الموت فجأة

الموت فجأة

يصف علماء الأنثروبولوجيا سلوك وعادات الإنسان في القبائل البدائية, ويقدمون بعملهم هذا حقائق مثيرة وظواهر مدهشة عن أنماط التفكير لدى بني الإنسان. ومن ملاحظات هؤلاء العلماء تنشأ مادة علمية متميزة يتوفر عليها فيما بعد علماء النفس والاجتماع والتربية والفلاسفة وكل المهتمين بالعلوم الإنسانية. ولعل من أكثر الظواهر إثارة للتأمل والتفكير تلك المسمّاة ظاهرة موت فودو Voodoo التي سجلها الأنثروبولوجيون في بعض قبائل أواسط إفريقيا.

تبدأ القصة - كما يرويها الأنثروبولوجي الأمريكي كانون Canon حين يكتشف أحد رجال القبيلة أن واحداً من أعدائه قد تمكن من أن ينصب له فخاً سحرياً شريراً, وذلك بأن يضع على الأرض قطعة من العظم مصوّبة تجاهه بطريقة معينة. وما إن يفطن الرجل إلى ما أصابه من (سحر) حتى يصاب بصدمة فيتجمّد في مكانه مسمّراً عينيه في (السلاح القاتل), ويرفع يديه أمام وجهه كما لو كان بهذا يحاول أن يرد عن نفسه (شيطان السحر القاتل) الذي يتخيل أنه سيحل في جسده بعد لحظات.. تشحب وجنتاه, ويتجمد التعبير في عينيه فتصبحان كما لو كانتا قد قُدتا من زجاج, وتتشنج عضلات وجهه الشاحب معبّرة عن رعب رهيب, وقد يحاول الصراخ ولكن صوته يخونه وينحبس في حلقه لتخرج رغوة بيضاء من فمه بدلاً من الكلمات. ثم يبدأ جسده في الارتجاف وتتقلص عضلاته رغم إرادته, ثم يميل بقامته ليسقط على الأرض, فيبدو كما لو أنه قد غاب عن الوعي, ولكن سرعان ما يبدأ في نواح محشرج كما لو كان في النزع الأخير, ويضم وجهه بيديه مصدراً فحيحاً ينم عن ألم فظيع يعانيه. وبعد لحظات يستعيد توازنه والسيطرة على نفسه ويمشي بهدوء إلى بيته, ومنذ وصوله يمرض ويعاني, فيرفض تناول الطعام ويمتنع عن القيام بأبسط الأعمال اليومية في بيته أو في قبيلته, وإذا لم يخفّ ساحر القبيلة لنجدته فإنه يموت بعد وقت قصير!

ويحدّثنا عالم انثروبولوجيا آخر هو بينكرتون Benkerton عن حالات موت مفاجئة لأشخاص أصحاء تماماً إذا اكتشفوا أنهم قد ارتكبوا خطيئة كبرى ضد القوانين الإلهية. وكمثل على ذلك يروي لنا قصة شاب نزل في ضيافة أحد الأشخاص الأكبر منه سناً من خارج القبيلة, فقدم هذا الأخير له وجبة مصنوعة من لحم الدجاج البري. وسأل الشاب مضيفه فيما إذا كان اللحم الموجود في الوجبة مصنوعاً من الدجاج البري, لأنه من المحظور على الشباب في ديانته بشدة تناول هذا اللحم وإلا تعرضوا للعنة إلهية قاتلة, فأجابه المضيف بالنفي. وأكل الشاب الوجبة بنهم حتى شبع, وغادر دار صديقه مسروراً. وبعد بضع سنين التقى المضيف صديقه الشاب, فسأله ممازحاً فيما إذا كان قد تناول يوماً لحم الدجاج البري, وحين ردّ الشاب مؤكداً بالنفي أخبره ضاحكاً أنه قد تناول عنده مثل هذه الوجبة منذ عدة سنين. وما إن سمع الشاب هذا الكلام حتى انفعل انفعالاً شديداً, وبدأ جسده بالارتجاف بشكل عنيف, ولم تمض أكثر من أربع وعشرين ساعة حتى أصبح الشاب جثة هامدة!

تفسير علمي
إن هذه الحوادث وكثيرا مثلها تجري في مجتمعات تؤمن بقوة السحر الأسود, وبتدخل قوى شيطانية في حياة الإنسان ومصيره, وقد تم فحص كثير من هذه الحالات من قبل علماء النفس والطب والفسيولوجيا, وتم التأكد من واقعيتها وصدق مجرياتها, على الرغم من صعوبة اقتناع معظم أفراد المجتمعات المتمدنة بصدق وواقعية مثل هذه الأمور. كيف يمكن لنا إذن أن نفسر مثل هذه الحوادث دون أن نُصدّق في الوقت نفسه أن السحر الأسود الذي يمارسه هؤلاء الناس هو المسئول عمّا يحدث?

إن النظريات العلمية الطبية والنفسية الحديثة تضع عدة افتراضات للأسباب الفسيولوجية لظاهرة الموت المفاجئ الموصوفة سابقا , ومن أهم ما ينبغي علينا أن نتذكره في هذا المقام هو اكتشاف أن بمقدور منظومة القناعات المعرفية لدى شخص قد حلت عليه لعنة يؤمن بها هو وأفراد المجتمع المحيط به, أن تولّد لديه مجموعة من التغيرات الفسيولوجية السريعة على مستوى إفرازات الغدد الصم (وخاصة كمية الأدرينالين) التي يرى البعض أن ازديادها إلى درجة هائلة في الدم يقود إلى شيء من الأذى على صعيد الأوعية الدموية الشعرية, التي تبدأ حينذاك في تسريب الدم إلى الأنسجة المحيطة بها, مما يقود إلى انخفاض سريع في كمية الدم في الجسم, الذي يصاب بالتالي بصدمة صحية تسيء بشكل واضح إلى طريقة عمل القلب والجهاز العصبي لديه, متسببة من خلال ذلك في وفاته.

وهناك تفسير فسيولوجي آخر يقول إن سبب مثل هذه الوفاة قد يكون فرط استثارة الجهاز الباراسمبثاوي (نظير الودي) بشكل يؤدي إلى تباطؤ شديد في عمل القلب وإلى انخفاض مفاجئ في حرارة الجسد بالتالي, مسبباً بالنتيجة الموت لصاحبه.

وسواء أكانت آلية الوفاة تتم عن هذه الطريق أو تلك, فإن من الواضح في كلتا الحالتين أن ما يستثير الخلل الفسيولوجي هو سبب أعمق ذو طبيعة نفسية صرفة.

وقد أجريت دراسات عدة على حوادث الموت المفاجئ وغير المتوقع, كان من أسبقها تلك الدراسات التي جرت أثناء الحرب العالمية الثانية لحوادث وفاة عديد من الجنود الأمريكيين الذين لم يشاركوا قبيل وفاتهم في العمليات الحربية, وبتحليل مئات من هذه الحالات التي حدثت بين عامي 1942و1946, فقد تبين أن هؤلاء الجنود كانوا أصحاء تماماً قبل وفاتهم, وأن بعض الأعراض السريعة قد بدأت في الظهور لديهم قبيل وفاتهم بحوالي 24 ساعة دون أي أسباب فسيولوجية مقنعة, مما يرجح الفرض القائل إن حوادث الموت المفاجئ الناجمة عن أسباب نفسية ليست أبداً حكراً على المجتمعات البدائية المؤمنة بقوة (السحر الأسود).

ويحدّثنا المعالج النفسي البولوني سانتورسكي (Santorski) مصداقاً لذلك عن حالات الوفاة لأسباب نفسية صرفة في حال حدوث بعض أخطاء التشخيص, كأن تظهر نتيجة التحاليل أن لدى أحد الأشخاص مرضاً سرطانياً متقدماً يتبين بعد وفاته أنه لم يكن موجوداً عنده, وإنما كان الأمر عبارة عن تبادل غير مقصود لعيّنات التحليل بينه وبين شخص آخر مريض بالسرطان.

مرض الاستسلام
يتوقف وجود الإنسان - الذي يسعى جاهداً إلى التكيف مع ما يحيط به من ظروف طبيعية واجتماعية - على قدرته وإيمانه بتحقيق هدفه هذا. إن اكتشاف العلاقات السببية بين الحوادث يمنحها معنى, ويجعل في مقدور الإنسان التنبؤ بسيرها وتطوّرها, ولولا ذلك لساد الشك والفوضى وانعدام المعنى. ويعتبر كثير من علماء النفس حالياً وعلى رأسهم العالم الأمريكي مارتين سيليغمان (Seligman) (صاحب نظرية العجز المكتسب) أن قدرة الإنسان على التحكم في مجرى الحوادث لتحقيق أهدافه وإشباع حاجاته تقوده إلى المشاركة الفعّالة في صنع هذه الحوادث ومواجهتها والتكيّف معها, في حين أن انعدام هذه القدرة يؤدي به إلى الاستسلام والشعور بالعجز. وما إن تصل هذه القدرة إلى درجات منخفضة بشدة حتى تبدأ نتائج مرضية ومأساوية في الظهور, وقد تقود الإنسان إلى حتفه بشكل غير متوقع.

ظهر هذا بوضوح على سبيل المثال لدى أسرى الحرب, الذين يظهر على بعضهم ما أسماه أحد علماء النفس - الذي كان معتقلاً كذلك في أحد معسكرات الاعتقال النازية - بمرض الاستسلام (Give-Up-Itis) لقد أدى فقدان الأمل في الخروج من الأسر مدى الحياة - وبالتالي انطفاء كل اهتمام بالمستقبل - إلى كثير من حالات الموت الناجم عن أسباب انفعالية. ويصف هذا العالم النفسي الذي عاين هذه الظاهرة لدى بعض زملائه في الأسر كيف أن هؤلاء الأسرى صدقوا الأقوال التي كان الحراس يرددونها لهم من أنهم لن يخرجوا من هذه المعسكرات أبداً أحياء, فوصلوا إلى اقتناع مرير بأنهم غير قادرين إطلاقاً على التأثير فيما يجري لهم أو من حولهم, وسرعان ما صاروا كالجثث المتحركة, ففقدوا كل احترام لذواتهم, ثم تموت انفعالاتهم كلها ببطء, مما دل على أنهم وصلوا إلى ذروة الانهاك الجسدي والانفعالي, تاركين للوسط المحيط بهم كامل السيطرة على معنوياتهم وعلى مصائرهم, وحين كانوا يصلون إلى هذا الحد فإنهم كانوا يموتون عادة خلال فترة قصيرة.

وقد تكرر وصف أحداث مشابهة جرت في معسكرات الاعتقال التي وقع فيها جنود أمريكيون في أسر الصينيين أثناء الحرب الكورية, إذ شعر هؤلاء بأن أمتهم تنبذهم وتتخلى عنهم, مما قادهم إلى الوقوع في الذعر والهلع, وفقدان احترام الذات, وتوقع الموت في كل لحظة, وإلى العزلة واليأس من أي محاولة للمقاومة أو للهرب, وحتى حين تخلص بعض هؤلاء من الأسر على يد القوات الأمريكية وتمت إعادتهم إلى الحياة المدنية, فإنهم ظلوا يعيشون بالأسلوب السلبي الانسحابي نفسه بدرجة لافتة للنظر.

مثل هذا النموذج من السلوك, يلاحظ أيضاً لدى المرضى الذين يدخلون إلى المشافي بسبب حالات الاكتئاب العميق, حيث ينسحب هؤلاء بشكل واضح من شتى أنماط الفعاليات الاجتماعية, وكما يصف لنا المعالج النفسي الأمريكي المتخصص في علاج حالات الاكتئاب بيك (Beck), فإن شللاً كاملاً في الإرادة يظهر عليهم, فيمتنعون حتى عن عمل أبسط الأشياء التي تلزمهم للحياة, فيقبعون في أماكنهم دون حراك إلا إذا تم دفعهم لذلك من قبل الآخرين, وأحياناً يضطر أفراد الطاقم الطبي إلى أن يسحبوا هؤلاء الأشخاص من فراشهم ليغسلوهم ويطعموهم ويلبسوهم ثياباً نظيفة, بل إن الأمر يصل عند بعضهم إلى درجة استحالة إمكان التواصل اللفظي معهم لسلبيتهم المطلقة.

ولقد ثبت للباحثين النفسيين أن هذه الحالة النفسية, التي تتلخص في فقدان المرء إمكان السيطرة على ما يجري من حوله, يمكن لها أن تجعل حتى الأسوياء من الناس عرضة للإصابة باضطرابات فسيولوجية عدة, ولقد تجمع اليوم عدد كبير من الأدلة للباحثين في مجال الأمراض السيكوسوماتية (الأمراض الجسدية نفسية المنشأ) على أن الناس الذين يستجيبون لما يحدث في حياتهم بالعجز ومشاعر اليأس يتعرضون كذلك لسلسلة من التغيرات الفسيولوجية التي تساعد على تطور أنواع شتى من الأمراض, كمرض السكر, أو أمراض القلب أو السرطان وغيرها.

 

مطاع بركات