محطات طارق الطيب المكوكية

محطات طارق الطيب المكوكية

عندما بدأت في تصفح كتاب «محطات من السيرة الذاتية» للكاتب طارق الطيب فكرت أنه لجأ إلى هذه الطريقة (طريقة المحطات) في كتابة السيرة ليتوصل إلى حل ما يهرب به من فضول القارئ العربي تجاه بعض التجارب التي لن تلقى قبوله، لأنه بهذه التقنية اختار بوعي ما سوف يطلع عليه الآخرون؛ فتاريخ كتابة السيرة الذاتية العربية يجعلها من أصعب الأجناس العربية كتابة، لأنها حقائق صريحة من الممكن أن ترفع كاتبًا وتخفض بآخر، خاصة في ظل نقص الوعي لأهمية كتابة التجربة بصدق، مهما شابها من حقيقة ليطلع عليها الآخر، فماضي العرب لا يكتب سوى الأمجاد، ولا يخلد سوى الأعمال العظيمة. وأندهش هنا، من الشخص الأول الذي وضع مفهوم الأمجاد والعظمة لتلتصق بأعمال دون غيرها!

في اعتقادي أن التجارب الإنسانية يجب ألا تصنف بالمعايير نفسها التي تصنف بها الأحداث الأخرى، وعلى الرغم من كون طارق الطيب كاتبًا عربيًا / أوربيًا إلا أن كتاباته تُطبع في عالمنا العربي وتوضع بين يدي الكاتب العربي، وهذا ما جعله ربما يتخوف من كتابة سيرة كاملة عما مر به في حياته.

وعلى الرغم من قدم جنس السيرة الذاتية العربية وحميميته (ابن إسحاق والمحاسيبي والترمذي والرازي وابن الهيثم) إلا أن القراء مازالوا يشعرون بحساسية ما تجاه كتابة السيرة. في مقدمة السيرة يطرح الكاتب الكثير من النقاط التي تجعلنا ندرك أننا أمام كاتب مدرك لسيكولوجية المجتمع العربي، وهو أمر بالطبع وضعه نصب عينيه عند الكتابة، ويجب ألا نغفله عند القراءة أيضا، فنجده يكتب: أعجبتني للغاية من كتابات السيرة الذاتية: طه حسين في «الأيام»، وجبرا إبراهيم جبرا في «البئر الأولى» ومحمود الربيعي في «في الخمسين عرفت طريقي». الثلاثة تناولوا تفاصيل في غاية التشويق والجمال سردًا ومضمونًا وأفادونا بصراحة وصدق عن طفولتهم وعن نشأتهم وعن ظروف ومكان معيشتهم وتأثرهم بمكانهم والفترة التاريخية التي عاشوها، وهكذا نجد أن الكاتب يدرك أن السيرة لا تقتصر فقط على حياة الكاتب، بل هي مربع أضلاعه الزمان والمكان الذي احتله من عمر الأرض، وهي تأريخ حقيقي لما مر به، بعيدا عن التاريخ الرسمي للشعوب، الذي تشوبه في كثير من الأحيان الأخطاء والمغالطات.

محطات

من هذا المنظور يؤرخ الطيب لفترة الكُتّاب وطرق التعلم مع الشيخ علي في عين شمس، حيث نجده يقول: «في الكُتّاب أجد من اليوم الأول تباينًا كبيرًا بين ما أسمعه من أمي وأبي وما يريد شيخنا أن نتعلمه» هكذا كتب طارق الطيب بعين طفل راغب في استكشاف الحياة وإعادة ترتيبها وفق منطق الطفولة الذي لم يلوث بعد، واستمر يؤرخ لقاهرة الخمسينيات والستينيات بعفوية وصلت إلى حد الإدهاش في كثير من المواضع وأصوات ظللت هذه الفترة: «صوت أبلة فضيلة وحكاياتها الممتعة وبرنامج على الناصية لآمال فهمي»، وفي محطة أخرى يذكر: «وعبدالناصر وجولدا مائير وعرفات والنميري ومحمود المليجي وهند رستم وتحية كاريوكا وفاتن حمامة وعبد الحليم حافظ وأم كلثوم والشيخ عبدالباسط عبدالصمد».

وفي محطة «حلاقة المعيز» يذكر مغامرات فترة الطيش مع الحلاقة: «أذهب في يوم من الأيام مع أخي خالد إلى حلاقنا الذي اعتدنا أن نحلق عنده. نرغب في أن نختصر جزءا من المبلغ المدفوع له حتى نستطيع أن نؤجر دراجتين لنلف بهما حول جامع الظاهر بيبرس، يتفتق ذهننا الصغير عن فكرة عظيمة بأن نذهب لحلاق الرصيف ليحلق لنا بنصف الثمن أو أقل ... نعود إلى البيت عرقانين مبسوطين، لكن بمجرد أن ترانا خالتي تقول بفزع: «مين اللى حلق لكم النهاردة حلاقة المعيز دي؟!»

هكذا ارتسمت الطفولة كشرائط السينما في عقل الكاتب، واستطاعت أن تخلق منه كاتبًا يؤلف الحكايات فيما بعد، ويعيد ترتيب الأحداث وتكوين رؤية في ضوء ما، كونه من خبرة لم تبخل الحياة عليه بها.

وكما أرخ الكاتب لفترة الطفولة بعفوية تناول فترة البلوغ وبداية الشباب بالعفوية نفسها، عندما أفرد عدة محطات لهذه المرحلة فكتب عن فصل التركيب التشريحي للأعضاء التناسلية للذكر والأنثى والذي أضيف إلى منهج الأحياء في الصف الإعدادي، فنراه يتذكر: «كانت مادة الأحياء تُدرَّس من قبل شابة جديدة وجميلة، كانت جادة وصارمة حتى تتحكم في شيطنة هذا العمر المجنون»، المفارقة أن المعلمة اختارت الكاتب ليدرِّس هذا الفصل المحرج لباقي الطلاب، لكن القدر أنقذه بتغيب المعلمة وعدم معرفة أحد بما كانت قد قررته معه. ويتساءل الكاتب، بعد انتقاله إلى فيينا منذ أكثر من ربع قرن: «هل مازال هذا الفصل يدرس الآن؟».

وتناول في محطة «القطار والشعبطة» التي أطلق عليها مغامرات كولومبوسية لاكتشاف الأمكنة الأبعد، المرج أو عزبة النخل أو عين شمس الغربية. ثم مغامراته للسطو على أشجار المانجو والتوت من البساتين القريبة، ومغامرات الصبا التي شكلت الوعي فيما بعد. كان تعدد الأمكنة الرافد الأبرز الذي أتاح لشخصيته أن تتكون بهذا الزخم الكبير، فمن حي عين شمس «آخر بلاد المسلمين» كما كان يطلق عليه في هذه المرحلة، إلى حي الحسينية في قلب القاهرة حيث سكن الجدة للأم، ثم انتقاله إلى العريش حيث عمل الأب في سلاح الحدود، إضافة إلى الأماكن الجديدة التي وطأتها قدماه أثناء مرحلة الشباب الفائرة لاكتشاف الذات وتكوينها، كل هذه الأماكن أثرت شخصية الكاتب وحكاياته بما لا يدع مجالاً للشك في زخم تجربته.

الحدود

كما استطاع طارق الطيب أن يصنف مراحل تقطير تجربته إلى محطات، كانت كل محطة إضافة إلى تجربته الحياتية المعيشة. قام بتصنيف آخر أسماه «الحدود الحقيقية والوهمية»، وبهذا التصنيف استطاع أن يحدد كمية المعرفة التي تراكمت مع اجتياز كل حد والوقت الذي حدث فيه هذا والرؤية التي خرج بها من خوض التجربة، وكان موفقًا عندما جمع الحدود التي اجتازها في محطة الحدود وقسمها إلى: حدود اليابس، وفيها يحكي عن تجربته الفريدة لعبور الحد الفاصل بين مصر وفلسطين وبالتحديد بين العريش وغزة، ولقائه مع أسرته بعائلة غزاوية وسط الأجواء الفلسطينية من زيتون وريحان وملابس يدوية فائقة الصنعة. الحد الآخر كان حد الماء، وهي تجربة أكدت للكاتب هويته الأخرى، عندما أصر أبوه على زيارة السودان، وقت أن كان عمره عشرين عاما، كان هذا في العام 1979، ليرى للمرة الأولى موطن عائلته الأصلي الذي هجرته منذ زمن لتستقر في القاهرة. أم درمان والخرطوم وود مدني. يقول في هذا الحد: «في السابع والعشرين من يوليو سأكون عائدًا من الطريق ذاته من الجنوب إلى الشمال؛ إلى مصر، بأحداث ودهشة سوف تتراكم معانيها مع الزمن، سأحصل عند الحدود على تأشيرة دخول سيكتب عليها: (إلى مصر فقط)».

ربما منذ تلك اللحظة البعيدة، بدأ يعي أن جنسيته ليست مصرية، لكنه لم يكن متأكدا تماما من بطش الحدود السياسية، إلا عندما تعامل معه النظام المصري كأنه غير مصري، على الرغم من النشأة واللسان المصريين. وفرضت عليه رسوما إضافية أكبر من الرسوم المفروضة على الطلاب المصريين، عند استكمال دراسة الماجستير، لمجرد أن والديه سودانيان. الحد الثالث كان حد الفضاء، وفيه يحكي الكاتب عن خروجه لأول مرة بالطائرة من مصر إلى العراق، وذكرياته الأليمة في أرض الله، للبحث عن عمل ككل الخريجين واصطدامه بالواقع العربي المرير. ثم تتوالى الحدود، رحلته إلى فيينا والمعاناة التي واجهها بسبب أصوله السودانية المصرية، حتى اختلاف أشكال الجوازات بين الدول الأوربية والعربية لم يسلم من ملاحظته، ومن قبوعه في الذاكرة، ليحكي عنه بالتفصيل في هذه المحطة. ثم يدخل الكاتب من المحطات الحقيقية إلى المحطات الوهمية، التي عانى منها مثل حد اللون. يقول في هذا الموضع: لم تكن حدود اللون في النمسا معوقة في السنوات الأول... اهتزت الصورة في السنوات الأخيرة بعد اجتياح أعداد كبيرة من طالبي اللجوء الأفارقة للبلاد وبعد مطالبة «حزب التحرر» بتخليص البلاد من مفاسد الأجانب وتجار المخدرات من الأفارقة، كذلك حد المناخ، ويعتبره الكاتب الحد الأكثر وطأة، حيث صدمه برد يناير النمساوي كما صدمته اللغة الألمانية وأفرد لها عنوانًا باسم «حد اللغة»، ثم يأتي حد الهوية، يحكي الطيب في هذا الحد بلغة شفيفة: «عبرت حدودًا كثيرة ورأيت حدودًا أكثر، بعضها كان ضروريًا لتكويني وبعضها كان تعسفيًا، اكتسبت منه خبرة الاستنكار والرفض، وأحيانًا قدرة التغيير، لكني كلما وجدت حدا في داخلي يمنعني من التواصل مع من أحب - أو حدا وهميا بأنني أفضل- كسرت هذا الحد الشوفيني العنصري فورًا، وكلما شعرت بحد يمنعني من أن أحب بقعة أكبر على هذا الكوكب الصغير كسرت هذا الحد على الفور ... فأنا مجرد إنسان مولود لأب سوداني عاش ثلاثة أرباع عمره في مصر وخدم فيها، إنسان مولود من أم ذات أصول مصرية - سودانية ونشأ على أرض مصرية وعاش فيها ربع قرن ... سعيد أنا بهذا التنوع الجميل ومحظوظ به، راضٍ بمحبتي لهذه الأمكنة الثلاثة (السودان- مصر- فيينا) بقدر متشابه في القلب... استطعت أن أكسر حدود سجن هويتي لمجرد خطوط الجنون التي تتبدل كل يوم، وأتمنى أن أنجح في كسر ما تبقى من حدود فيما تبقى لي من عمر!

***

عودة إلى المحطات

لا يغفل الطيب في سيرته عمل مقارنة بين خروج أبيه من موطنه الأول السودان قبل نصف قرن من أجل الفاتنة التي سيتزوجها ويبقى في القاهرة من أجلها، يقول في هذا الصدد: «أكانت بداية الخروج من الوطن قبل نصف قرن؟ حين خرج هذا الشاب الصغير الطيب (أبي) في أوائل الخمسينيات من قلب السودان إلى مصر، ليرى تلك الفاتنة التي سيغادر بسببها كل دنياه السودانية ليخرج باختياره هو، مصحوبًا بلعنات الأب (جدي) لهذا النأي الغادر من الولد الوحيد الراغب في الزواج من امرأة من نساء الشمال». خروج الأب جعل خروج الطيب الصغير للسفر إلى فيينا فكرة ليست صعبة، لأن الأب كان واعيًا لأهمية البراح والانتقال إلى مكان أكثر ألفة إذا ضاقت الحياة بموطن المنشأ، بهذا المفهوم الواعي عن معنى الوطن سافر الطيب الابن إلى فيينا، محملاً بخمسة وعشرين عاما وحقيبة، يقول عن هذه الفترة:

«خمسة وعشرون عاما
وحقيبة ثقيلة
وأنا
نهبط
رأسي يجرجر جسدي
وجسدي حقيبتي
وحقيبتي خمسة وعشرين عاما
في ممر المطار الطويل
إلى طريق أطول
إلى غرفة باهتة الضوء والألوان
ذات مصباح وحيد
وكرسي وحيد».

واجهته الصعوبات الواحدة تلو الأخرى، تعامل معها جميعًا بما استطاع أن ينميه من قدرات بشرية بداخله، كان لجذوره السودانية في تكوينها دخل كبير، ونشأته في مصر أيضًا، سافر بكل ما عرفه من معلومات، وما كونه من خبرات سالبة وموجبة، لم يترك الآخرين خلفه، بل بقوا بداخله، كلمات الحكايات المبعثرة وأفكار حائرة، لأن المرء لا يتعامل مع الأحداث الجديدة بمعزل عن خبرته السابقة، بل تضاف كل خبرة جديدة إلى ما تعلمه، هذه هي النفس البشرية القادرة على الابتكار، والتعايش، لذا تدخلت في صياغة حياته الجديدة النشأة أيام الطفولة والصبا والشباب، لهذا نجد شخصية الكاتب داخل السيرة تنمو وتكتسي بالخبرة من مرحلة إلى أخرى، وهو ما يجد الروائي- أي روائي- صعوبة في هيكلته بهذه الحنكة أثناء كتابة رواية ذات أبطال وهميين.

كانت أولى الصعوبات التي واجهته البحث عن عمل في ظل المعوقات التي تواجه العربي بشكل عام والسوداني بشكل خاص؛ تعلم اللغة الألمانية لإيجاد لغة التواصل مع العالم الجديد. ثم استكمال الدراسة، وبحثه عن درب موازٍ يخفف الصعوبات التي تواجهه، إلى أن تفتق ذهنه عن حل، وكان طريق الأدب في هذا الوقت حلاً سحريًا اهتدى إليه الآخر بداخله، استطاع به أن يحافظ على هويتيه (المصرية/السودانية) اللتين سافر بهما واستطاع أيضا أن يتواءم مع هوية جديدة أضيفت إليه (النمساوية) وأن يملك فلسفته الخاصة، التي تصوغ ما يحكيه إلى الحد الذي يجعل مما يكتبه أدبًا يستحق أن يُقرأ ويكون موجودًا على الساحة؛ بهذا استطاعت «محطات من السيرة الذاتية» لكاتبها طارق الطيب أن تخرج عن مألوف السير الذاتية العربية وهو ما رصده النقاد الغربيون دارسو السير العربية أمثال دويت رينولدز، واصفين السير العربية بالتركيز على الفعل وليس الانفعال، وتصوير انفعالات الآخرين وإغفال انفعالات الذات.

إذا كان لكل مؤلف من مؤلفي السير الذاتية هدف حسب توجهه وأفكاره ومفهومه عن الكون والحياة؛ فإن الطيب استطاع في سيرته بلغة سلسة طيعة تمسك بالمعنى دون مبالغة أو انتقاص، وقصص لا تخلو من روح السخرية اللاذعة في كثير من الأحيان، أن يقول إن الحياة تسير على الرغم من كل الصعوبات، وأن الإصرار يخلق الأعمال العظيمة، وأنه علينا ألا نأخذ الحياة على محمل الحنق، فالتعامل بروح سمحاء مع الصعوبات التي تواجهنا والاستهانة بها أحيانًا بغرض التغلب عليها نوع من المقدرة الفائقة لا يستطيعها إلا قلة.
-----------------------------
* كاتبة من مصر.

------------------------------------------

من أين تأتي بالفصاحةِ كلها..
وأنا.. يموت على فمي التعبير
أنا في الهوى لا حول لي أو قوة
أن المحبّ بطبعه مكسور
إني نسيت جميع ماعلمتني
في الحب فاغفر لي وأنت غفور
ياواضع التاريخ.. تحت سريره
ياأيها المتشاوف المغرور

سعاد الصباح

 

منى الشيمي*