بين النار والبحر

بين النار والبحر

صور تاريخية

غالباً ما نجد للأسطورة المتداولة على ألسنة الناس جذوراً واقعية, أضاف لها الرواة مع مرور الزمن, عناصر تشويق أبعدتها عن واقعيتها, فتناقلتها الأجيال وغلفتها التخيلات, موغلة بها في المستحيلات والأوهام. ويكون على الباحث المتمرِّس في التقصِّي ألا يستهين بما يصله من ركام إضافات وشطط رواة, بل أن يبحث عما في وسط ذلك من بذور وقائع بنى عليها هؤلاء تخيلاتهم وتفاسيرهم للغرائب التي لا يعرفون تعليلاً منطقيّاً لها.

الأساطير المنسوبة لمدينة (صور) اللبنانية قديمة قدم هذه المدينة. وقد وجد الكثير من هذه الأساطير منقوشاً على نقودها القديمة في العهد الروماني وما قبله من عهود, مما يثبت انتشارها بين الأهلين وانطباعها في معتقداتهم وثقافتهم التاريخية. وقد سجَّل الشاعر الإغريقي ـ المصري (ننُّوس) إحدى هذه الأساطير عند حديثه عن المدينة خلال زيارته لها في أوائل القرن الخامس للميلاد, فكتب في مجموعته (الديونيزياكا) يقول: (إن صور تقوم فوق صخرتين متحركتين في المياه أسمتهما الطبيعة صخرتي (الأمبروزيا) (أي طعام الآلهة). وعلى إحدى هاتين الصخرتين كانت تنمو زيتونة. وفوق الزيتونة كان يقيم نسر معمر بعمر الصخرة ذاتها. وكانت تنبعث من الزيتونة شعلة نار تطلق شرارات عجيبة, لكنها لا تحرق الزيتونة التي تلتفُّ عليها أفعى تآلفت مع النسر, فلا هي تسعى إليه ولا هو ينقضُّ عليها. وقد ألفتهما النار فكانت سلاماً لهما وللزيتونة معاً...).

يذكر الشاعر إنه نقل هذه الأسطورة عن رواية في معبد (ملكارت), المعبد الأقدم في المدينة. ونعرف نحن اليوم أن الشجرة والأفعى كانتا من مقدسات الكنعانيين القدماء, والنسر من مقدسات عدد كبير من الشعوب القديمة بدءاً من مصر, وحتى الطائر (زو) في أرض الرافدين, بينما النار التي لا تحرق فهي كانت, كما سنرى, من ظواهر الطبيعة في (صور) القديمة.

وكان المؤرخ الكنعاني الأقدم (سانخونياتن) قد سجل رواية عن صور ذكر فيها أن الأخوين (هبسورانيوس وأوزوس), أي (عليَّان والعزَّى) كانا أول من سكن في المنطقة. ابتكر الأول بناء الأكواخ بالخيزران والبردي, والثاني ابتكر صناعة الثياب من جلود الحيوانات. وقد اشتعلت نار مع رياح وعواصف, فدَّمرت المساكن وأحرقت الغابة. وتشاجر الأخَوان وافترقا, فأخذ أوزوس جذع شجرة جرده من أغصانه وغامر به في البحر, فكان أول من فعل ذلك, وقد أقام نصبين في صور, أحدهما للنار والآخر للريح. ولما مات هذان كرَّس أبناؤهما احتفالات سنوية لذكراهما.

ولا تزال أرض صور وفيَّة تحفظ معالم هذه الروايات التي يفترضها الغرباء عن المنطقة قصص خيال. فالتسمية اليونانية (هبسورانيوس) هي الترجمة لاسم (عليَّان) أو علو السماء. وهناك قرية قديمة فوق مرتفع في جوار صور باسم (بيت عليَّان), كما أن (أوزوس) ليس سوى (العزَّى) التي عرفها العرب في الجاهلية. وكانت المدينة الساحلية المفقودة إلى الجنوب من صور باسمها (أوزو). ولا تزال هناك قرية, في جوار الموقع المفترض لها, تدعى (العزَّية) نسبة لها. أما النصبان اللذان أقيما للنار وللريح فهما ما شاهدهما (هيرودت) اليوناني خلال زيارته لمعبد صور في القرن الخامس قبل الميلاد. كما يذكر أن أحدهما ان من الذهب الصافي والآخر من الزمرد. وكانا يلمعان في الظلمة ببريق غريب.

وقد حمل الصوريون اسم (العزَّى) معهم إلى شمال إفريقيا في القرن التاسع قبل الميلاد, فبنوا مدينة هناك أسموها (عوزا). ويبدو أن هذا الاسم كان من مقدسات صور القديمة, قبل أن يعرفه العرب في الجاهلية, وقبل أن ينقله اللبنانيون معهم إلى شمال إفريقيا, حيث هناك صحراء تحمل هذا الاسم السامي القديم في أرض ليبيا.

وقائع الطبيعة

وبالعودة إلى تحرك الصخرتين في الماء نفترض أن هذه الملاحظة ليست سوى تسجيل لذاكرة شعبية تاريخية, تحفظ حركة طبيعية في البحر كتلك الحركات التي تبرز خلالها جزر في البحر وتختفي أخرى. وهذه سجلها المؤرخون في البحر المتوسط في أزمنة قريبة نسبياً, يفيدنا التذكير بها خلال بحثنا عن مدن ساحلية نجهل مواقعها حتى اليوم.

في أواسط القرن الرابع عشر قبل الميلاد, تذكر إحدى رسائل تل العمارنة من ملك صور الى فرعون مصر ان مدينة اوغاريت على الشاطئ السوري فقد نصفها, والنصف الآخر احترق بالنار. وإلى تلك الفترة الزمنية يعزو الباحثون دمار حضارة كريت وإقفار الجزيرة وما حولها بفعل نشاط بركاني كبير حدث في البحر المتوسط, وكان سبباً في هجرة شعوب البحر إلى الشواطئ الآسيوية وتدميرها الحضارة الحثية والأوغاريتية واستقرار مجموعات منها في فلسطين. وقد أثبتت النبشيات الآثارية حصول هذه الكارثة, حيث اكتشف علماء الآثار اليونانيون آثار عمران في جزيرة (تيرا) في بحر (إيجيه) على عمق ثلاثين متراً من الرماد البركاني.

كما يسجل الجغرافي سترابو بعد هذه الحادثة بأكثر من ألف عام انفجاراً بركانياً بين جزيرة (تيرا) وجزيرة (تيريزيا) في مدخل بحر (إيجيه), فيذكر أن نار البركان بقيت مشتعلة مدة أربعة أيام, وبعد ذلك ظهرت جزيرة يبلغ محيطها اثني عشر (ستاداً) وكان الرودوسيون أول من صعد إليها. وقد أقاموا معبداً فوقها لإله البحر بوزيدون, وكان لديهم أسطول بحري مزدهر في المنطقة. ويذكر هذا العالم الجغرافي ذاته أنه خلال وجوده في الإسكندرية طغى البحر فأغرق طريقاً برية غدت تسلكها السفن بعد ذلك.

كما سجل خبر موجة مد بحري زلزالية حدثت خلال الحرب بين (تريفون) الأفامي و(ديمترويوس) الثاني, إلى الجنوب من مدينة صور فابتلعت الموجة الجيش الذي كان يسير على الطريق الساحلي. وبعد انحسارها تركت الجثث متناثرة على الشاطئ عدا تلك التي جرفتها معها. ويمكننا اليوم تعيين زمن هذه الحادثة سنة 143 قبل الميلاد وهو الزمن الذي غرقت فيه أجزاء كبيرة من مدينة صيدون, كما ذكرنا في دراسة سابقة.

وما يكشفه الباحثون اليوم من آثار غارقة في جوار مدينة الإسكندرية في مصر يعود إلى مثل هذه الملاحظات التي سجلها الجغرافي سترابو وأمثاله من رصد لطوارئ الطبيعة.

وهنا نلفت نظر الباحثين عن مدن السواحل التي غابت في البحر إلى أن اليابسة أيضاً كانت تحدث فيها انخسافات بمدن وقرى, فتغيب آثارها في باطن الأرض. فنحن نقرأ لطبيب كان يقيم في مصر هو عبداللطيف البغدادي في كتابه (الإفادة والاعتبار) أنه في سنة 598 هـ. (... حدثت زلزلة عظيمة اضطرب لها الناس... ولبثت مدة طويلة. وكانت حركتها كالغربلة, أو كخفق جناح الطائر, وانقضَّت على ثلاث رجفات قوية... وسمعنا أن الزلزلة وصلت إلى أخلاط وتخومها وإلى جزيرة قبرص, وأن البحر ارتطم وتموج وتشوهت مناظره فانفرق في مواضع وصارت فوقه كالأطواد, وعادت المراكب على الأرض وقذف سمكاً كثيراً على ساحله... وكذلك أكثر بلاد حوران غارت ولم يعرف لبلد منها موضع يقال فيه هذه القرية الفلانية. ويقال إن (عكة) سقط أكثرها و(صور) ثلثها و(عرقة) خسف بها وكذلك (صافيتا).وأما جبل لبنان فهو موضع يدخل الناس إليه بين جبلين يجمع منه الريباس (نبات طبي) فيقال إن الجـبلين انطبـقا على من بينـهما وكانت عـدتهم تناهز مائتي رجل. وقد أكـثر الناس في حديثها. وأقامت بعد ذلك أربعة أيام تحدث في النهار والليل).

وكان آخر زلزال كبير حدث لمدينة صور سجَّله عالم فرنسي في سنة 1837م. فقد ذكر الباحث (دي برتو) في مذكراته المنشورة سنة 1843م. (... إن صفد تدمرت تماماً, وصور كانت المدينة الساحلية التي دامت فيها حركة الزلزال المدة الأطول. وقال لنا سكان المدينة بعد أيام من الحدث إنهم شعروا خلال عدد من الدقائق باهتزاز قوي, بدا وكأن شبه الجزيرة كان يتهيأ للانفصال عن اليابسة والغرق في أعماق المياه. وأكّد صيادو السمك أنه منذ ذلك التاريخ طغى البحر على الجزء من الشاطئ الغربي للجزيرة).

ولم تكن حركة الزلزال العنيفة وحدها سبباً في غياب المدن الساحلية على الشواطئ الشرقية للبحر المتوسط. فهناك حركة الغوص البطيء للشاطئ والمثال الأبرز لهذا الغرض البطيء نجده اليوم في مدينة (البندقية) الإيطالية, حيث نقرأ أن هذه المدية آخذة بالهبوط التدريجي, حتى أن الطوابق السفلى في بعض مبانيها غدت مهجورة بعد أن غمرتها مياه البحر. وقد قدَّر أحد العلماء أن البحر ارتفع ما يقارب 16 قدماً في خليج (نابولي) منذ العهد الروماني وحتى اليوم. وقد وجدت حلقات لربط السفن في إحدى هذه الموانئ, على عمق ستة أقدام تحت سطح الماء, بينما هذه كانت بالتأكيد عالية عن سطح الماء.

ويذكر كتاب (حضارات غارقة) لسليم مرقس أن إحدى الدراسات قدرت ارتفاع سطح البحر قرب مدينة الإسكندرية بما يقارب مترين ونصف المتر. وكان العالم الفرنسي (بوادبارد) لاحظ ظاهرة الغرق البطيء للشاطئ في الثلاثينيات من القرن العشرين. وسجل ملاحظات صيادين ثلاثة معروفين من مدينة صور ذكروا له أن صخرتين كانتا قبل خمسين سنة تظهران في البحر عند حركة الجزر غدتا تبقيان ما يقارب متراً تحت سطح الماء في الحالة ذاتها. وهما إلى الجنوب من ميناء صور الجنوبية.

وهكذا نجد القرائن الأسطورية والتاريخية تلتقي معاً لتجيبنا عن سؤال مهم عن مصير مدينة (أوزو) الساحلية إلى الجنوب من مدينة صور.

أرض المياه

يرد ذكر مدينة (أوزو) في الرسالة رقم (155) من رسائل تل العمارنة التي تصفها على لسان (أبي ملكو) حاكم جزيرة صور بأنها (أرض المياه), وهي بعناية (بلتيا) أي البعلة التي نجد رمزها في بناء البركة الكبرى التي لا تزال عامرة من برك (رأس العين) وهي مثمنة الأضلاع, الرمز الكوكبي للعزى. وهذه الرسائل تعود إلى سنوات 1370 ق.م.

وبعد ذلك بما يزيد على مائة وخمسين عاماً, أي في نهاية القرن الثالث عشر قبل الميلاد يرد ذكرها في مفاخرة لكاتب فرعوني يصف زميلاً له بالجهل لأنه لا يعرف شكل مدينة (أوزو) وموقع نهر الليطاني. وعندما يذكر مدينة صور الجزيرة يقول: (يقولون إن هناك مدينة في البحر تدعى (صور الميناء) يأخذون الماء إليها بالزوارق. وهي فيها الأسماك أكثر من الرمال).

وهذه الملاحظة للكاتب, المتجاهل لأهمية صور الجزيرة بالنسبة لمدينة (أوزو), تجعلنا نعتبر أوزو الغنية بالمياه والسهول الخصبة حولها هي الأساس الذي انطلق منه اللبنانيون الفينيقيون لإنشاء مستعمرات ومراكز تجارية لهم حول المتوسط وخارجه على شواطئ إفريقيا, في النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد, أي بعد خروج الهكسوس من مصر. فهم أنشأوا (قادش) المطلة على الأطلسي سنة 1110 ق.م. و(عتيقة) في شمال إفريقيا سنة 1101 ق.م. كما يتفق علماء الآثار على هذا التاريخ, وهم ينسبونهما لمدينة صور.

أما القرائن المادية على النشاط البحري لهذه المدينة المختفية فنجدها خلال مجموعة كبيرة لمراسي السفن ملقاة على الرمال قرب حاجز صخري داخل البحر وعلى عمق يراوح عشرين متراً من المياه. وهي تبعد عن الشاطئ الرملي أكثر من مائتي متر. وهذا الموقع يبعد عن الميناء الجنوبي لجزيرة صور ما يقارب ستة كيلومترات, مما يجعله مستقلاً عنها.

وعند استقرائنا لهذه البقايا نفترض أنها كانت أدوات نشاط بحري كبير لمدينة عامرة ابتلعها البحر على دفعات. وللعلاقة الدينية والاقتصادية الكاملة بينها وبين صور الجزيرة كان المؤرخون يتحدثون عنها أحياناً تحت اسم صور ذاتها, كما اعتبرها الباحثون بمعظمهم (صور البرية) برغم بعدها عن الجزيرة التي كان سكانها ينقلون الماء والحطب منها, ويدفنون موتاهم في أرضها, كما يرد ذلك في رسائل (تل العمارنة).

يرد ذكرها باسم (حوزه) في جغرافية يشوع, على الشاطئ بين صور و(اكزيب), وذلك قبل نهاية الألف الثاني قبل الميلاد. وكذلك وردت في سجل حملات ستي الأول ورعمسيس الثاني في القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وذكرها سنحاريب الأشوري في أواخر القرن الثامن قبل الميلاد باسم (أوشو) كمدينة حصينة مع مدن الساحل وكانت تتبع للملك (لولي) الصيدوني كما يقول النص.

وفي أواسط القرن السابع قبل الميلاد ذكرتها سجلات (أشور بانيبال) مع وصف لها أنها مدينة على الشاطئ. وكان سكانها قد تمردوا على حكامهم ولم يدفعوا الضرائب السنوية المفروضة عليهم. وهو لم يذكر صور الجزيرة في حملته هذه, بينما كان ذكرها في حملته الثالثة, السابقة لها, كجزيرة حصينة. وكان أخضعها وأخذ رهائن من ملكها لضمان طاعته له وخضوعه لأوامره.

ولعل آخر وصف لها كمدينة حصينة مستقلة عن صور كان وصف سجلات أشور بانيبال. ويلفتنا هنا الوصف بأنها (مدينة على الشاطئ). وهي ولا شك كانت قريبة من مصدر المياه الذي حمل اسمها, حسب رسائل تل العمارنة, والأرض منبسطة حول هذا الموقع. ولا نجد مكاناً أنسب منه للنبوءات العبرية على مدينة صور, حيث نقرأ لدى حزقيال في القرن السادس قبل الميلاد قوله: (... أصيرك مدينة خربة كالمدن غير المسكونة حين أصعد عليك الغمر فتغشاك المياه الكثيرة... أصيرك أهوالاً ولا تكونين وتطلبين فلا توجدين بعد إلى الأبد يقول السيد الرب).

وكان حزقيال يتحدث عن حصار نبوخذ نصَّر لمدينة صور, لكنه لم يذكرها كجزيرة, بل كمدينة محاصرة على البر حين قوله: (يجعل مجانق على أسوارك ويهدم أبراجك بأدوات حربه. ولكثرة خيله يغطيك غبارها. من صوت الفرسان والعجلات والمركبات تتزلزل أسوارك. عند دخوله أبوابك, كما يُدخل مدينة مثغورة. بحوافر خيله يدوس كل شوارعك... وأصيِّرك كضخِّ الصخر فتكونين مبسطاً للشباك. لا تبنين بعد...).

فهذا الوصف لا يتفق مع وجود جزيرة داخل البحر تبعد عن البر أكثر من ستمائة وخمسين متراً, بل يجعلنا نعتبر مدلول تسمية صور كان اوسع من حصره بالجزيرة الصغيرة.

ونقرأ لزكريا آخر الأنبياء في القرن السادس أيضاً قوله: (... قد بنت صور حصناً لنفسها وكومَّت الفضة كالتراب والذهب كطين الأسواق. هو ذا السيد (الرب) يرثها, ويضرب في البحر قوتها وهي تؤكل بالنار). والفعل الذي يستعمله زكريا هنا هو بالعبرية (يرش) بمعنى (يرث), وليس التدمير والامتلاك. وهذا ذو دلالة هنا. كما في قوله (صور بنت حصنا) إشارة إلى اتساع مدلول التسمية (صور). والحصن هو الجزيرة التي عجز نبوخذ نصر عن فتحها, فحاصرها طوال ثلاثة عشر عاماً.

لغز النار

أما النار التي يذكرها زكريا مع النقمة الإلهية على مدينة صور,, فليست نار حرب وإنما هي, كما نفترض, نار من الطبيعة التي استعادت المدينة إلى البحر. وهي ما ورد ذكرها في الأساطير الأقدم للمدينة, أي النار التي لا تحرق شيئاً.

ونحن اكتشفنا اليوم نشاطاً حرارياً في حقل واسع تحت البحر في جوار صور. وهذا النشاط يتمثل بعدد كبير من آبار تتدفق منها مياه حارة, مشبعة بالكبريت, تقتل كل حياة حولها, فتغيب الأسماك والنباتات عنها. والحقل هو بعرض يزيد على ألف متر بموازاة الشاطئ تتسرب منه غازات تظهر بشكل فقاعات على سطح الماء, مما جعل الصيادين يطلقون اسم (بقبوق) على المنطقة. والآبار الكبريتية الحارة هذه تبدأ من عمق 35 متراً, وعلى بعد يقارب أربعة كيلومترات عن الشاطئ. ولم نستكشف طوال الحقل واتساعه داخل البحر, حيث لم يتجاوز (الغواص) محمد السارجي ورفاقه عمق خمسة وخمسين متراً فقط. وكان أحد هذه الينابيع الكبريتية ينبع على الشاطئ ويستفيد منه الأهلون للاستشفاء من الأمراض الجلدية في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر, كما يذكر ذلك الفرنسي (دي برتو). وكانت إشارته دليلنا لاستكشاف الحقل داخل البحر.

وهكذا نفترض أن النار الملازمة لتاريخ صور لم تكن سوى نار طبيعية من نوع نار (الحرار) التي يذكرها المؤرخون العرب في بلاد الحجاز. ويبدو أنها كانت ناشطة في المنطقة وعلى البر, ما دامت آثارها وظواهرها بارزة في البحر قرب الشاطئ. وهي ما يعطينا تفسيراً معقولاً لحدوث انخسافات أرضية على الشاطئ كتلك التي ذكرها المؤرخون في صيدا والتي كتبنا عنها في (يرموتا) الغارقة. وهو ما نفترضه حدث لمدينة (أوزو) في أواسط الألف الأول قبل الميلاد. وهو ما أصاب منطقة حوران, ذات الحرار, كما رأينا لدى عبداللطيف البغدادي عند ذكره ابتلاع الأرض لعدد من القرى فيها. وما يرجح لنا حدوث انخسافات أرضية هو وجود فوهات ينابيع متوقفة عن إعطاء المياه, مما يعني أن الانخساف أقفل مجراها فتحولت مياهها إلى فوهات جديدة.

آثار غامضة

كان الباحثون الأوربيون في القرن التاسع عشر قد رصدوا وجود جدار ضخم في البحر إلى الجنوب من مدينة صور. وقام الفرنسي (بوادبار) بدراسة أبعاد هذا الجدار وتصوير قسم منه في الثلاثينيات من القرن العشرين, وذلك بمساعدة الطيران الفرنسي وفريق من العلماء. وقدَّر هذا الباحث أن الجدار مبني ليكون كاسراً للموج لكن بعده عن الميناء واتجاهه الرأسي باتجاه الميناء لا يشجع على هذا الافتراض. فهو مبني بموازاة الشاطئ الشرقي بينما ميناء الجزيرة إلى الشمال منه. ورأس الجدار يبعد عن الزاوية الغربية للميناء مسافة (1950) متراً وعن الشاطئ الشرقي الموازي له (2200) متر. وطول الجدار الذي تم قياسه هو (390) متراً. وعرض البناء هو (30) متراً. ولاحظ الغواص أن الجدار يستمر بالامتداد إلى الجنوب إلى ما يزيد على (500) متر, وذلك وفق ملاحظة الصور المأخوذة من الطائرة. وحجارة البناء هي من الضخامة بحيث كان بعضها مربعاً بأضلاع (3x3) أمتار وسماكة (75) سنتم. وهكذا يبلغ وزن البعض منها بين (10 و12) طناً ويتراوح عمق المياه بين (9 و18) متراً. والمساحة الواسعة بين الجدار والشاطئ لا تزال دون دراسة.

وحيث كان هذه الباحث يقوم بدراسة الموانئ في صور افترض أن هذا المنشأة المهمة تخص الميناء الجنوبي, ولكننا اليوم نفترض أنها تخص مدينة (أوزو) (العزَّى) المختفية في البحر بعد أن ثبت لدينا غرق الشاطئ اللبناني ومنشآته. وهكذا يكون الجدار أحد أسوار المدينة الغارقة.

أما آثار المدينة فنفترض أنها تحت الرمال التي يحتجزها هذا الجدار تحت الماء, ويقتضي البحث عنها ميزانيات ضخمة لا قدرة لمؤسسة صغيرة على التعامل معها, بل هي تتطلب اهتمام هيئة دولية لكـشف لغز اخــتفائها في مياه الـشاطئ اللبناني...

 

يوسف الحوراني

 
 




قطعة مادة كيميائية متجمعة في حقل المياه الكبريتية





صُور التاريخية





ينبوع مياه كبريتية تحت أربعين متراً من السطح





مئات من المراسي الحجرية تشهد على النشاط البحري لمدينة (العزى) المختفية





المياه الكيميائية تقضي على كل أنواع الحياة في أعماق البحر





الغوص في جوار سور المدينة الفارق في البحر على بعد أكثر من كيلومترين من الشاطيء