جمال العربية فاروق شوشة
جمال العربية
ألا في سبيل المجد لم يقدر لشاعر عربي سواه أن يحمل لقب الشاعر الفيلسوف، وإن كان غيره قد سمي بالشاعر الحكيم أو شاعر الحكمة، أما الفلسفة فقد ظلت مقصورة عليه بمعناها الواسع والمتعارف: رؤية في الحياة والناس، ومنهج في استقراء الظواهر والمواقف، ووجهة نظر تقلب الأشياء على وجوهها ثم ترتد إلى الفكر الكلي الشامل، تمتح منه المعنى والتفسير والدلالة. هذا هو أبو العلاء المعري، فيلسوف المعرة التي نسب إليها، ولطالما سخر من كنيته والناس تدعوه بأبي العلاء، لكنه كان يرى في نفسه رأيا آخر:
والناس مجمعة على تسميته برهين المحبسين: العمى وملازمة داره. أما فقد البصر فقد أصيب به وهو قرب الرابعة من العمر بعد مرض في عينيه أفقده القدرة على الإبصار، وأما ملازمته الدار فقراره الخاص الذي جعل منه نزيل هذا المحبس أكثر من أربعين عاما هي سنوات عمره الأخيرة التي بلغ فيها النضج والاكتمال. لكنه لا يرى الأمر على هذه الصورة التي تمثلها الناس، إنه - في نظر نفسه - سجين ثلاثة سجون لا سجنين:
والمعري عازف عن الحياة عزوف من عرفها وخبرها وعركها وتأملها، ببصر نافذ وعقل مشتعل، وأدت به المعرفة إلى اعتبارها سجنا، تتحرر منه الروح بفراقها للجسد، ليعود إليها طهرها ونقاؤها وشفافيتها، فالجسد نجاسة، ومسك القول لا يضمخه ولا يرضيه، لأنه مدرك للحقيقة، واصل إلى أغوارها، كاشف لأسرارها. الإجماع منعقد على أن عصر المعري كان عصر فتنة واختلاط واضطراب، ومن شأن الفتنة أن تعجل بأطراف الرأي وتباعد المذاهب واصطراع الرؤى والأفكار. والفتنة التي قامت باللاذقية - بين أتباع أحمد والمسيح - كما يقول المعري، كانت أبعد من هذا وأعمق، لقد كانت شاملة لمعنى الوجود والحياة، مزلزلة لمعاني الانتماء وقيم الانتساب، داعية أمثال المعري من المتأملين والعاكفين والزاهدين إلى الترفع والزهد والنأي بالنفس عن ساحة البغي والخسران:
وإذا كانت هذه الروح المتفلسفة المتشائمة هي التي صبغت حياة المعري وفكره وشعره في مرحلة النضج والاكتمال، وكشفت عنها تجلياته الإبداعية في ديوان "اللزوميات"، فإن ديوانه الأول: "سقط الزند" يقدم لنا صورة الفتى الذي يعرف قدر نفسه، ويضعها حيث ينبغي لها أن تكون، صونا ورعاية، وترفعا وإيثارا، وتقديما وتكريما. وفي إطار هذا الموقف المؤكد لذات المعري ووعيه بالاختلاف والتمايز والتفرد تجيء قصيدته التي نعرض لها في هذا السياق "ألا في سبيل المجد" نموذجا على نفس أبية كريمة، وصفات إنسانية رفيعة، وموقف من الحياة فيه حدة الإقدام الجسور، وعدم الرضا بالوضيع من الأمور والمواقف لأنها لا تليق به ولا يليق بها، وهو الذي يشرع لنفسه المنهج والسلوك، والعقيدة والطريقة، ويصل ما بين الغاية والوسيلة برباط خلقي محكمن ونسيج من مثالياته الخاصة التي تبدو مناقضة لمواضعات عصره وزمانه، ومجافية لطبع ناسه وإخوانه. واللغة الشعرية التي يصب فيها المعرى روح شاعريته ووهجها المتألق، لغة قوية عنيفة، تنطق بتمكنه وفحولته، وتباهيه بما يمتلكه من ثروة يصرفها كيف يشاء، وإحكام في التعبير لا يترك مكانا يشم منه القلق أو انعدام التماسك، وحرص على أن يظل رونق ماء الشاعرية منسكبا على وجه القصيدة، يفيض عنها ويغتني بها، ومعه هذا الإيقاع الموسيقي الهادر في شعر المعري، إيقاع من طراز جليل، فيه سمت المعري الذي يتلقف سمعه حركة الوجود ودلالاتها بعد أن توقف بصره عن الاستقبال، ويصغي - بكل الجوارح - لصخب الحياة وعنفها وتطاحن أبنائها - تسابقا إلى ما يعده هو خسة ودناءة - وإذا به يحيل سخطه إلى إيقاع جياش، يماثل صخب هذه الحياة، وفواصل حادة قاطعة تماثل بغتات هذه الحياة وفجاءاتها، تلك الحياة التي فجعته في أبيه وهو في ميعة الصبا ثم في أمه وهو يتكئ عليها في ميعة الشباب واقتبال العمر - وهكذا تتآلف عناصر اللغة والموسيقى والتشكيل الشعري في خلق قصيدة المعري على نسق خاص ومغاير، فيه التوقف وفيه التدفق، فيه الحدة وفيه الإيغال، فيه العرامة والفحولة وفيه التلقائية والجيشان:
يبقى أن نشير إلى أن كثيرا من أبيات هذه القصيدة - بما أتيح لها من إحكام نادر وصياغة رائعة ونفاذ رؤية وعمق تناول - قد تجاوز فضاءها المحدود سابحا في فضاء الوجود الشعري المطلق، عندما يتمثل به الناس في حالات مختلفة، وتستحضر الذاكرة عند الملابسات المماثلة والمواقف العارضة، وهو ما سبق للمتنبي إنجازه في العديد من قصائده ومن هنا كانت تسميته - وقبله تسمية أبي تمام - بالشاعر الحكيم. لكن حكمة المعري مغايرة لحكمة المتنبي، حين ينتظمها سياق متصل متتابع، ورؤية متكاملة للوجود، وموقف صريح من الحياة والموت، والتزام صارم بما تستلزمه هذه الرؤية - الفلسفة - من يقين مطلق، وحسم باتر. وهو التغاير الذي يفسر المسافة بين الحكيم والفيلسوف، ويفسر لنا إغراب المعري في تقصيه للفكرة وإلباسها الثوب المتسق مع يقينه والتزامه:
|
|