إلي أن نلتقي أنور الياسين

إلي أن نلتقي

غزو من الفضاء.. أم من الأرض؟

هبط الطبق الطائر بلون الفضة ، وخرج منه مخلوقان صغيران بلون الفضة أيضا. كان أول من شاهدهما أختان عانستان حسبتاهما عريسين قادمين للزواج ، وعندما تبينتا أنهما مخلوقان من الفضاء الخارجي صرختا من فرط خيبة الأمل لا من الفزع ، وانتشر الخبر في المدينة الصغيرة فدوت صفارات الإنذار وتدافعت سيارات الشرطة ، حاصرت المكان وأمرت المخلوقات بالاستسلام ، ولكن المخلوقات الصغيرة ذات القوة الخارقة ضحكت في سخرية ، وحين أطلقت الشرطة عليها الرصاص توقفت الطلقات جامدة في الهواء ، وجاءت قوات الجيش تتقدمها الدبابات ، لكن القذائف أيضا توقفت ، بل إن الدبابات بلمسة واحدة من مخلوقات الفضاء طارت بعيدا لتسقط وسط الطرق المزدحمة. وفي النهاية هتف قائد الجيش يائسا.. ("حسنا ما هي شروطكم للاستيلاء على العالم.." ورد عليه أحد المخلوقات مدهوشا.. "ومن قال إننا نريد العالم.. كل ما نريده قطعة ساخنة من "البيتزا"...).

هذه القصة القصيرة الساخرة تنهي موجة كبيرة من أدب الخيال العلمي الذي ساد العالم منذ مطلع الخمسينيات. كلها قصص ورؤى عن تلك المخلوقات البشعة الخضراء اللون غالبا ، التي تمتلك قوى خارقة ولا هم لها إلا غزو العالم وتحويل سكانه إلى عبيد عندهم. موجة انتشرت عبر عشرات الكتب والأفلام والمجلات المصورة كأنها حمى أصابت الجميع ، ولم يتوقف الأمر عند الخيال ولكن تعداها إلى مئات من شهود العيان الذين كانوا يقسمون كل يوم أنهم شاهدوا الأطباق وهي تهبط والمخلوقات وهي تتسلل. حمى تصاعدت سخونتها مع تصاعد الحرب الباردة وحملت في دلالتها ذلك الخوف من المعسكر الآخر الذي يسكن معهم على نفس الأرض متحصنا خلف الستار الحديدي. كانت هذه هواجس الخوف من الغزو السوفييتي لأوربا. وهو خوف كان مليئا بالمبالغة من انتشار الخطر الشيوعي. ومن التهديد النووي بالفناء ومن فقدان الإنسان الغربي لحريته ، وكانت أمريكا بما لديها من وسائل الدعاية والإبهار تزيد من حدة هذه المخاوف. فقد كانت تبحث دوما عن طرف تلعب معه دور الخصم ، تحاربه وتهدد به الآخرين. ولعل هذا البحث مازال قائما حتى الآن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.

ولم تكن الهواجس وقفا على العقل الغربي وحده. فقد عانى المعسكر الشرقي هو أيضا منها وامتلأت الأدبيات والأفلام بقصص مصاصي الدماء كناية عن الرأسماليين الذين يمصون دماء البسطاء. وامتدت المخاوف إلى اليابان فامتلأت أفلامها بالوحوش العمالقة والديناصورات العائدة من قلب التاريخ بعد أن أيقظتها الإشعاعات الذرية وجعلتها أكثر توحشا. وتختلف الكوابيس اليابانية عن الهواجس الغربية بأنها مبنية على الواقع. فالوحش الذري قد استيقظ بالفعل في أراضيهم وأصاب نجازاكي وهيروشيما بلعنة مازالت آثارها موجودة حتى الآن.

ولقد حاول الكثير من الكتاب والفنانين التصدي لهذه الحمى. وربما كان المخرج ستيفن سبيلبرج هو أول من تنبأ بزوال كابوس الحرب الباردة حين صنع فيلمه الشهير "إي. تي" فهذا المخلوق القبيح الذي هبط من الفضاء ضائعا ومسكينا لم يكن يحمل أي سلاح مدمر ، بالعكس كانت لمسته شافية من الأمراض وأنفاسه كفيلة ببعث الحياة في الأزهار الميتة. لقد تحول المخلوق الفضائي إلى طفل تائه لا يريد أكثر من العودة إلى بيته. مثلما تحول الوحش "كنج كونج" إلى عاشق من طرف واحد. كانت هذه الأفلام هي دعوة للمصالحة مع الخوف الكامن داخل الذات ونزع الأوهام والهواجس ، فلا يمكن أن تصالح الآخرين دون أن تصالح نفسك أولا.

 

أنور الياسين

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات