إلى أن نلتقي

 إلى أن نلتقي

منْ يذكُرنازك الملائكة?

لم ينصف النقد العربي الحديث الشاعرة العراقية الرائدة نازك الملائكة مثلما لم تنصف هي نفسها. لقد ارتدّت باكراً عن دعوتها التحريريّة والتجديدّية لبنية القصيدة العربية الكلاسيكية وجوهرها, بعد أن كانت من أوائل المجددين لهذه القصيدة في أواخر الخمسينيات من القرن الفائت, نصّاً إبداعياً, ونظريّة نقديّة, من خلال قصائدها الأولى من جهة, ومن خلال كتابها النقدي الرائد في الشعر الحر وقضايا تجديد القصيدة العربية. وقد غطست نازك الملائكة في ليلٍ من النسيان, أو ما يشبه النسيان, منذ حركتها الارتدادية عن الحداثة, فلم يعد النقد يهتم بما أصدرته من دواوين موزونة مقفّاة على العروض الخليلي التقليدي, وأحسّت هي بذلك, فآثرت الاستسلام للانطواء والاحتجاب والعزلة, حتى أنّ أخبارها لم تعد تصلنا في السنوات العشر الأخيرة, إلا من خلال أخبار مغلوطة عن وفاتها, تارةً في القاهرة, وطوراً في العراق أو في لندن... ثم ما تلبث هذه الأخبار أن تصحح, ويظهر أن الشاعرة لا تزال حيّة ترزق, في مكان ما على هذه الكرة الأرضيّة. إنما هي حياة كالموت.

ما من شك في أنّ نازك الملائكة دخلت في ذمة الإرث الإبداعي والنقدي لحركة الحداثة الشعرّية. وربما كان النبش عن نتاجها الأوّل, أكثر أهميّة من النبش عن تراثها الأخير, من حيث أنّ بذور الحداثة الشعرّية وبعض عناصرها وصياغاتها تظهر مميّزة لدى هذه الشاعرة, بل أشدّ تميّزاً من عناصر وصياغات شعراء رياديين آخرين مجايلين لها, من أمثال عبدالوهاب البياتي وبدر شاكر السيّاب وبلند الحيدري. وفي قراءٍ لأعداد العام 1957 من مجلة الآداب التي احتضنت نتاج نازك وسواها من رياديي الحداثة الشعريّة العربيّة نجد تفرّد هذه الشاعرة من بين أقرانها وقريناتها من شعراء الحداثة العربية لهذا العام المبكّر من حوليات الآداب. وقد امتازت قصائد نازك بميزتين جوهريتين: الأولى بعدها عن أن تكون شاعرة صراخ سياسي وتفجع وطني أو قومي من جهة, وقربها من عمق مصدر الشعر ونبضه في الألم من جهة ثانية. كل ذلك من خلال صيغ جريئة ومتحررة من العروض الخليلي التام والناجز ما ينم عن نفس شعريّة حرّة قلقة ومغامرة في آن. والقصيدة الأولى التي نشرتها في ذاك العام بعنوان (قصيدتان للألم), ظهرت في العدد السابع, يوليو 1957, وفيها (من أين يأتينا الألم?/ أمس اصطحبناهُ إلى لجج المياهْ/ وهناك كسّرناهُ بّددناهُ في موج البحيرة). أما القصيدة الثانية فظهرت في العدد التاسع (سبتمبر) من العام نفسه وهي بعنوان (خمس أغان للألم) وفيها (نحن توّجناكَ في تهويمة الفجر إلهاً/ وعلى مذبحك الفضّي مرّغنا الجباها/ يا هوان يا ألم..). والمفارقة هي أنه في العدد التالي من مجلّة الآداب, كتب نزار قبّاني نقداً لقصائد العدد السابق وفي طليعتها قصيدة نازك, فمجّدها التمجيد اللائق بها, ومما كتبه: (سمفونية حزينة) تتألف من خمس حركات ذكرتني بالـ: (Symphonie pathetipue) .. (نازك الملائكة شاعرة تساوي ثروة وهي إحدى البنايات الشعرية التي قلَّ أن ارتفع مثلها في الأدب النسائي في تاريخنا). لقد قدّمت نازك طقوساً شعرية لعبادة الألم في ذاك الزمن البعيد. كان ذلك منذ حوالي ربع قرن مضى إلاّ قليلاً. واليوم, آن الأوان لكي نكشف عن الجانب الريادي المضيء من عاشقة القمر.

 

محمد علي شمس الدين