أدباء لأول وآخر مرّة محمود قاسم

         فجأة يظهر أديب لأول مرة. يقدم كتابا واحداً ربما فاز بإحدى الجوائز ولكن جذوه الإبداع بداخله ما تلبث أن تنطفئ. ترى ما سر هذه الظاهرة وما الذي يساعد على انتشارها؟ .ترى كيف يجد أي كاتب شاب فرصته الأولى لنشر كتابه الأول في أي مكان في العالم. لا شك أن الكاتب الشاب، أو فلنقل الكاتب الذي ينشر لأول مرة، يتوجه إلى الناشر على استحياء، حاملاً مسودة كتابه الجديد. ويتركه بين يدي الموظف المسئول. وعليه أن يعود بعد فترة قصيرة من الوقت كي يعرف النتيجة، وكأنه تلميذ يتطلع إلى ما يسفر عنه امتحان صعب!

السؤال المطروح هو كيف يتخطى الكاتب تلك العقبة الأولى التي تعترضه، وهو يقدم عمله الأول؟.

ليست هناك إجابات محددة عن هذا السؤال. فالأمر يختلف من ناشر لآخر، ومن دولة لدولة، ومن بيئة ثقافية لأخرى. وبينما تتفاوت مثل هذه التجارب في عالمنا العربي، لدرجة تجعل مصطلح " الكاتب الشاب " قد تصل إلى كاتب نشر العديد من الإبداعات واقترب من، أو تجاوز الخمسين، فإن الأمر يختلف تماماً بالنسبة لبلاد تهتم بصناعة الكتاب، والإبداع، وفيها يصبح دور الناشر هو اكتشاف المواهب الجديدة. ثم المراهنة عليها.

ظاهرة الرواية الأولى

والمتتبع لحركة نشر الكتب في العالم، يلاحظ أن هناك ظاهرة سنوية تؤكد عليها الصحف، والمجلات الأوربية تعرف باسم " الرواية الأولى ". حيث تتم متابعة الإصدارات الجديدة لأدباء يكتبون لأول مرة. وغالباً ما تكون هذه الظاهرة لافتة للنظر، ومثيرة للاهتمام، لعدة أسباب، منها أن الناس تميل دائما إلى معرفة الجديد من الأخبار، والتطلع إلى الإبداع الجديد، وعدم التوجس منه، والوقوف إلى جانبه، ومساندته، فلا شك أن المبدع الجديد يحمل في عمله الإبداعي دماءَ نقية، متدفقة، ساخنة. ورؤية قد تكون مخالفة لرؤية المخضرمين، أو الأكثر خبرة.

وربما لهذا السبب، وإشباعاً لفضول القراء، فإن دور النشر تراهن كل عام على تقديم أعمال جديدة، لأدباء يبدعون للمرة الأولى. وقد اخترنا أن نرصد هذه الظاهرة المهمة في فرنسا خلال السنوات العشر الأخيرة لعدة أسباب منها أن فرنسا هي البلد الأكثر اهتماما بنشر الكتاب في أوربا، وخاصة نشر الكتب التي يؤلفها مبدعون جدد. وسوف نرى أنه طوال السنوات العشر الأخيرة (1981- 1995) لم يقل الاهتمام بالإبداع المنشور للكاتب الجديد بل تزايدت أهميته سنة وراء أخرى، وسنلاحظ أن هناك مجموعة من السمات التي تتسم بها هذه الظاهرة:

فالناشر يلعب الدور الأول في اختيار الكتاب الجديدة بمعنى أنه يصبح هو المرشح الذي يمر من خلاله الإبداع الجديد. ولذا فإن هناك منافسة واضحة بين دور النشر المختلفة لتقديم أدباء ينشرون لأول مرة، لهم أسماء لم يألفها القارئ، وعلى كل دار نشر أن تراهن بأن أصحاب هذه الأسماء الجديدة يتمتعون بمواهب لا تقل جودة عن الأدباء الكبار الذين تتعامل معهم.

ويعني هذا أن لكل دار نشر مجموعة من الأسماء الأدبية التي تتعامل معها بشكل منتظم. وأن أي كاتب نجد اسمه دائما مقروناً باسم الناشر الذي يتعامل معه. كأن تقول إن جان بول سارتر يتعامل مع جاليار. أو بالضبط كما ينطقونها (جان بول سارتر- جاليار)، وهكذا.

ويلعب هذا الاختيار دوراً حساساً للغاية. فالناشر يراهن وعيناه مركزتان على أشياء عديدة. ليس منها فقط ارتفاع أرقام التوزيع. بل والمراهنة بالاسم الجديد فيما يسمى بسوق الجوائز الأدبية. حيث من المعروف أن فوز كتاب بإحدى الجوائز الأدبية- وما أكثرها- كفيل بأن يرفع من أرقام المبيعات للكتاب نفسه، حتى لو كان اسم كاتبه جديداً.

أي أن الناشر هو الذي يلعب دور المرشح لانتقاء الإبداع الجديد. ويعتبر الناشر بمثابة منفذ جيد لمثل هذه الظاهرة. ولدى كل مؤسسة نشر إدارة خاصة لاكتشاف الموهوبين الجدد. وإذا كانت بعض دور النشر تكسب احترام القراء بقدر ما لديها من أدباء معروفين، يتعاملون معها. فإن دور النشر تفخر أيضاً بقدرتها على اكتشاف المبدعين الجدد.

ويتزايد عدد الأدباء الذين يتم اكتشافهم سنويا بشكل ملحوظ، مما يؤكد مدى تعاظم هذه الظاهرة. ففي عام 1981 كان عدد الأدباء الجدد الذين يبدعون لأول مرة لا يزيد على الثمانية عشر روائياً. ولكن في عام 1987. قدم الناشرون خمسة وخمسين كاتباً جديداً، فاز منهم خمسة أدباء بأفضل الجوائز الأدبية. وفي العام التالي ارتفع الرقم قليلا ليصل بلى سبعة وخمسين كاتبا.

أعمار مختلفة وأجناس مختلفة

وأهم ما في هذه الظاهرة أن الكتّاب الجدد، لا ينتمون فقط إلى سن الشباب. وبالتالي لا يمكن أن نقول إن أدباء الروايات الأولى هم من الشباب. بل إن أعمارهم قد تتراوح بين السادسة عشرة والثامنة والخمسين حسبما حدث في عام 1987. هم جميعهم يكتبون روايات لأول مرة في حياتهم. وقد لا يعني هذا أنهم كتاب جدد تماما، فبعضهم قد مارس الكتابة في الصحافة، أو في الكتابات غير الإبداعية.

ولذا فإن مستويات هذه الروايات تختلف، تبعاً لتجربة كل كاتب وموهبته وعطائه، ولا يشترط بالطبع أن يكون الكاتب الذي تجاوز الخمسين أكثر إبداعية من مثيله الذي لم يقترب بعد من العشرين. فكم أفسد أسلوب الكتابة الصحفي الكثير من الإبداع، ولذا فإن مثل هذه الروايات الأولى قد تكون التجربة الوحيدة من نوعها. أو لعلها "بيضة الديك " بينما كتاب آخرون يستمرون في العطاء لأمد طويل.

وإذا كانت هذه الظاهرة غير مقصورة على سن معينة، فإنها أيضاً لا تنحصر في نوع، ولا جنس خاص. بمعنى أن الأدباء الجدد يكونون غالبا من الجنسين، ومن الفرنسيين الذين يعيشون في فرنسا أو خارجها، وأيضا من المتحدثين بالفرنسية الذين ينشرون لأول مرة سوء داخل فرنسا أو خارجها. وأحياناً قليلة يدخل في السباق أدباء من جنسيات أخرى تتم ترجمة أعمالهم فور صدورها بلغاتها الأصلية إلى اللغة الفرنسية.

ولا شك أن هذه السمة تعطي ثراء للتجربة، وتنوعاً وأهمية. وتعكس مدى حرص الناشر على تقديم الإبداع الجيد الجديد، أياً كان نوعه، أو الوطن الذي يقيم فيه.

" فالرواية الأولى" بمثابة ظاهرة يتم الرهان عليها، وتحولها الصحافة الأدبية في الصحف والمجلات إلى مادة مثيرة، تستحق المتابعة، ويبدأ التركيز على هذه الظاهرة في بداية " موسم العودة " أي مع نهاية شهر سبتمبر وبداية أكتوبر ونوفمبر وهي الفترة التي تعقب انتهاء الإجازات، والتي تسبق إعلان الجوائز الأدبية، وهي فترة معروفة بخصوبتها لدى القارئ الفرنسي، خصوبة المتابعة والقراءة، والعودة من الاسترخاء إلى العمل، باعتبار أن القراءة نوع من العمل الجاد، بالإضافة إلى التسلية الجذابة، وليست دافعاً لقتل الفراغ مثلما يرى البعض في بلادنا "مسألة القراءة ".

ولو افترضنا أن متوسط عدد الأدباء الذين ظهروا سنويا في السنوات الأخيرة يبلغ خمسة وأربعين كاتباً، فإن أربعمائة وخمسين مبدعا ظهروا في السنوات العشر الأخيرة، ويدور السؤال عن مصير هؤلاء المبدعين: أين ذهبوا، وهل استمروا؟

للعجب، فإن أصحاب هذه الأسماء قد اختفى الكثيرون منهم وأصبحوا بذلك مجرد ظاهرة وقتية، تم الاحتفاء بهم عند ظهورهم، وتوسم الكثيرون فيهم أنهم أمل الإبداع في المستقبل ولكن الزمن دفعهم للتساقط الواحد وراء الآخر، ولم يبق منهم سوى عدد قليل للغاية. وهذا لا يعني أنهم كانوا أقل موهبة، أو أن الظاهرة كاذبة، بل قد يعني هذا أن جذوه الإبداع قد لا تشتعل لدى الكثير من الناس سوى مرة واحدة.

وليس هناك تفسير محدد لهذه الظاهرة. قد يكون النجاح دافعاً للكاتب أن يبدع من جديد، ولكن حتى بعض الذين نجحوا في المرة الأولى لم يكرروا التجربة، والأرجح كما ذكرنا أن الأمر يتعلق بجذوه الإبداع. وإذا أشرنا أن الكثير من هذه الروايات بمثابة تجربة ذاتية راح الكاتب يدونها في شكل إبداعي، فلعل هذا يعطي إيضاحا أفضل بأن أكثر هذه التجارب بمثابة حالة إبداع عابرة، قد لا تحدث كثيراً في حياة الإنسان..

حالات فردية وليست تياراً أدبياً

ولهذا السبب فإن هذه الإبداعات لا تشكل حركة أدبية محددة، فالمتابع للاتجاهات والمدارس الأدبية التي ظهرت في القرن العشرين سوف يلاحظ أن الذي تبناها مجموعات من شباب الأدباء والفنانين، وأنهم راحوا يضعون النظريات والتفسيرات لما يقدمونه. حدث هذا في السريالية والوجودية (الجانب الإبداعي منها) والرواية الجديدة، وحدث هذا أيضا في مجال المسرح والفن التشكيلي. والغريب أن آخر هذه المدارس قد ظهر مع منتصف الخمسينيات وهي الرواية الجديدة، التي لم تنته حتى الآن، ولم يظهر أي تيار أدبي يجبها أو يعلو عليها وكأنها بذلك آخر التيارات الأدبية المرتبطة بالتنظير.

إذن، فالأدباء الجدد رغم كثرتهم العددية يشكلون حالات فردية في المقام الأول، ولا يشكلون تياراً أدبياً، ولعل هذا يعطي تفسيراً آخر لسرعة اختفائهم، فمن المعروف أن مثل هذه التيارات تصنع مبدعيها ونقادها، ومجلاتها، وأيضا جوائزها الأدبية. ومؤسساتها الثقافية بما يعني أنها ليست ظاهرة مؤقتة، ولكنها تيار له تدفقه، وتأثيره في التيارات التي حوله، والتموجات المحيطة به.

والسبب الأساسي لإقبال الناشرين على نشر مثل هذه الروايات هو ما يسمى بموسم الجوائز الأدبية. ففي فرنسا ما لا يقل عن أربعمائة جائزة أدبية سنوياً، يتم التركيز على حوالي عشر منها. وطوال الفترة بين أكتوبر ونوفمبر من كل عام، لا يكون هناك حديث إلا عن المرشحين لنيل هذه الجوائز الأدبية، وعن التصفيات الأولى، ثم التصفيات النهائية، وفي هذه التصفيات يذكر اسم الكتاب، والناشر، وتعتبر هذه خير دعاية للكتاب. ولو قلنا إنه يلزم ترشيح ست روايات في التصفيات النهائية لكل جائزة، فإن الأمر يحتاج إلى ستين رواية جديدة في الأقل، وهناك أمر غريب في هذه الجوائز، حيث إنها لا تُمنح لكاتب إلا مرة واحدة في حياته. فعلى روائي مثل باتريك موديامو أن يحصل ولمرة واحدة فقط على جائزة جونكور، وألا يرشح لنيل الجائزة بعد ذلك أبدا. يمكنه أن يرشح برواية جديدة لجائزة أخرى، لكنه لا يمكن أن يحصل على الجائزة نفسها مرة ثانية. ولأن الجوائز الأدبية نوعية، بمعنى أن هناك جائزة للإبداع النسائي، وأخرى للإبداع التجريبي، خاصة الرواية الجديدة، وثالثة للرواية التقليدية، فإن هذا يعطي مؤشراً لمدى الفرص الضيقة لفوز الكتاب المعروفين بجائزة جديدة.

إذن، فالرهان يتم دائما على كتاب جدد. لم يدخلوا الساحة من قبل. وهذا يشجع الناشرين على المراهنة بأدباء يكتبون للمرة الأولى. ومن المعروف أن أي كتاب يفوز بجائزة أدبية ترتفع أرقام مبيعاته فوراً إلى أعلى سلم المبيعات. ولأن الناشر يهمه في المقام الأول ارتفاع مبيعات كتبه، فإن هذا يعكس حرص الناشرين على أن تفوز كتبهم بالجوائز الأدبية بأي ثمن.

نماذج من الأدباء الجدد

هذه هي أهم السمات العامة التي تجمع ظاهرة "الرواية الأولى " في فرنسا، وإمعاناً في إلقاء الضوء على أغلب جوانبها، ولذا اخترنا بعض نماذج من هؤلاء الأدباء للتركيز عليهم. الأول هو جان لور الذي كتب مثل الكثيرين، تجربته الخاصة في رواية. وكأنه ودّ أن يسكب شحنة من المشاعر في رواية، ثم اختفى تماما. لما يعرف أحد أنه كتب رواية ثانية، وها نحن بعد أحد عشر عاما لم نسمع باسم لور.

الكاتبة الثانية هي كارول ساندريل، كانت في الخمسين من عمرها عام 1987 عندما نشرت روايتها الأولى " السر "، وهي تمثل نموذجاً للموظفين الذين يعملون في مجال النشر، ويحتكون بهذا العالم عن قرب، وتنتابهم الرغبة في تقليد الآخرين. والغريب أن هناك أمثلة عديدة من هذا النموذج، والطريف أن رواية "السر" قد لاقت الكثير من الاهتمام ولا نستطيع أن تؤكد السبب الحقيقي وراء هذا الاهتمام. فترى هل للكاتبة تأثير خاص على الأدباء الذين يكتبون النقد الأدبي في الصحف، وبالتالي فهم يتعاملون معها عن قرب في مجال النشر؟، ولم تكن كتاباتهم عنها سوى نوع من المجاملة، فكارول ساندريل نموذج أيضاً الأدباء عملوا في النقد والإذاعة والتليفزيون، بالإضافة إلى وظيفتها في مجال النشر.

زنجي بالفرنسية

الكاتب الثالث الذي اخترناه هو كاتب زنجي، من مواليد عام 1929. وقد حاول الكتابة مرات عديدة، ولكنه لم يتمكن من نشر روايته الأولى " السفينة أرجو " إلا في عام 1987. وبعد عدة شهور من نشر روايته التي فازت بجائزة رينودو، نشر روايته الثانية "بهلوانيات ". وفي عام 1989 نشر روايته الثالثة " تشوكات ". وقد قُوبل ريتشارد جوزيف باهتمام واسع من القراء والنقاد على السواء، وبدا كأنه يعوض السنوات الطويلة التي لم يتمكن من النشر فيها.

في روايته الأولى "السفينة أرجو" يتحدث عن رجل يدعى فردريك، تم العثور عليه محبوساً في أحد الكهوف حيث عاش سنوات شبابه، ويكتشف منقذوه أن الرجل يتحدث اللغة الفرنسية بلكنتها التي تعود إلى القرن السادس عشر، ويعرفون أن فردريك قد تعلم هذه الفرنسية في أثناء وجوده في محبسه. وكي يمكن تغييره ينبغي أن يتعلم الكلمات العامية- الآرجو - الجديدة في اللغة الفرنسية، ووجد الباحثون أن أفضل وسيلة هي أن يمارس كتابة الأدب، وأن يقرأ الروايات المعاصرة.

أما الرواية الثانية " بهلوانيات " فتدور أحداثها في السنوات الثلاث التي تسبق اندلاع الحرب العالمية الثانية من خلال أرمل يدعى هنرى لامبير، آثر أن يبقى أرمل من أجل تربية أبنائه الثلاثة. الأول نيكولا- 8 سنوات - والثاني فيليب الذي يعمل في وزارة الحربية، ثم بيير الذي يهتم بالأدب والسياسة. ويقسم " جوزيف " روايته إلى أربعة أقسام، في كل قسم منها تتبع إحدى الشخصيات الأربع، ونرى مدى التحولات التي تحدث حولها، وبداخلها، وكأنها تستعد للحدث الذي هز العالم وأوربا: اندلاع الحرب.

تلك بعض السمات العامة، والنماذج البارزة في ظاهرة الرواية الأولى المنتشرة الآن بشكل لافت للأنظار، وهذه الظاهرة تستفحل عاما وراء عام، وهي لم تترك أثرها المطلوب منها حتى الآن، ربما لأنها أشبه بالجذوه السريعة الاشتعال، والتي لا تلبث أن تخبو بسرعة مثلما اشتعلت.