النظرية... عندما تعترض تقدم أمة!

النظرية... عندما تعترض تقدم أمة!

إذا كان المسلمون في هذا العصر سيحققون تجديداً فعّالاً للفكر الإسلامي حيال مستجدات الحضارة والتقدم الحديث, مع الحفاظ على جوهر إيمانهم. وإذا كنا كعرب ومسلمين سنتفاعل إيجابياً مع حركة (العولمة) التي تعم العالم في مختلف الميادين, فلا بد أن نعيد النظر في (نظرية) مازال لها تأثير كبير في أوساط الخاصة والعامة, لأنه إن لم تفقد سطوتها فإن المعركة الخاسرة التي نخوضها ضد حركة الحضارة والعصر سوف تكلفنا المزيد من ضياع الفرص التاريخية لتصحيح موقعنا في مسيرة الركب الإنساني.

في النصف الأول من القرن العشرين سادت أوساط المفكرين العرب المحدثين نظرية غريبة ـ لكنها ذات بريق وهيبة ـ مؤداها أن الحضارة كائن عضوي واحد متكامل, وأنها كل لا يتجزأ, وأنه عندما يتم اقتباس جزء أو جانب منها, فإن ذلك الجزء المقتبس سرعان ما يستدعي ويجذب سائر الأجزاء الأخرى معه إلى موطن استنباته الجديد... وهكذا تنتقل معه حضارته كلها بصورة حتمية, وإن لم تكن مقصودة أو مخططا لها.

وكان أصحاب هذه النظرية يدللون على حجتهم بالقول على سبيل المثال: إذا اقتبسنا الصناعة الحديثة فلا بد من النظريات العلمية التي تقف وراءها... وهذه النظريات العلمية وراءها أيضاً نظريات اجتماعية وأخلاقية وكونية.. تترابط وتتداعى معها. ثم إن الصناعة سلوك وقيم وليست مجرد ساعات عمل في مصنع.. وهذا يعني في النهاية ـ حسب تلك النظرية ـ أن اقتباس الصناعة الحديثة يحتم اقتباس الحضارة الحديثة, أو بالذات الحضارة الأوربية الحديثة ربيبة تلك الصناعة... ولربما كان الدكتور طه حسين أصرح من عبر عن هذه النظرية ودعا إليها في الثقافة العربية عندما قال في كتابه المشهور والمثير للجدل (مستقبل الثقافة في مصر) الصادر عام 1938: (إن علينا اقتباس الحضارة الأوربية الحديثة: خيرها وشرها... حلوها ومرها...) ـ مؤكداً بذلك هذه الفرضية القائلة إن الحضارة كل لا يتجزأ, وأنه لا يمكن أخذ الحلو منها وترك المر,وأنه من أجل حلوها علينا احتمال مرّها!

والواقع أن طرح الحضارة على أنها كائن عضوي متوحد وكيان شامل واحد. فكرة تبدو نظرياً ومنطقياً قوية التماسك... وهي صحيحة بالنسبة للحضارة ونموها في موطنها الأصلي... فالحضارة العربية الإسلامية كائن عضوي واحد في موطنها العربي الإسلامي... ولكن عندما يأتي شعب آخر أو حضارة أخرى للاستفادة من بعض منجزات الحضارة العربية الإسلامية فهل عليه بالضرورة أن يقتبس هذه الحضارة كلها? والحضارة الإغريقية كانت حضارة واحدة متكاملة في موطنها اليوناني... ولكن عندما اقتبست منها الشعوب الأخرى هل اضطرت إلى استيرادها بالجملة? وهل جاءت الحضارة الرومانية ـ التي تتلمذت على اليونان ـ نسخة طبق الأصل لحضارتهم? أم هل أتت الثقافة اليابانية, التي تتلمذت بعمق على الصين, صورة مستنسخة عن الحضارة الصينية?

الغريب أن مفكراً وفيلسوفاً للتاريخ في مستوى المؤرخ أرنولد توينبي المعروف باعتداله واتزانه يقع هو الآخر في أسر هذه النظرية في بعض المواضع من كتاباته إن لم يكن في كلها... لأن فكرة الوحدة الحضارية العضوية المترابطة كانت حجر الأساس في منهجه لدراسة التاريخ.

ليست ضرورة
إلا أنه يمكن الإثبات, من عشرات الشواهد التاريخية, أن الوحدة الحضارية العضوية في موطنها يمكن الاقتباس منها جزئياً دون الاضطرار إلى نقلها برمتها إلى مواطن أخرى, فقد اقتبس الأوربيون في بداية نهضتهم المنهج العلمي التجريبي والتفكير الفلسفي العقلاني, وأبرزه الفلسفة الرشدية, من الحضارة العربية الإسلامية مع طرائق ومخترعات ومصطلحات كثيرة أخرى, دون أن يستوردوها كلها, ودون أن يتأثروا بجانبها العقائدي ولم (يتأسلموا), بل أقاموا حضارتهم الأوربية الحديثة بتميز عن حضارة العرب والإسلام ـ من الناحية العقيدية والقيمية خاصة ـ على الرغم من اقتباسهم الغزير منها.والعرب المسلمون أنفسهم اقتبسوا عناصر حضارية عديدة في عهد ازدهار حضارتهم الإسلامية من الإغريق والفرس والهنود, ودمجوا ذلك دمجاً عضوياً في حضارتهم الخاصة بهم والمتميزة عمن عداهم, دون أن يضطروا لاستيراد حضارات تلك الأمم بكاملها خاصة في جوانبها العقائدية والقيمية, حيث ظلت الحضارة العربية الإسلامية متمسكة ومتميزة بعقيدتها وقيمها, على انفتاحها وتسامحها المعهود مع مقتبسات ومؤثرات الحضارات الأخرى.

وفي أيامنا هذه بالذات, نرى الياباني يأخذ تقنية الكمبيوتر والإلكترونيات من الغرب دون أن يأخذ منه نظرية داروين, أو يلتزم ضرورة بنظرية فرويد, أو يتأثر بالعقيدة المسيحية, أو بالأيديولوجية الماركسية, أو ما إلى ذلك من المعطيات الفكرية والقيمية للحضارة الغربية.

تلاقي الفرقاء
والمفارقة العجيبة أن طرفين متناقضين أشد التناقض يلتقيان في القول بنظرية الاستيراد الكامل أو الرفض الكامل. فالتغريبيون يقولون: (علينا أن نأخذ الحضارة الغربية كلها... لأنها كل لا يتجزأ.), وخصومهم (الأصوليون المتشددون) الرافضون للحداثة الإنسانية جملة وتفصيلاً يقولون علينا أن نرفضها كلها, حتى ما بدا مفيداً منها لأنها كل لا يتجزأ!

والمستشرقون ـ المتعصبون منهم ضد العرب خاصة ـ يدخلون بين هؤلاء وأولئك ليصطادوا في الماء العكر قائلين: نعم إن الحضارة كل لا يتجزأ... فعلى العرب المسلمين قبولها كلها وتجاوز تراثهم الحضاري, أو رفضها كلها والبقاء متخلفين. وواضح الهدف المغرض لهذه المدرسة الاستشراقية من وضع العرب بين هذين الخيارين المستحيلين..

ومن حسن الحظ فإن تجارب الأمم الشرقية مع الحضارة الحديثة في اليابان وفي الصين وفي الهند, تثبت خطأ نظرية الاستيراد الكامل وتدحض حتميتها, وتقدم أدلة جديدة كل يوم على إمكان الاستيعاب مع الغربلة الواعية الناقدة للحفاظ على الهوية الذاتية.. وما أكثر ما أغوت الفكر العربي نظريات ما أنزل الله بها من سلطان!

الحياة خضراء...
وأخيراً, فإن الحياة خضراء.. أما النظرية فرمادية, كما تذهب إلى ذلك المقولة الحصيفة.

ومن طبيعة الحياة... الحياة الخضراء... التفاعل الحي مع معطيات كل ما يحيط بها من عناصر, وامتصاص ما يتناسب منها, وفرز ما لا يناسب... والمهم أن تكون (المعدة) المتلقية والهاضمة لدى الأمة قوية معافاة قادرة على الاستيعاب والتمثل لا ترتبك عندما يأتيها عنصر غذائي لم تعتده. أما النظريات الرمادية فليس من شأنها إلا أن تحجب اخضرار الحياة وجدلياتها الطبيعية, بل تناقضاتها المبدعة!

والحكمة ضالة المؤمن, يأخذها أنّى وجدها... وإذا كان ثمة وجه إيجابي للعولمة وحوار الحضارات, يمكن للعرب والمسلمين, أن يستثمروه لصالح تقدمهم, فهو اعتماد نهج الاختيار الناقد الحر من الرصيد الحضاري الإنساني المعاصر كله, والانعتاق من نظرية التغريب الكلي!

 

 

محمد جابر الأنصاري