت التوراة عن غزوات ملوك آشور الثالثة: تغلات فلاسر ( 745 - 727 ق. م ) و سرجون الثاني ( 722 - 705 ق. م. ) و سنحاريب ، وغزوة الملك البابلي نبوخذ نصر ( 605 - 562 ق. م ) وكان الملك الآشوري سلما نصر قضى على مملكة إسرائيل واستولى على عاصمتها السامرة ( 721 ق. م. ) وأخذ من سكانها أسرى / ولقد تعددت إحصاءات اليهود الذين طالهم الأسر والنفي بتعدد المصادر، حتى بدت تلك الإحصاءات متضاربة ومتباينة قلة وكثرة. لهذا لجأ معظم المؤرخين إلى التعميم دون التحديد، فقالوا إن من طالهم الأسر والنفي إلى بابل يبلغون عدة آلاف. وفي حين قدر المؤرخ فيليب حتي عدد اليهود المنفيين بخمسين ألفا، تجمع معظم المراجع التاريخية الموثقة على أن السبي البابلي تم على ثلاث دفعات، وبلغ مجموع المنفيين فيها 4600 يهودي فقط ( 3023 نسمة في العام 597 ق. م.، و732 في العام 586، و745 في العام 581 ق. م. ). يضاف إلى ذلك أن السبي في العهدين الآشوري والبابلي لم يترك البلاد خرابا، فقد بقي في فلسطين مئات الألوف من السكان، وبخاصة في الأرياف التي لم يمسسها الغزو. وإذ نخص ما سمي السبي البابلي بالحديث، فلأنه يشغل مكانة خاصة في الفكر الصهيوني. وقد ارتبط هذا الحدث بالملك نبوخذ نصر، الذي اعتلى عرش بابل في العام 605 ق. م. وبنى "برج بابل وحدائقه المعلقة" التي تعتبر إحدى عجائب الدنيا السبع. وقد بسط هذا الملك الشاب سيطرته على سوريا. وحدث أن رفض "يهوياقيم" ملك يهودا دفع الدية لبابلي، فعاقبه نبوخذ نصر باحتلال أورشليم في العام 597 ق. م. ونصب ملكا جديدا على يهودا هو صدقيا بن جوايا ( 597 - 587 ق. م. ). وحينما رأى هذا تقدم القائد المصري خفرع نحو غزة وصور وصيدا، وتمرد على بابل، فجرد نبوخذ نصر حملة على أورشليم - وكان يقيم في بلدة ربلة قرب حمص في وسط سوريا - وحاصرها ثمانية عشر شهرا حتى استسلمت. وسيق صدقيا إلى ربلة ومنها إلى بابل، ومعه بعض زعماء المدينة وصناعها. أما أورشليم فقد هدمت أسوارها، ودمر هيكل سليمان، ونهبت خزائنه. هكذا انتهت مملكة يهودا في العام 586 ق. م. قضى إمبراطور الفرس كورش على الدولة البابلية، ودخل عاصمتها بابل العام 539 ق. م. وهناك لقي اليهود الذين سباهم نبوخذ نصر. وقد أراد كورش أن يوظف هذه الجالية لأغراضه في فلسطين، فشجعهم على العودة إليه ا، ووعدهم بأن يبني لهم بيوتا. فاستجاب فريق منهم لدعوته، وتخلف فريق آخر مفضلين البقاء في بابل، حيث عملوا واستقروا وأثروا. عودة المنفيين لقد عاد المنفيون إلى فلسطين وهم مختلفون، فكرا وثقافة، عن آبائهم وأجدادهم الذين سبوا من أورشليم إلى بابل - فقد وصفهم المؤرخ البريطاني هـ. ج. ويلز (في كتابه: معالم تاريخ الإنسانية - الجزء الثاني ) بأنهم "ذهبوا إلى بابل همجا وشعبا مخلطا لا رابطة وعي ذاتي بينهم، وعادوا من السبي ممدنين.. ذهبوا وليس لهم أدب مشترك معروف، وعادوا ومعهم القسم الأكبر من مادة التوراة ". فقد كانت بابل حافلة بالمكتبات والمخطوطات. ومن هذه الثروة الثقافية، استقوا معارف كثيرة، وأضافوا إليها موروثهم من القصص والأساطير عن ملوكهم وأنبيائهم. وكان أهم ما حملوه في عودتهم، التوراة التي أملى الكهنة والأحبار فصولها وهم في بابل، وبعد خروج النبي موسى بقرون عدة، إذ سجلت التوراة خروجه في العام 1491 ق. م. ووقع السبي والرجوع منه فيما بين 586 و539 ق. م. فكان كل ما كتبه الكهنة والأحبار مأخوذا من الآداب الكنعانية والبابلية والآشورية. وقد أثبتت الحفريات ذلك. ترى، هل سيواجه العراق مشكلة الاعتذار عما فعله نبوخذ نصر منذ خمسة وعشرين قرنا، حين غزا وسبى ودمر ؟!
|
|