الجنف.. مرض أليم يصيب النساء سامي محمود علي

الجنف.. مرض أليم يصيب النساء

الزور أو الجنف مرض قديم يعرف بالانحناء الجانبي للعمود الفقري.. وقد عرف الإنسان البدائي المرض ورسمه على جدران الكهوف، كما حاول أن يجد له علاجات مازالت نافعة حتى اليوم.

منذ القدم بدا مرض الجنف (Scoliosis) غريبا وشاذا فهو يصيب الإنسان دون أسباب معروفة أو شواهد تدل عليه برغم أن أبحاثا مكثفة جرت من أجل ذلك، كما أن هناك اعتقادا يسود بين كثير من الأطباء، يرجع الإصابة في كثير من الحالات إلى أسباب وراثية (Genetic) ويدللون على ذلك بوجود جين وراثي ينتقل من الأبوين إلى أبنائهما (البنات خاصة) وعندما يكون هذا الجين موجودا لدى كل من الأب والأم فإن المرض يظهر عند أكثر من فرد من أفراد الأسرة.. وعندئذ يولد الطفل سليما لكنه يكون مبرمجا بحيث يظهر عليه المرض عندما يصل إلى مرحلة المراهقة.. وحتى نفهم ما يحدث لا بد أولا من أن نتعرف على الطبيعة التشريحية للعمود الفقري سند الجسم وصلبه، فالعمود الفقري يتكون من فقرات عظمية يفصل بين كل فقرة وأخرى قرص غضروفي مرن إلى حد ما ويحيط بالجميع أوتار وعضلات تدعم هذه الفقرات وتحميها من خطر الانزلاق أو الالتواء، ويقوم العمود الفقري إلى جانب تدعيمه لاعتدال الجسم وجعله قائما واقفا - بالمساعدة في تسهيل حركة الجسم من انثناء وميل مع خلق توازن بين الجذع والحوض بفضل تناغم العضلات والأوتار التي تحيط به من كل الاتجاهات.. عندما يحدث المرض فإن الفقرات تخرج عن هذا النظام البديع فتصاب بنوع من الدوران مع البروز للخارج وهذا يؤدي بدوره إلى اتساع أو تباعد بين الفقرات من جانب، وانضغاط وتقارب من الجانب الآخر لنفس الفقرات. ويصاحب ذلك تجمع أو تكدس للضلوع وبروزها من الجانب المصاب بالانحناء، وربما أدى ذلك - أيضا - إلى ضيق في القناة الفقارية التي تمر عبر العمود الفقري وتحمل في طواياها النخاع الشوكي.

للمرض.. أنواع وأشكال

تنحصر الإصابة بالمرض بين فئة عمرية تبدأ من الولادة وحتى سن المراهقة، فالطفل يمكن أن يولد وهو مصاب بالمرض، وهذا ما يعرف بالانحناء الخلقي للعمود الفقري.. ويمكن أن يصيب المرض الطفل في المرحلة العمرية من 4 - 10 سنوات، كما يمكن أن يصيب المراهق عندما يكتمل هيكله العظمي، وهذا النوع الأخير يكون كامنا تصعب ملاحظته ثم يعلن عن نفسه سافرا بعد سن العاشرة، ونسبة الإصابة بالمرض في مرحلة المراهقة تبلغ 70% بين الجنس اللطيف مما يدفعهن للإحباط والتحسر على مستقبل بات أمام ناظرهن مظلما.نعود إلى الانحناء الخلقي فنجده لا يعود لأسباب وراثية، لكنه يصيب الجنين خلال الفترة الجنينية الأولى وعندما يولد الطفل يكون مصابا بتشوه في العمود الفقري ويصاحب ذلك عادة تشوهات خلقية أخرى مثل الإصابة بالأمراض الخلقية في القلب أو القناة البولية، وبعض هذه الحالات علاجه ليس بالسهل الميسور، لكن القاعدة العامة في مرض الانحناء تشير إلى الاكتشاف المبكر للمرض يجعل علاجه مفيدا وناجحا.

وهناك تصانيف وأشكال للانحناء تتفاوت تبعا لمكان الانحناء في العمود الفقري واتجاهه.. وهذه الأشكال يمكن شرحها على النحو التالي..

1- انحناء العمود الفقري والقفص الصدري إلى الجانب الأيمن من الجسم، ويشمل هذا النوع الفقرات الصدرية 4 - 5 - 6 والفقرتين 11 - 12 كما قد يشمل أيضا الفقرة القطنية الأولى ويسبب هذا النوع تشوها كبيرا في شكل الجسم - الصدر خاصة - مما يترك أثرا خطيرا على وظيفتي الرئة والقلب وهذا النوع إذا ما عولج مبكرا كانت النتائج أفضل.

2- انحناء قطني صدري وقد يكون هذا الانحناء على الجانب الأيسر أو الأيمن من الجسم ويشمل هذا النوع فقرتين صدريتين هما 4 - 5 أو الفقرة الصدرية 6 كما يشمل الفقرات القطنية من العمود الفقري وهي 2 - 3 - 4 والتشوه الحادث من هذا النوع أقل في درجة خطورته من النوع الأول.

3- الانحناء المزدوج ويشمل التواء ودوران فقرات متوازنة من الفقرات الصدرية والقطنية وهذا يؤدي بدوره إلى انحناء متوازن، وبالتالي فهو أقل تشوها، لكن هذا لا يقلل من خطورته.

4- انحناء الفقرات القطنية وهذا يشمل الفقرة الصدرية الأخيرة وكل الفقرات القطنية من العمود الفقري. وعادة لا يصاحب هذا النوع تشوه كبير، إلا أنه يسبب ألما شديدا نتيجة التهاب المفاصل، كما أنه يسبب صعوبة شديدة عند الولادة.

أسباب المرض

لا يعرف للمرض أسباب محددة - هذا صحيح - لكن هناك بعض الحالات يمكن الوقوف على أسبابها. وقد سبق لنا الحديث عن الوراثة كعامل يسبب المرض، إضافة إلى ذلك هناك أمراض مثل الإصابة بشلل الأطفال وهو مرض فيروسي يصيب الأطفال، وهناك أيضا الضمور العضلي(Muscular Dystrophies) وهو مرض يخل بالتوازن العضلي على جانبي العمود الفقري فيسبب الانحناء إلى جانب دوران آخر.

كما أن هناك الأورام العصبية وهي تصيب الأنسجة الضامة حول الأعصاب وكان أول من وصفها الدكتور "كوليكير" عام 1860 ثم جاء الدكتور "يكلنجهوسن" عام 1882، وكان أول من أطلق عليها هذا الاسم (Fibromatosis Neuro) وهذا المرض ينتج من خلل وراثي يؤثر على الأعصاب الطرفية ويسبب أعراضا جلدية كظهور طفح جلدي على هيئة بقع لونية ويسبب المرض انحناء أو تحدبا أو كليهما معا، وقد يصاحبه في بعض الأحيان الإصابة بالشلل.. وبالرغم من خطورة هذا المرض فإن علاجه ممكن بالجراحة، هذا في حالة التشخيص المبكر له..

ومن الأسباب المباشرة - أيضا - والتي ينتج عنها الإصابة بالزور أو الجنف إذا أصيب العمود الفقري إصابة مباشرة تؤدي إلى كسر أو إصابة جذع عصبي، كما أن التعرض المستمر للإشعاع والإصابة بحرق شديد بالجسم أو عند إزالة أورام عصبية أو استئصال أحد الضلوع. هذه كلها أسباب قد تؤدي إلى الإصابة بالانحناء الجانبي للعمود الفقري.

أهمية التشخيص المبكر

لتحديد المرض مبكرا أهمية كبيرة في العلاج، فمعظم أنواع الانحناء - إن لم يكن كلها - يمكن علاجها بسهولة إذا تم اكتشافها في وقت مبكر.. لذلك كان من الضروري أن تجرى جميع الدول فحصا بالأشعة للتلاميذ في بداية المرحلة الابتدائية أو عند التحاق الطفل بمدارس رياض الأطفال، وهناك فحص بسيط يمكن أن يجرى لجميع التلاميذ، حيث ينحني الطفل إلى الأمام من جذعه - في وضع الركوع - تاركا يديه حرة الحركة وعندئذ فإن أقل انحناء أو خلل بتوازن الجسم سوف يظهر واضحا أمام الطبيب.

الخطوة التالية، عمل فحص شامل للجسم يشمل العضلات والمفاصل والأعصاب، إنه مناظرة شاملة تضع الجسم - كله - في معيار دقيق يمكن أن يكشف عن مسار المرض وبدايته. ولا شك أن عدة صور بالأشعة السينية للجسم في أوضاعه المختلفة تفيد في وضع تفاصيل الإصابة واضحة بلا غموض أو لبس، والحقيقة أن صور الأشعة تفيد أيضا في قياس درجة الانحناء أو اتساع محوره. ولعمل ذلك تستخدم طريقة "كوب" حيث يتم تحديد أول فقرة حدث عندها الانحناء وآخر فقرة انتهت عندها الإصابة ويرسم لذلك خطا مستقيما على صورة الأشعة بين الفقرتين ومن خلال ذلك يمكن تحديد زاوية الانحناء والتي تعكس مدى الإصابة. وهناك سبع درجات تبين مدى إصابة المريض.

ومن العوامل المهمة عند تقييم الإصابة تحديد عمر المريض، لأن الانحناء يتوقف عندما يبلغ نمو الهيكل العظمي مداه ويحدث ذلك - عند عمر 16.5 سنة عند الفتاة بينما يزيد عند الولد بمعدل سنة ونصف إضافية.

إذن فالخطوة الأولى في العلاج تشخيص المرض مبكرا، وهذا في حد ذاته يوفر فرصة جيدة للشفاء، وبعد التقييم الدقيق للإصابة يأتي دور العلاج، لكن كيف يكون ذلك ؟

لقد بدأت محاولات العلاج من تاريخ بعيد واستخدمت وسائل كثيرة كان الهدف منها - ولا يزال - استعادة ما يتمتع به الجسم البشري من استقامة واخفاء الالتواء الحادث به.. وكانت أولى المحاولات ما قام به الدكتور "باول" في القرن السابع حيث اخترع دعامة تعمل على الحيلولة وانحناء العمود الفقري، وذلك عند بداية المرض، ثم كرر المحاولة الدكتور "امبرويزبير" عام 1582 وقام "رسل هيبس" عام 1914 بمحاولة لضغط الفقرات المنبعجة في محاولة منه لإصلاح الانحراف الناشيء عن المرض. لكن أول محاولة حقيقية لعلاج المرض كانت تلك المسماة بجهاز "ميلويكي" والذي يعمل على فرد أو - بسط - العمود الفقري. وكان الدكتور "بلونت شميدت" هو أول من ابتكر هذا الجهاز عام 1946، والجهاز عبارة عن دعامة قوية يرتديها المصاب من أعلى الظهر وحتى الحوض أسفل العمود الفقري، وهي وسيلة علاجية جيدة إذا صادفت تعاونا من المريض وأسرته عندئذ تحقق ما يقرب من 70% من الشفاء. وعند استخدام جهاز "ميلويكي" فإن فريقا كاملا يجب أن يتعاون بشكل جماعي حتى يمكن تحقيق هذه النتيجة الفعالة ويتكون الفريق إضافة إلى أخصائي العظام من أخصائي علاج طبيعي وأخصائي اجتماعي، هذا الفريق يعمل معا لحل أي مشكلة يمكن أن تواجه المريض خاصة أنه - أي المريض - يجب أن يرتدي هذا الجهاز لمدة 23 ساعة كاملة في اليوم ولمدة 16 شهرا. وهناك طرق أخرى للعلاج بعضها يعتمد على برنامج رياضي يساعد الجسم على اكتساب مرونة كافية وبعضها الآخر يستخدم لفرد الجسم والمريض في حالة رقاد على ظهره مستخدما سريرا مجهزا لمدة 3 أسابيع كاملة ويساعد على بسط الجسم بسحبه لأسفل باستخدام أوزان أو أثقال تصل إلى 14 كيلو جراما عند الرأس والقدمين.لكن مع كل هذه الطرق العلاجية فإن الجراحة هي الملجأ الأخير لعلاج مثل هذه التشوهات التي تنحرف وما أراده الله تعالى من اكتمال وإبداع في الخلقة البشرية.. لقد أجريت أول عملية جراحية لعلاج عيوب العمود الفقري عام 1911 على يد الدكتور "رسل هيبس" في مستشفى العظام بنيويورك، إلا أنه ومنذ ذلك التاريخ أدخلت تحسينات كثيرة على هذه العمليات للحصول على أكبر معدل ممكن من الشفاء وعلاج التشوه. وعمليات العمود الفقري يمكن أن تجرى من الأمام أي من البطن أو من الخلف، ويمكث المريض في المستشفى أسبوعين ثم يخرج بعد ذلك ليظل في الجبس مدة لا تقل عن ثمانية أشهر.. وهي لا شك مدة طويلة تستلزم صبرا وجهدا كبيرين كما أن فيها معاناة أكبر.. وأخيرا وبحلول عام 1975 ابتكر المركز الطبي بميامي في الولايات المتحدة جهازا صغيرا يعمل بالطاقة الكهربائية، ويتكون هذا الجهاز من وحدة استقبال صغيرة جدا تزرع تحت الجلد في المنطقة المصابة بالعمود الفقري، ثم توضع ثلاثة أقطاب أو مسامير من البلاتين في العضلات بالجزء المصاب وهذه الأقطاب تستقبل نبضات كهربائية من وحدة الاستقبال لتعمل على إصلاح التشوه الذي انتجه المرض وهذه الوسيلة من طرق العلاج المبشرة للمريض والطبيب كليهما معا..

هي - إذن - وكما نرى طرق عديدة تهدف إلى علاج الخلل وإزالة الانحراف لكنها برغم ذلك لا تعدو كونها محاولات لا ترقى إلى علاج أكيد ونهائي يأخذ بيد المريض ويساعده على استعادة رشاقته واستقامته.

 

سامي محمود علي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




إحدى حالات تشوه العمود الفقري





جهاز ميلويكي لدعم العمود الفقري





إصلاح العمود الفقري بالرقاد مع التثبيت بواسطة الأثقال





الجراحة الملجأ الأخير للعلاج