منمنمات تاريخية.. صبيحة الأندلس سليمان مظهر

منمنمات تاريخية.. صبيحة الأندلس

جلست في سرحة طويلة تطل أمامها وقد أخذت بها رعشة باردة لم تدر كنهها.. ولكن إحساسها بأن هذا الجنين الذي يتحرك في أحشائها، والذي يمكن أن يغير مجرى حياتها.. جعلها تطيل التفكير فيما قد يحدث لو جاء الوليد أنثى. فهي تدرك جيدا أن كل هم الخليفة أن ينجب ولدا يكون وليا للعهد، ويزيح عنه الأرق من أن يتولى خلافة قرطبة بعده أخوه المغيرة. وإنها لتعلم أن الحظية في القصر يمكن أن تصبح زوجة للجالس على العرش إذا هي نجحت في أن تأتي له بولي للعهد، فإذا لم يعلنها زوجة فهي قد تصبح " أم ولد " تتميز بذلك اللقب عن كل جواري القصر. ويكفي أن يكون ولدها خليفة للمسلمين، وإن ذلك لحلم لم يكن من الممكن أن يراودها ذات يوم، إذ سيكون الابن الأول والأكبر للخليفة الذي لم تنجبه له زوجته. فهي لا تنسى أنها الجارية البشكنسية النافارية المسيحية التي لم تدخل الإسلام إلا بعد أن أصبحت إحدى الجواري الأسيرات في قصر الخليفة الأندلسي عبدالرحمن الناصر، الذي أعجبه جمالها وذكاؤها وفطنتها فأهداها لولده وولي عهده الأثير لديه.. الحكم المستنصر بالله.

ومرت بذاكرتها في لحظة تلك الصور المتتابعة التي عاشتها في قصر الزهراء منذ أصبحت ضمن حريم ولي العهد. وإنها لتذكر أن الحكم لم يكن يهتم أبدا بزيارة جناح الحريم، إذ كان طوال خلافة أبيه يخوض غمار حروب كثيرة يخضع بها شوكة الإفرنج، حتى استتب الأمن والسلام في الأندلس. وحتى بعد أن وضعت الحروب أوزارها شغله أبوه الخليفة الناصر بمشاركته في إدارة دفة الحكم، حتى جاء اليوم الذي قعد فيه الحكم بعد وفاة أبيه على سرير الملك وهو في الثامنة والأربعين، وقد ضعفت في نفسه شهوة الحكم والسيطرة، فاتجه إلى إرواء نفسه وعقله، وراح يقضي كل أوقاته في مكتبته الزاخرة بالكتب النادرة، حتى أصبحت أحب مكان إلى نفسه. هناك كان يجلس إلى أصفيائه العلماء والكتاب، يحاورهم ويسمع منهم ويقضي ساعات فراغه في القراءة بلذة وشغف، وبسعادة من يدرك قيمة العلم والاستزادة من منابعه، حتى لقد كان يسمح لكل من في القصر بالذهاب إلى المكتبة للقراءة والاطلاع، لا يستثني من ذلك حتى نساء البلاط وجواري القصر.

وإنها لتذكر جيدا ذلك اليوم الذي كانت تجلس فيه في خزانة الكتب وأمامها كتاب تقرأه، حين دخل الخليفة الحكم ومعه حاجبه جعفر المصحفي وقاضيه ابن السليم. ونهضت من مكانها في حرج شديد لتغادر القاعة لولا أن استوقفها الخليفة ليطلب منها مواصلة قراءتها واطلاعها، ودعاها لمشاركتهم جلستهم وهو يسألها عما تقرأ. وحين قدمت له الكتاب الذي كانت تقرأ فيه وهو في حقوق المرأة في الإسلام، هز القاضي رأسه في انبهار. تزايد الإعجاب بها في عيني الحكم الذي سألها عمن تكون، فأجابت: جارية من جواري مولاي. وقال مستغربا: أنت من نساء القصر.. فما اسمك؟ قالت: صبيحة. ودار الحكم بنظره حولها وهي واقفة مطرقة ثم قال: "أنت أحلى من الفجر.. وأندى من البكور.. أنت صبح".

أنجبت صبيحة للخليفة الحكم بدل الولد ولدين.. عبدالرحمن ثم هشام. وامتلأ الحكم بها شغفا وحبا حتى أضحت رفيقة أيامه في جناحه. وإذا كان لم يجعلها زوجة رسمية، فإنه سماها أميرة قرطبة وأم ولي العهد. وحتى حين مات عبدالرحمن ولي عهده وطمع المغيرة أن يعلنه الخليفة وليا لعهده - إذ كان الابن الثاني هشام لم يتعد طور الطفولة - فقد ظلت صبيحة تقف في وجه هذه الرغبة حتى انتصرت، وأعلن الخليفة ولده الثاني هشاما وليا للعهد، مثيرا بذلك غضب أخيه وأنصاره عليه وعلى امرأته ومحظيته صبيحة، حتى صاروا ينثرون حولها الشائعات في كل مكان من قرطبة. وازدادت تلك الشائعات حدة حتى راح الخليفة يحقق لها كل رغباتها وجعلها تشاركه في إدارة أمور البلاد، وعين لها كاتبا خاصا ومربيا لولدها ومشرفا على شؤونه وإدارة أمواله هو محمد بن أبي عامر، الفتى الذي لم يكن قد تجاوز العشرين، ولكنه عرف كيف يوثق صلته بالأميرة ويكتسب رضاها، حتى قربته إليها ووثقت به عقلا هاديا يرد عنها وعن ابنها نزوات الطامعين من أمثال المصحفي والمغيرة.

والحق أن الفتى كان من ذوي الهمم بعيد الآمال حتى وهو بعد في بداية حياته كاتبا على باب القصر يكتب الرسائل والعرائض والشكاوى. وكان غلمان القصر وفتياته يلجؤون إليه ليكتب لهم رسائلهم، حتى اشتهر أمره بينهم وذاع صيته حتى بلغ آذان صبيحة فأرسلت إليه تستكتبه بضع رسائل مما جعل الأمور تتصل بينه وبين القصر. وحين طلب الخليفة من حاجبه المصحفي أن يرشح للأميرة كاتبا لها كان محمد بن أبي عامر واحدا من المرشحين.. واستطاع أن يجتاز الاختبار لتختاره صبيحة كاتبا لها بعد أن تجلت أمامها مواهبه.

وأحس المصحفي بأن الفتى الذي رشحه كاتبا للأميرة أصبح عينا عليه، وشعر بأن أمورا كثيرة قد بدأت تنكشف أمامها مما قد يؤدي إلى أن يفقد مكانه.. ولو فقد هذا المكان فلن يكون هناك سوى هذا الفتى الذي تدلله صبيحة ولا تجد حرجا من أن يجلس إليها ساعات طوالا دون أن يخشى أن يفاجئه الخليفة، فقد أصبح موضع ثقته بعد أن اطمأن إلى حسن درايته بالأمر وإخلاصه له وللأميرة. فلم يكن بد للمصحفي من أن يحاول القضاء على منافسه قبل أن يستفحل أمره.

الأميرة وكاتبها

الأميرة وكاتبها والواقع أن صبيمن مشاعر الرضا والعطف على كاتبها ما جعل ألسنة كثيرة تتحدث عن هذا الأمر، الذي جعل الأميرة ترعى الفتى وتحيطه بأحاسيسها ومشاعرها الطيبة. وإذا كانت قد شعرت بميل إلى ذلك الشاب الذكي الذي لا يترك فرصة ليعبر فيها عن شكره للأميرة التي ترعاه وجعلته يرقى سلم المجد سريعا حتى صار ناظرا لخزينة الدولة، ثم مدت إليه يدا أخرى كريمة لتعاونه على ارتقاء درجة أخرى من درجات المجد فعين للنظر في أمانة دار السكة.

ولعل ابن أبي عامر قد أحس في أعماقه أن ثمة حبا قد بدأ ينشب في قلب الأميرة تجاهه، وأنها في كثير من الأحيان تكاد تصبح مسلوبة الإرادة مشبوبة العواطف وهما يتحدثان معا في شؤون المهام المكلف بأدائها وبخاصة فيما يتصل بأمور رعاية ولدها وتربيته. لكنه يدرك أن لا مطمع لديه للوصول إلى قلبها وهي زوجة الخليفة وأم ولده.

وقرر المصحفي حاجب القصر أن يضرب ضربته.. وأخذ يدبر الأمر بحيث يسقط الثقة بابن أبي عامر من أجل أن ينزاح عن الطريق. وراح يفكر في وسيلة يكيد بها لمنافسه دون أن يسفر عن وجهه، حتى يأمن غضب صبيحة وحتى لا يكسب عداوة جديدة لا يطيقها. ولم يجد مفرا من أن يدس إلى الخليفة من ينقل إليه ما يشيعه الناس من تبذير ابن أبي عامر واغترافه من أموال بيت المال دون حق وكان الرجل الذي اختاره من المقربين إلى الخليفة. وحين أفضى إليه بما يهمس به الشعب ضاق صدره بالغضب، وبعث إلى ابن أبي عامر من يستدعيه. وحين مثل بين يديه سأله:

- يتهمك الناس يا محمد كما يقول الحاجب بتبديد ما في عهدتك من مال..

كان ذلك القول صدمة لم تكن في حسبان ابن أبي عامر الذي قال: غدا يا مولاي يكون لديك كشف ت الحساب. وفي اليوم التالي ذهب الخليفة ومعه المصحفي إلى خزائن المال. وقدم كاتب صبيحة دفاترهن فإذا هي منسقة منمقة كأحسن ما تكون دفاتر الحسابات. ثم فتح خزائن المال. وجرد ما بها، فاربد وجه المصحفي إذأحنقه سلامة مال الدولة بالرغم من أنه كان متأكدا من أن العجز في المال كان موجودا ختى ليلة أمس. ولم يكن يدري أن ابن أبي عامر قد نجح من خلال صبيحة في أن يسوي خزائنه في ساعات

وشاية تتبعها وشاية

لم يكن للحاجب المصحفي أن يتحمل صعود نجم الفتى ابن أبي عامر الذي راح يتمتع برضا الخليفة من خلال امرأته، التي لم تكتف بما نال كاتبها بل عملت جاهدة على أن تقربه من الخليفة بدعوته ليشاركهما في أوقات الفراغ. فكان الشاب الجذاب يقبل على الحكم يجاذبه أطراف الحديث في لباقة، حتى لم يعد الخليفة يستغنى عن وجوده. وأدرك المصحفي أن رعاية الأميرة لابن أبي عامر هي العقبة الكأداء التي تتحطم عليها الدسائس التي كان يغذيها الحاجب بنفسه من وراء ستار. ففكر في أن أقرب السبل إلى تحطيم ذلك الفتى هو في تجريح عطف الأميرة عولجأ المصحفي إلى تنفيذ ذلك بأن راح يوحي إلى أبواقه بأن تذيع في البلاد وجود علاقة شائنة بين صبيحة وكاتبها.. وكان يأمل في أن إثارة مثل هذه الأحاديث وانتشارها يمكن أن تضع حدا لعلاقة الأميرة بالفتى، حين تدرك أن مثل هذا اللغط قد يحول قلب الخليفة عنها ويزول معه رضاه عن كاتبها.

وكان هذا هو الذي حدث بالفعل. فقد راحت قرطبة كلها تتحدث بحديث الحب الحرام. واندس رجال المصحفي في المجالس والمنتديات يوسوسون في صدور الناس بحديث الإفك. وحينما اختمر الأمر ليحقق أهداف المصحفي، لجأ إلى الوسيلة التي هداه تفكيره إليها ليوصل نبأ انتشار هذه الشائعات إلى صبيحة دون أن يظهر هو في الصورة. واستطاع أن يصل إلى وصيفة الأميرة  ليهمس في أذنها ببعض ما تردده الشائعات حتى تحرص على إقناع أميرتها بضرورة وضع حد لهذا الذي يقال. وملأت الحيرة قلب الوصيفة ولم تدر كيف تبلغ أميرتها بما انتشر من شائعات في جميع أنحاء قرطبة. وحين جاءت الفرصة والأميرة تسألها عن سر حيرتها وشرودها واضطرابها، اضطرت الوصيفة أن تفضي إلى صبيحة بأمر أحاديث الإفك المفتراة. ولم تستطع صبيحة أن تخفي مظاهر الاضطراب الذي شملها، ولم تجد إلا أن تستسلم للبكاء حين أدركت أن مثل هذه الشائعات يمكن أن تصل إلى الخليفة فيكون بعد ذلك ما يكون.

كانت عيون المصحفي الفاحصة تتابع صبيحة منذ ذلك اليوم، وهو يشهد ما يملؤها من حيرة وقلق لم تكن تبديه لأحد، ولكنه استطاع أن يلاحظ أنها بدأت تتحرج كثيرا في وجود ابن أبي عامر وتجتهد في الابتعاد عنه قدر الإمكان كانت تلك هي البداية التي أراد المصحفي أن يستغلها، فانتهز فرصة لقائه بالأميرة حول بعض شؤون الدولة التي كانت تشارك فيها، فراح يسائلها عن سر الحيرة التي تبدو عليها وذلك القلق الذي لا يغيب عن العين. ولشدة إحساسها بالضيق دمعت عيناها أمام المصحفي الذي راح يستدرجها لتعبر عما بأعماقها من شجون.. ولمح أمامها بأنه يتصور أن ما يثيرها هو تلك الشائعات التي راحت تنتشر في قرطبة، وأضاف قائلا:

- إذا أردت نصيحتي.. فلتبعدي كاتبك عن قرطبة إلى حين. وليكن ذلك غدا قبل أن يستفحل الأمر..

قالت صبيحة وقد فتحت عينيها في دهشة:
- كيف؟ إن في إبعاده الآن اعترافا بأنه ارتكب ما يستحق الإبعاد..

قال المصحفي وهو يداري خبثه وإحساسه بالانتصار:
- إنما أحرص على صحة مولاي.. وتكون أمامنا الفرصة لخنق الشائعات وكتم همسات الناس قبل أن تصل إلى الخليفة

بيعة ناقصة

حقق المصحفي مؤامرته.. ورقي ابن أبي عامر ليكون قاضيا وحاكما على أشبيلية.. وأبعد عن مكانه في قصر الخلافة.. وتمهد السبيل أمام المصحفي ليصبح صاحب الكلمة الأولى في قرطبة من جديد

غير أن الأمر لم يسر طويلا على هواه. فلم تكد تمضي فترة قصيرة حتى ازدادت العلة أن تئول ولاية العهد إلى أخيه النغيرة الذي سيفضله الأعيان والأشراف خلفا له دون ولده الصغير هشام. وخوفا على مصير الخلافة من بعده وانتقالها إلى أخيه الذي يعرف أطماعه. فإن صبيحة - وكان الخليفة قد أعلنها ملكة على قرطبة، تخفيفا عن أحزانها بعد وفاة ولدها الأكبر عبدالرحمن - استطاعت أن تقنع الحكم بأن يعلن البيعة لولده الأصغر هشام، وأن يأخذ التوقيع على هذه البيعة من الأعيان والأشراف والأمراء. وقالت صبيحة للخليفة إنهم سيقبلون التوقيع حرجا منه ولن يعصوه وهو خليفتهم. وحين أظهر الخليفة تخوفه من ألا يوقع البيعة الأمراء والحكام في إفريقيا ومراكش وبقية الأندلس، قالت له صبيحة:

- نسخ الإقرار يوقعونها.. لو وجدوا من يجذبهم ويقنعهم يا مولاي..

وتساءل الحكم:
- ومن الذي يمكن أن يعتمد عليه، بينما لا أستطيع أن أثق في المصحفي الذي يميل للمغيرة؟
قالت صبيحة مشجعة:
- والله ما كان لذلك سوى محمد بن أبي عامر.. فهو خير من يقف لى جوارك ويرعى ولي عهدك.. ولو صار وزير القصر يا مولاي..
وقال الحكم مستبشرا
- هو ما تقولين.. اكتبي إليه يشد إلينا الرحال.
عندما عاد محمد بن أبي عامر إلى قرطبة وتولى وزارة القصر، سلمته صبيحة التي تثق فيه إدارة أملاك حبيبها الصغير هشام، ثم عملت على إقامته على بيت المال الذي كان يقوم عليه المصحفي.

في ذلك الوقت كان الخليفة الحكم قد قضى نحبه بعد أن استطاع أن يأخذ البيعة لولي عهده هشام،بمساندة كبيرة من ابن أبي عامر، الذي كان يدرك الكثير من ألاعيب المصحفي ووقوفه إلى جانب المغيرة. ولم يكن كثيرا على ابن أبي عامر وقد احتل مكانه أن يقضي بنفسه على المغيرة ويقتله، حتى يخلص أمر الوصاية على الخليفة الصغير المؤيد لأمه صبيحة.

وإذا كانت صبيحة تحس أنه لا يزال سندها في رعاية الخليفة الصغير، فقد أتاحت لقلبها أن يظهر ما كانت تخفيه من قبل. ولم يعد هناك ما يمنعها من أن تبدي تعلقها بالفتى الذي ظلت تسانده منذ كان كاتبا لها، حتى أصبح الآن صاحب اليد الطولى في قرطبة وفي قصر الزهراء.

أما هو.. فبالرغم من أن أميرة الأندلس قد ساندته حتى بلغ ما صار إليه، فإنه كان حريصا على ألا يقع في حبائل غرامها، فكان يبتعد بقدر الإمكان عن الانفراد بها، كما راح يشغل نفسه بالمعارك التي رفعت من قيمته في البلاد وهو يخوضها ضد الفرنجة وضد المتمردين من الصقالبة وأنصار المغيرة والمصحفي.

ثم كان ذلك اليوم الذي عاد فيه منتصرا من إحدى معاركه مع الفرنجة، واستقبلته البلاد استقبال الفاتحين. وانطلق إلى قصر الزهراء في موكب النصر حيث كان رجال البلاط والخليفة المؤيد والوصية في استقباله.

وقالت صبيحة:
السبب في هذا النصر هو قيادتك الحكيمة في الحرب، كما هي في السلم. ووالله إن المصحفي ليغلبه الحقد عليك فلا يستطيع السكوت عنك. ولن يزال يضمر ذلك الحقد حتى ينتصر عليك.

قال المنصور ابن أبي عامر ضجرا:
والله لست أدري إلى متى هذا التناحر والشقاق؟ إلى متى يا رب إلى متى؟.

قالت صبيحة في بطء وهي تطيل النظر إليه:
إلى أن يتم المؤامرة.. ويجعلني أتخلص منك ومن قائد الجيوش غالب.. أبي أسماء..!

أسماء..!؟

قالت صبيحة وهي تتظاهر بالبساطة:

قل لي.. أحقا ما يقولون؟ إنك خطبت أسماء بنت غالب؟

واضطرب ابن أبي عامر، ثم تدارك نفسه بسرعة وثبات:

والله لقد كنت انتظر المناسبة لأستأذنك فيها يا مولاتي. شعرت أن المصحفي يدبر ليفرق بيننا وبين غالب قائد الجيوش.. فقلت أغلبه بأسماء..؟

قالت صبيحة في شبه عتاب:

تغلبه بأسماء.. وتغلبني بها يا منصور؟

وأجاب في ثبات:

حاشا لله يا مولاتي.. بل أغلب ألسنة السوء التي تلفظ بالشائعات.. على

الملكة والمنصور.!

هزت صبيحة رأسها في ابتسامة حائرة:

إذن.. تريد أن تهجرنا يا ابن أبي عامر

قال المنصو ر:

ما يجرؤ المنصور على ذلك

أبدا.. لكن..كوني يا مولاتي عونا له ولنفسك، على أن تخرسي الألسنة إلى الأبد. وليتم كل شيء برضاك وبركتك أمام كل الناس..! وكانت صبيحة أقدر على مغالبة نفسها وكبح جماحقلبها الذي كان قد تعلق طويلا بابن أبي عامر. وأظهرت من النبل والشجاعة ما جعلها تشرف بنفسها على حفل زفافه إلى أسماء، وتدفع على نفقتها كل تكاليف العرس وملابس العروس، ثم توقع بيدها على عقد القران..!

أما ابن أبي عامر فلم يغفل قط عن أمر المصحفي. وجاءت فرصته حين أصبح الأمر بيده وكلفته صبيحة بضبط أموال خزانة الدولة. وكان لا بد أن ينكشف أمر التسيب في بيت المال الذي جعله المصحفي نهبا له ولأبنائه ورجاله. وطالب ابن أبي عامر بمساندة من الوصية بعقد مجلس لمحاكمة الحاجب المصحفي.

وقبل بدء المحاكمة أسقط المصحفي من الحجابة وأبعد أبناؤه ودعي أعداؤهم للشهادة. وحكم المجلس بعزل المصحفي ومصادرة أملاكه وسجنه وطرد أقاربه وأولاده من مناصب الدولة. وخلا بذلك مركز حاجب الدولة ليحتله محمد ابن أبي عامر تؤيده أم الخليفة المؤيد.

صاحب الكلمة الأولى

منذ ذلك الوقت أصبح ابن أبي عامر صاحب الكلمة الأولى وازداد سلطانه في القصر حتى أصبح القوة المتصرفة في الدولة الأندلسية كلها، وسمى نفسه الملك المنصور.

ولكن.. أين صبيحة وولدها الخليفة المؤيد من كل ذلك؟

الحقيقة أن صبيحة قد أيدت ابن أبي عامر طويلا.. عاونته لأنها أحبته وحسبته يهواها ويقف إلى جوارها، وهي في حاجة إلى مساندته في مواجهة المتربصين بها وبابنها. ولكنها لم تكن تدري أن ذلك الذي فتحت له قلبها سيصبح ذات يوم سجانها داخل قصر الزهراء. والواقع أن المنصور وقد بات سيد البلاد الفعلي كان عرف جيدا ما تحتاج إليه الأندلس من الإصلاح.

وكان يدرك أنه لن يستطيع أمرا إلا إذا تركت له الأمور يصرفها دون أن يعترضه أو يأخذ السبيل عليه حاسد. وأراد ألا يدع للوصية أن تتدخل في سير الأمور، ولا للخليفة الذي بدأ يشب عن الطوق أن يكون له وجود في سير الحكم. ولكي ينجح في خطته ويمكن لنفسه من مواجهة المؤامرات بدأ في تغيير مقر الحكم بأن أنشأ على مقربة من قرطبة مدينة قائمة بنفسها للحكومة ومرافق الدولة أسماها "الزاهرة". وبدأ الناس وأصحاب المصالح يتوافدون على المدينة الجديدة. وعمل المنصور على إقناع صبيحة بأن تعزل ولدها في القصر حتي يتم تدريبه وتوجيهه إلى شؤون الخلافة والحكم.

وحين بدأ المنصور يمارس كل الأمور في مدينة حكمه الجديدة مبتعدا عن قصر الزهراء والوصية على الخليفة، اضطرت إلى أن ترسل إليه من يدعوه إلى قرطبة حيث دار حوار المواجهة الذي كان لابد منه.

صبيحة: ماذا يشغلك عنا يا منصور؟ وما كان شيء يشغلك من قبل عن صبيحة؟ أم نسيت عهد الإخلاص والوفاء؟

المنصور: مازلت عند عهدي. وكل ما أبذل هو من أجل صبيحة ودعما لحكم ولدها.. ولكن أعباء الحكم لا تترك لي فرصة للزيارة أو المسامرة.

صبيحة: لعلها تدرك أكثر.. أن الرجال إذا بلغوا قمة السلطة.. ملوا من كان سببا في بلوغهم النفوذ والسلطان.

المنصور: تتيهين على المنصور؟ ولولاه

ما بقي ملكك وما استقرت الخلافة في بيت ولدك؟ ولقضت الدسائس والمؤامرات على حكم العرب والمسلمين في الأندلس..

صبيحة: أنسيت أنني من جعلك حيث أنت؟

المنصور: ما كنت لأنكر الفضل عن أهله يا سيدتي.. وما تنكرين أني توليت الأندلس مفككة العرى موبوءة بالدسائس.. فجعلت منها دولة موحدة ذات جيش لا يدين بالولاء إلا للخليفة. انظري حولك يا سيدتي ترين قرطبة وما فيها من عز ورخاء لم يكن ليتم لولا المنصور.

لم يكن أمام صبيحة أن تفعل أي شيء وقد أصبح كل الأمر في يد المنصور. وحتى الخليفة الصغير المؤيد حين حاولت أن تستحثه ليخرج لشعبه الذي سيؤيده لتقواه وصلاته، أدار لها كتفيه وهو يمضي ويقول: أين هو شعبي؟ ألم تحبسوني عنه وتحرموني منه؟

لم يعد بد أمام صبيحة من أن تستسلم للأمر الواقع.. وتدع الأمور تجرى بينما المنصور يواصل الجهاد والغزوات لسنوات طويلة في الداخل والخارج.. وظلت هي قابعة في قصرها.. حتى جاءها ذات يوم من يدعوها إلى لقاء المنصور الذي يحتضر ويتمنى أن يراها قبل أن يموت.. وقفزت صبيحة في اضطراب وانطلقت إلى قصر الزاهرة، وقد نسيت إساءاته وما جرعها من كؤوس المرارة.

ووقفت صبيحة تنظر إليه في أسى وهو يحتضر.. بينما أفسحت زوجته أسماء لها مكانا بجوار الفراش وهي تدعوها أن تستغفر له.

ومدت صبيحة يدا مرتعشة إلى اليد الباردة الساكنة وهي تقول:

رحمتك يا رب العالمين.. اعف عنه واغفر له.. فقد والله عفوت وغفرت..

خورجت من بين شفتي المحتضر همسات قليلة في ضعف وإعياء: اغفري لي يا صبيحة. لم أكن إلا بشرا.. وما صنعت ما صنعت إلا من أجلك.. من أجل خير الأندلس.

وسقطت كفيه من يدها.. وندت عنها، زفرة طويلة ملتاعة وهي تقول: مات المنصور.. مات.. ويل للأندلس من بعدك يا منصور

 

سليمان مظهر 

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات