مستقبل الثورات

 مستقبل الثورات

ما هو مستقبل عمليات إحداث التغيير الكامل، أو بالأحرى، ما هو مستقبل الثورات في هذا القرن الجديد؟

تُعرف الثورة بأنها لحظة (التغيير الكامل) في الأوضاع, وفي طرق إجراء أو عمل الأشياء, وخاصة (التغيير في نظام الحكم باستخدام القوة). إن الأهمية الإنسانية والتاريخية لمصطلح الثورة تنبع من ذلك الحدث الخاص جداً, وهو (التغيير الكامل), وإذا كانت (الثورة) كتغيير كامل قد عرفت وارتبطت تاريخياً - في الأساس - بتغيير أنظمة الحكم, فهل تظل الثورة مستقبلاً كفعل وكتغيير كامل مرتبطة بالتغيير في نظم الحكم?!

في إطار الاستشراف المستقبلي لهذا الموضوع يمكن الإشارة إلى ملاحظتين:

الملاحظة الأولى: أن معدل حدوث الثورات منذ الثورتين الأمريكية (65-1775) والفرنسية (89-1795) أخذ يتزايد مع الزمن حتى ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن العشرين (الثورة الإيرانية 78-1979), وبعدها بدأ الإيقاع يتناقص بشدة.

الملاحظة الثانية: أن تيار الثورات الكبرى في التاريخ الحديث قد بدأ في أوطان شهدت تفاعلات رئيسية في الحضارة الغربية (شمال أمريكا - فرنسا), ثم عرج على الشرق العريق (الثورة البلشفية في روسيا/1917 - ثورة مصطفى كمال في تركيا/1923 - ثورة الجيش الأحمر في الصين/46-1949), وبعدها بدأ طوفان ثورات العالم الثالث في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا.

وهكذا, من الملاحظتين السابقتين يظهر أن الثورة كتغيير لنظام الحكم ظهرت في مناطق كانت - نسبياً - أكثر تقدّماً, وانتقلت مع الزمن إلى المناطق الأقل تقدما, وأن الإنسانية تكاد تكون قد وصلت إلى فترة ختام (أو سقف) عصر الثورات بهذا المعنى التاريخي.

لقد كانت القوة الدافعة Driving Force لتوليد الثورات في أنظمة الحكم على مدى التاريخ تتمركز في الخلل البيّن في التوازنات بين عناصر المجتمع (في أمور القوة والاحتياجات), فهل تضاءلت احتمالية حدوث الثورات التقليدية في أنظمة الحكم نتيجة اختفاء أو تقلص الخلل في التوازنات? أم نتيجة لأسباب أخرى?

رغم أن المشاهد الآن - في نهاية القرن العشرين - أن التفاوتات في الوزن المالي والاحتياجات المالية لأفراد المجتمع, سواء في بلدان الشمال أو الجنوب أو على مستوى العالم ككل, قد زادت جداً على ما كانت عليه في أواسط وبدايات القرن, وربما أيضاً في القرنين السابقين, فإن عوامل جديدة قد ظهرت كان من شأنها إحداث تجانسات إنسانية - نسبية - من نوع جديد أدت إلى محو أو إضعاف أهمية الخلل في التوازنات كقوة دفع للثورة. إن هذه العوامل يمكن ذكرها كما يلي:

(1) منتجات العلم والتكنولوجيا, والتي أدت إلى متغيرين رئيسيين:

أ - إلغاء الحواجز وزيادة التجانس (على مستوى الزمان والمسافات, وعلى مستوى الاستخدامات والاحتياجات الفيزيائية للبشر).

ب - إحداث تطويرات رهيبة في وسائل وقدرات الأمن والاستخبار والردع على المستويات المجتمعية الصغيرة.

(2) بلوغ البشرية حداً أدنى متعارفاً عليه - إلى حد كبير - من القبول والمراعاة (ولو شكلاً أحياناً) لحقوق الإنسان وللأداء الديمقراطي, بحيث إن خروج أي نظام حكم عن مدى هذا الحد الأدنى قد يعني موقفاً درامياً دولياً ضد نظام الحكم.

(3) تطور نوعي وكمّي في التجارة والاستثمار في السلع والخدمات عبر الحدود, صاحبه تصاعد حاد في التوازي والتشابك والتجانس بين الطبقات والفئات أصحاب المصلحة في التجارة والاستثمار المالي على المستويين الدولي والمحلي.

(4) التحوّل إلى نظام عالمي مختلف توجد فيه قوة دولية واحدة (دولة أو حلف) تقوم بدور الشرطي الأوحد, وبالتالي لا يوجد في الإطار المفاهيمي والديناميكي لعمل هذا الشرطي غير اتجاه واحد للأمور, وهو الاتجاه الذي يقبله ويتبناه. وعليه تكاد تنعدم الظروف التي تزدهر معها آليات قبول وتأجيج ورعاية اتجاهات مضادة لأنظمة الحكم .

(5) تغيير دور الحكومات, وهو أمر ناجم من نسيج بعض العوامل السابقة, حيث تدير الحكومات دفة الأمور - في أغلب الأحيان - في إطار اقتصادي اجتماعي سياسي مقبول من القوى المالية والتجارية والسياسية المهيمنة على العالم .

ثورات جديدة

1- الثورات الميكرو:

بقدر ما أدت العوامل الخمسة السابقة إلى خفض فرص بزوغ ثورات تقليدية (تهدف إلى تغيير كامل لنظام الحكم بالقوة), فإن هذه العوامل نفسها قد ساهمت (وتساهم) إلى حد كبير في التحوّل إلى نوع جديد من الثورات أو التغييرات الكاملة, إن هذا النوع الجديد من الثورات ينشأ في إطار حاجات جديدة تماماً, وظروف جديدة تماماً, وهي حاجات وظروف تتمركز حول النقاط التالية:

- حاجة القوى المهيمنة على العالم إلى تسويق منتجات العلم والتكنولوجيا من سلع وخدمات.

- حاجة البشر إلى الاستفادة باستمرار من منتجات العلم والتكنولوجيا من أجل التغلب على المشكلات وتحسين الأداء, وجعل الحياة أيسر وأسهل.

- السعي الحثيث في الجنوب لتقليد الشمال (في طريقة الحياة واستخدام المنتجات وحل المشكلات), وهو سعي من شأنه أن يتبع الجنوب الشمال في كل شيء, ذلك بينما الشمال يقدم منتجات مادية أكثر تطوّراً بكثير عمّا يقدم من تجديد للمفاهيم والفكر, وهو الأمر الذي يحصر الجنوب في إطار إحداث تغيير فيزيائي في الأساس (وليس تغييراً فكرياً), وبالتالي يكون منتهى أمل هذا التغيير التشبّه بالشمال ونقل واستيراد التغييرات التي تحدث فيه.

- إن العامل السابق يعني حدوث تجانس عالمي نوعي في التغييرات الكاملة (الثورات) والتي هي - في الأساس - متعلقة بمنتجات العلم والتكنولوجيا عند الشمال.

وهكذا, الظروف والحاجات السابق الإشارة إليها تؤدي إلى حصر وتوجيه وتكريس - شبه كامل - للتغييرات الكاملة لتكون في (طريقة الحياة) وليس في (نظام الحكم) أو في نظام مجتمعي كامل كما كان الأمر في عصر سابق.

إن البشرية, إذن, قد دخلت بالفعل عصر الثورات الجديدة, وهي الثورات المتصلة بطريقة الحياة, ويمكن تسميتها الثورات الميكرو (أو الثورات الدقيقة). إن مجال حدوث هذه الثورات هو دوائر اجتماعية صغيرة ومحددة, هذه الدوائر يمكن أن تكون - على سبيل المثال - في أجزاء من المجالات التالية: - التعليم (ثورة في طرق وأدوات التدريس والتعلم). - الرياضة (ثورة في طرق التدريب). - الطب والصيدلة (ثورة في أدوات ومناهج العلاج واكتشاف وبناء الأدوية). - إدارة المؤسسات (ثورة في أهداف وطرق ووسائل الإدارة). - الاتصال (ثورة في المواصلات والمعلوماتية). - البناء وتصميم الآلات (ثورة في المواد الجديدة). - البحث العلمي (ثورة في العلاقة بين التكنولوجيات الراقية وبعضها بعضا).

إنها كلها تغييرات جذرية (أو تغييرات كاملة) لكن في دوائر صغيرة اجتماعياً, وليست أبداً ثورات اجتماعية سياسية اقتصادية في أنظمة الحكم, وهنا ربما يجدر التنويه إلى أنه رغم اضمحلال فرص ظهور ثورات (بمعنى تغييرات كاملة) على مستوى الدولة, فإن هناك, فعلاً تغييرات كاملة تحدث (أو يمكن أن تحدث) على هذا المستوى لكن بالتدريج, وبشكل تلقائي إلى حد كبير.

وهكذا تعتبر الثورات الميكرو أعمالاً تقدمية, فهي تظهر أساساً, وفي الأغلب في المجتمعات المتقدمة (تماماً كما كان الأمر بالنسبة للثورات التقليدية), ثم تنتقل إلى المجتمعات الأقل تقدّماً.

والجدير بالانتباه هنا أنه يمكن أن تحدث سلسلة متواصلة أو متقطعة من الثورات الميكرو في المجال نفسه.

2- الثورات السوبر:

وإذا كانت الثورات الميكرو قد ظهرت بالفعل, وستظهر وتنتشر أكثر وأكثر في المستقبل, فإن هناك نوعاً جديداً من الثورات, وهو الثورات السوبر, إنها الثورات التي تتعلق بتغيير كامل على مستوى العالم, أي الثورات الجلوبال أو (العالمية), وتحدث هذه الثورات نتيجة عوامل تبزغ من/وبواسطة القوى المهيمنة - نسبياً - على العالم.

إن هذه العوامل تأخذ شكل قوة معنوية أو تنظيمية أو أداة فيزيائية (مثل العلم والتكنولوجيا والتجارة), وفي هذا الإطار يمكن اعتبار قوانين التجارة العالمية ثورة سوبر, وكذلك يمكن اعتبار كل من الانترنت والهندسة الوراثية والمواد الجديدة والذكاء الاصطناعي ثورات سوبر.

يمكن القول بوجود ديالكتيك - يكاد يكون - لحظي السرعة بين الثورات السوبر والثورات الميكرو, فمثلاً الثورة في طرق التدريس (وهي ثورة ميكرو) ترتكز على أدوات ووسائل اتصال وتعبير وتنظيم من منتجات الثورة السوبر في الاتصال والمعلوماتية, إن التفاعل بين الثورات الميكرو والثورات السوبر يصل أيضاً إلى ممارسات الديمقراطية والإدارة في المجتمعات الصغيرة, حيث يمكن استخدام الكمبيوتر والدوائر التلفزيونية في عمليات التصويت, وحيث تختزل خبرات الإنسان في أنظمة خبيرة Expert Systems, يمكن استخدامها لتصويب عمليات اتخاذ القرار, وهكذا يمكن القول إن الثورات الميكرو هي دوائر لتطبيقات الثورات العالمية السوبر, ولكن على مستويات مجتمعية صغيرة ومحددة مجالياً أو جغرافياً, كما يمكن القول أيضاً إن الثورات الميكرو من شأنها أن تؤدي - من خلال التطبيق - إلى اكتشاف متطلبات التجديد في الثورات السوبر, وإلى المساهمة في تحقيق هذه المتطلبات.

ماذا بعد الثورات الميكرو?

يمكن التنبؤ بأن دوائر عمل الثورات (بمعنى التغييرات الكاملة) تصبح دوماً أدق وأصغر Micronized and Miniaturized بحيث إنها تقترب من (بل وقد دخلت فعلاً إلى) البناء الداخلي لشخصية الإنسان وإلى أدائه لحياته اليومية, وليست الهندسة الوراثية والعلاج بالجينات وتغيير الأعضاء والاعتماد المتزايد على الكمبيوتر.. إلخ, إلا مقدمات أولية في هذا الاتجاه.

موقف الإنسان والسلطة في البلدان النامية (أو ما ينبغي عمله بواسطة شعوب وحكومات هذه البلدان):

يتحدد موقف الناس والسلطات (بمعنى الشعوب والقوى الحاكمة) في البلدان النامية على أساس مدى وطبيعة إدراك واستشراف المتغيرات.

وفي تقديرنا, هناك حاجة إلى صياغة خطوط إرشادية مرنة تهدف إلى تعظيم الاستفادة من التغييرات النوعية البازغة القادمة بشأن الثورة كفعل مجتمعي تطويري, وإلى ترشيد التعامل مع هذه التغييرات, ومن هذه الخطوط الإرشادية يمكن الإشارة إلى ما يلي:

- بذل الجهد من أجل الاستيعاب الذهني الكامل للثورات السوبر.

- استشراف الانعكاسات المحتملة للثورات السوبر على طبيعة ومشكلات الحياة بوجه عام, وكذلك استشراف التطبيقات المحلية الممكنة لمنجزات الثورات السوبر.

- استيعاب التباينات الخاصة بالثورات الميكرو من حيث المداخل والأدوات والنتائج والانعكاسات, في إطار تباينات ظروف مختلف مجتمعات العالم (بمعنى معرفة الخبرات المتولدة عند الآخرين).

- النظر إلى الثورات السوبر والثورات الميكرو (من حيث أطرها والخبرات الخاصة بها والانعكاسات الحادثة والمتوقعة عنها) من منظور التواؤم مع (وتطوير) الأبعاد والخصائص التراثية والنفسية لمجتمعات البلدان النامية, وذلك بحيث يؤخذ في الاعتبار الخصوصيات المجتمعية بطريقة يكون من شأنها إحداث تآزر وتضافر Synergism بين المجتمع (بإيجابياته وسلبياته), من ناحية, والثورات الميكرو من ناحية أخرى, إن ذلك يعني الاهتمام بما يمكن أن يطلق عليه (نوعية النقل) للثورات الميكرو.

- التعامل مع الثورات الميكرو ليس فقط في إطار فيزيائي (النقل والتطبيق والتكلفة والعائد المادي.. إلخ), ولكن أيضاً في إطار فكري منطقي, إن التعامل مع الثورات الميكرو بالارتكاز على الفكر والمنطق يساعد في ترشيد (نوعية النقل), ويعضد من قدرات الاستيعاب التطبيقي للثورات الميكرو من منظور تعظيم المصالح المحلية (مصالح الناس والأنظمة و.. السلطات).

- استخدام الثورات الميكرو في تطوير الفكر الوطني والعمل السياسي القومي.

- النظر فيما ينبغي أن يستلهم من الثورات السوبر فيما يتعلق بإدارة الدولة وإدارة المجتمع الكبير (القطر - الإقليم), ومن المفاهيم والركائز التي يمكن استلهامها ما يلي:

- الأهمية القصوى للعلم والتكنولوجيا, والسبيل لإدخالهما في النسيج اليومي والاستراتيجي لحياة الناس ولفكر وقرارات السلطات.

- المنهج التوافيقي Combinatorial Method في اتخاذ القرارات وفي الأداء المجتمعي (وهو المنهج الذي يقوم على حساب كل البدائل الممكنة واختيار أحسنها).

- تعظيم التواصل (الجغرافي والسياسي والنفعي) بين جميع أجزاء وعناصر المجتمع.

 

محمد رءوف حامد