الخليج العربي والاستقرار المراوغ أمين هويدي

الخليج العربي والاستقرار المراوغ

عنوان المقال يثير جدلا له أسبابه ودوافعه، سواء من ناحية الهوية أو من ناحية الواقع السياسي. فمنذ عهد آل بهلوي في إيران يتمسك الإيرانيون بأنه "الخليج الفارسي" إذ يعتبرون أنفسهم الدولة الإقليمية العظمى التي تقوم بدور "شرطي" الخليج الذي يؤمن المصالح الأمريكية في المنطقة بالوكالة Proxy، بينما تمسكنا نحن العرب أبا عن جد بأنه "الخليج العربي" فنحن نقع على قمته وعلى امتداد كل سواحل شاطئه الغربي حتى مضيق هرمز، الذي نتحكم فيه بطريقة مزدوجة من باب المندب - أو باب الدموع كما كان يسميه القراصنة القدامى - ومن قناة السويس في أقصى الشمال، ولم يكن الخلاف على التسمية أمرا بسيطا ولكنه تسبب كثيرا في أزمات حادة بين وقت وآخر، وهنا فضل بعض حكمائنا وحسما للنزاع أن يكتفوا بسميته "بالخليج" فلا هو عربي ولا هو فارسي ولكنه اسم فقط بلا ألقاب ولكنهم اكتشفوا بمرور الوقت أن تغيير الألقاب لم يعالج المشكلة حتى في ظل نظام "آيات الله"، الذين تمسكوا باستراتيجية "آل بهلوي" ولكن بمزيد من التطرف والمزايدة فاحتلوا الجزر الثلاث - أبوموسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى - تحت سمع وبصر الأساطيل الغربية التي تملأ الخليج والتي اكتفت بالمراقبة دون تدخل لمنعه كما حدث في عملية "عاصفة الصحراء"، ومعنى هذا أن الاحتلال الإيراني للجزر الثلاث لم يشكل نقطة ساخنة تدعو إلى التدخل، لأن النقطة الساخنة هي التي تمس مصالحهم وليس مصالح غيرهم.

هذا من ناحية الهوية، أما من ناحية الواقع السياسي فالأمور غير مستقرة فقد أدت الحرب العراقية - الإيرانية إلى تعقيدات كبرى، وتغير كامل في ميزان القوة الإقليمي ثم جاء العدوان العراقي الصارخ على الكويت في عملية غير مسبوقة، وطرد القوات المعتدية بعد عمليتي "درع الصحراء" و"عاصفة الصحراء" ليضيف مشاكل أخرى بعضها ظاهر على السطح والبعض الآخر يتفاعل تحت السطح، يجعل الاستقرار المنشود صعب المنال في حالة مراوغة من الصعب تحديد صورة نهايته حتى انقضاء السنوات الأولى من القرن 21، حسب تقديرنا.

الأمن القومي للخليج

وموضوعا الهوية والاستقرار يتعلقان تماما بالأمن القومي للمنطقة الذي يجب أن ننظر إليه من خلال الاهتمامات المتعددة لأصحاب المصالح:
- فلدينا أولا: أمن الخليج - بصفته ممرا دوليا للملاحة - وهذا أمر يهم التجارة العالمية وينظمه القانون الدولي والوجود العسكري الكافي لردع أي محاولات لتعطيل الملاحة، تلك المحاولات التي تعتبر خطا أحمر لا يجوز تجاوزه.

- ولدينا ثانيا: أمن دول الخليج التي تطل على شواطئه الشرقية والغربية ( دول مجلس التعاون الخليجي والعراق وهي دول عربية وإيران الفارسية ) اثنتان منها نظم ثورية هما إيران والعراق وباقي الدول نظم معتدلة، والنظم الثورية نظم عقائدية تريد فرض نوع خاص من العقائد - حتى على غيرها - وتؤمن بأنها أكثر فهما من غيرها لحركات التاريخ مما يجعل الحوار والتعامل معها عسيرا شاقا، فهي تؤمن بالتعامل مع اللونين الأبيض والأسود في السياسة مما يوجد تناقضات مستمرة لأن اللون الرمادي العربي الذي هو خليط من الأبيض والأسود هو السائد في التعامل، كما تؤمن بالأمن المطلق وليس الأمن المتبادل. والأمن المطلق لدولة هو عدم أمن بالنسبة للآخرين، وكذلك تؤمن باستخدام القوة في ممارسة الدبلوماسية إذا تعذر عليها تنفيذ أغراضها الكاملة، وأخطر ممارسات هذه النظم هو ميولها إلى تنفيذ مغامرات في السياسة الخارجية لنقل اهتمام الجماهير بعيدا عن مشاكلهم الداخلية التي يعانون منها.

- ولدينا ثالثا: أمن دول مجلس التعاون الخليجي باتفاقاته وآلياته، والتي لم نتمكن حتى الآن من تحقيق متطلبات الأمن الخاصة بها، والتي تحتاج إلى تنسيق كامل بين المتطلبات العالمية والإقليمية.

- ولدينا رابعا: الاهتمامات العربية بالأمن الخليجي، وقد ظهر ذلك في اشتراك القوات المصرية والسورية وغيرها في عمليات عاصفة الصحراء، لأن منطقة الخليج تشكل مع منطقة البحر الأحمر وما عليها من دول عربية كتلة استراتيجية واحدة فإذا كان الخليج هو منبع حقول البترول فإن منطقة خطوط مواصلاته الحاكمة هي في البحر الأحمر عبر مضيق هرمز وباب المندب وقناة السويس وتهديد المنابع يمكن أن يتم بطريقة أحسم في منطقة خطوط المواصلات الممتدة والشاسعة، كما حاولت إيران القيام به أثناء حربها مع العراق، وقد زادت أهمية هذا الارتباط بعد مد خط "التوب لاين" "Top Line" السعودي من المناطق الشرقية إلى ميناء على البحر الأحمر ومد خط أنابيب "الإيبسا" "I PSA" العراقي إلى ميناء المعجز على البحر الأحمر وجنوب ينبع بحوالي 50 كم، والمفروض أن يتم تنسيق ترتيبات الأمن من خلال الجامعة العربية أو من خلال دول إعلان دمشق الأمر الذي يحول دون تنفيذه صعوبات جمة.

وكما نرى فإن الاستقرار المرجو غير قائم على الطبيعة في مواجهة تعقيدات متشابكة لا بد من علاجها برغم صعوبتها لأن ترك الأمور يزيدها تعقيدا وصعوبة خاصة أن هناك اتفاقا متبادلا بين المصالح المتعددة على ضرورة سلامة حقول النفط وتأمين مواصلاته حتى يصل إلى أسواقه في الشرق الأوسط وأوربا، الأمر الذي يدعو إلى زيادة حجم ترسانات السلاح الإقليمية.. إلخ.

حساسية أمن الخليج هذه هي التي دعت إلى تطبيق مبدأ كارتر هCarter's Doctrine وبناء قوة الانتشار السريع Rapid Deployment Force -R.D.F التي سميت بعد ذلك بقيادة القوات المركزية، وذلك أثناء وجود نظام القطبية الثنائية في النظام العالمي السابق، كان المبدأ الاستراتيجي الذي تعمل على أساسه هذه القوات "هو الوصول أولا وقبل الآخرين إلى النقطة الساخنة، بغض النظر عن حجم القوات"، لأن هذا الوجود يمنع تدخل القوة العظمى الأخرى خوفا من المواجهة النووية، ويتم الردع على أساس مبدأ "عدم قبول التدمير المتبادل" لأن هذا المبدأ الخطير كان يحقق الردع المتبادل، ومعنى ذلك أنه لم يكن هناك داع للتمركز الكثيف في الأماكن المحتملة للأزمات ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والعدوان العراقي على الكويت ظهر أن هذا المبدأ أصبح غير واقعي إذ إن التوازن كان قد تغير بل اختل تماما عند حدوث العدوان العراقي لعدم وجود قوات كافية لردعه في مسرح العمليات مما اضطر إلى قبول فترة أربعة شهور كاملة للحشد من خارج المنطقة فيما سمي بعملية "درع الصحراء Desert Shield " قبل صدور الأوامر لطرد القوات المعتدية في عملية "عاصفة الصحراء.

وتغير المفهوم الاستراتيجي لمواجهة مثل هذه الثغرة التي حدثت لمواجهة العدوان العراقي في إطار الاستراتيجية الأمريكية الجديدة بالاحتواء المزدوج "Dual Cautainment " ضد كل من العراق وإيران،أصبح أساس عمل القوات هو حتمية الوجود على الأرض بقوات كافية لردع العدوان المحتمل أو لمواجهته في أيامه الأولى حتى يتم باقي الحشد من القواعد القريبة أو البعيدة من مسرح العمليات، "وقد حتم هذا التغيير عاملان هما: عدم توافر وسائل النقل للقوات من جانب، وعامل الوقت والمسافة من جانب آخر، وهذا يحتاج إلى بعض الإحصاءات التي تفسر ذلك:
- تحتاج الفرقة 182 المنقولة جوا إلى 3 أسابيع لنقلها إلى مسرح العمليات في الخليج فيما يحتاج نقل إحدى كتائبها إلى 48 ساعة.

- تحتاج أي فرقة لنقلها بحرا إلى 5 أسابيع تقطع سفن الشحن المسافة من موانيء الساحل الشرقي للولايات المتحدة إلى موانيء الخليج في 11 يوما إذا مرت من قناة السويس وإلى 19 يوما إذا دارت حول رأس الرجاء الصالح، يضاف إلى ذلك 6 أيام لازمة للشحن في الموانيء الأمريكية، 7 أيام تفريغ في موانيء الخليج مع اعتبار أنه سبق تجهيز وتشوين المواد والأحمال المراد نقلها من قبل.

- تحتاج فرقتان بعتادهما 32000 فرد إلى 2210 أطنان للإعاشة يوميا وهذه تحتاج إلى 100 طائرة سي - 130 في اليوم لأن حمولة الطائرة 20 طنا.

- مشكلة التموين بوقود الطائرات معقدة فالكمية اللازمة لتشغيل جناح طائرات ف - 12 لمدة 30 يوما هي 10 ملايين جالون، فإذا نقلت الكمية بناقلات النفط فإنها سوف تستهلك في تحركها وقودا أكثر مما تحمله علاوة على أنها تحتاج من 24 - 36 يوما لنقلها إلى مطاراتها الجديدة.

ومعنى ذلك أن هناك فراغا يجب ملؤه. كانت إيران تملأ هذا الفراغ من قبل ولذلك كانت تلعب دورا هائلا لحماية المصالح الأمريكية جنبا إلى جنب مع إسرائيل، مما يمكن أن نسميه "بالتعاون المزدوج" ولكن بعد أن تولى آيات الله الحكم في إيران والعدوان العراقي على الكويت في مغامرته المثيرة تحولت الاستراتيجية الأمريكية إلى استراتيجية "الاحتواء المزدوج". عند كل من التهديدين الإيراني والعراقي وبقيت إسرائيل - كما كانت من قبل - الوكيل الدائم الثابت في المنطقة للحفاظ على المصالح الأمريكية.

وتعتمد الولايات المتحدة والغرب عموما على عدة قواعد جوية للمساعدة في أي عمليات لحماية الممر المائي الخليجي ولردع أي عدوان:
1- في تركيا تعتمد مثلا على قاعدة فان
Van التي يمكن للمساعدة الجوية بطائرات ف - 16 تغطية المسافة حتى بحر قزوين والكويت بينما تغطي الطائرات ف - 15 حتى الحدود الغربية لأفغانستان وإيران ودول الخليج حتى البحرين.

كما تعتمد في تركيا على القاعدة الجوية إنسيرليك Incirlik التي يمكن للمساعدة الجوية بطائرات ف - 16 تغطية المسافة حتى غرب بحر قزوين والعراق حتى بغداد.

2- قاعدة الظهران في السعودية تغطي طائرات ف - 16 كل مضيق هرمز وأغلب إيران وتغطي طائرات ف - 15 جزءا من أفغانستان وباكستان وجزءا من بحر العرب وكل إيران وجنوب بحر قزوين والجزء الشرقي من تركيا.

3- قاعدة الكويت طائرات ف - 15 تغطي جزءا من دول جنوب روسيا الجديدة حتى البحر الأسود وأفغانستان وإيران.

4- قاعدة إسرائيل تغطي طائرات ف - 16 العراق وجزءا من السعودية وسوريا وتركيا، بينما تغطي طائرات ف - 15 النصف الغربي من إيران والجزء الشمالي من الخليج وكل المنطقة بين بحر قزوين والبحر الأسود.

أسئلة وقضايا

أردنا حتى الآن أن نوضح مدى تعقيدات القضية وشمولها وتشابكها، وبقيت عدة أسئلة هي في واقع الأمر قضايا معقدة تحتاج إلى بحث إذا سمحت الأحوال: ما هو الدور الذي سوف تلعبه إيران أو العراق في أمن الخليج ؟ ما هو الدور الذي يمكن أن يلعبه إعلان دمشق في ذلك؟، بل ما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه إسرائيل في المستقبل القريب بعد توقيع معاهدات الصلح معها؟، هل من المصلحة خروج العراق من الحصار الحالي - وهذا سيحدث ربما بعد وقت من توقيع معاهدات الصلح مع إسرائيل - وهو ضعيف ومجزأ؟، وهل هذا الوضع في صالح استقرار المنطقة وأمنها؟ هل يمكن لقوات درع الجزيرة أن تملأ الفراغ ومتى يمكن أن يتحقق ذلك ؟

 

أمين هويدي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات