ظاهرة اضطراب القيم.. د. سليمان إبراهيم العسكري

ظاهرة اضطراب القيم.. د. سليمان إبراهيم العسكري

  • ملايين من الأفارقة والآسيويين والعرب والمسلمين وسكان أمريكا اللاتينية لم يروا في حياتهم الإنترنت، الذي تعتبره منظمة اليونسكو: أفضل وسيلة للتربية والتعليم والثقافة وتطورها في شتى أنحاء العالم!
  • اللاهوتية الغربية المتزمتة لم تثمر غير التعصب البغيض، والعلمانية المتطرفة لم تمنع نشوب حربين عالميتين أكلت بنيرانهما عشرات الملايين من البشر.
  • تناقض تعاملنا مع الطبيعة، من التوجس والتقديس إلى الاستباحة والاستغلال، يمثل حالة التناقض التي تعيش فيها البشرية قيميًا، وهو اضطراب يمتد إلى العلاقة بين البشر من داخل الدولة الواحدة، إلى العالم.

لكل مُنجز بشرى جوانب سلبية وأخرى إيجابية، ينطبق هذا أكثر ما ينطبق على الابتكارات العاصفة، والمذهلة، التي تطبع عصرنا هذا بطابعها، وتصنع عولمة معرفية لا نستطيع تجاهلها، أو الاستغناء عنها، وهي ليست تلك العولمة التي يريد البعض تكريسها لمزيد من الهيمنة على الآخر، خاصة في العالم الثالث. هذه العولمة المعرفية التي تدفع بها منجزات ثورة الاتصالات وثورة المعلومات، بقدر ما تضع العالم في إطار إنساني واحد، فإنها تهدد خصوصيات البعض التي تراكمت عبر مسيرة طويلة، للشعوب والأمم، وفي مركز هذه الخصوصيات تبرز مسألة «القيم» متبوعة بحشد من علامات استفهام متباينة.

لا شك في أن كثيرين منا قلقون تجاه المتغيرات العاصفة التي تجتاح عصرنا، وأبرز ظواهر هذا القلق ظاهرة الانكفاء إلى الماضي، وهذه المتغيرات التي تتمثل في أشكال من طرق الاتصال والتواصل وطرق العيش لم نألفها ولا يتآلف معها كثيرون، خاصة ممن تربوا على نسق من الأنماط الاجتماعية يبدو متراجعا الآن، وهو يتراجع أمام زحف من الأنماط الوافدة، خاصة من الشمال الغربي، تعصف بتقاليد تفاعلاتنا الاجتماعية، كما بأطعمتنا وأزيائنا وعمارة منازلنا التقليدية.. وهي حزمة من المتغيرات تتخللها وتُظاهرها اقتناعات تجعلنا نتساءل: أين قيمنا؟ وأين عاداتنا وتقاليدنا؟ وهو تساؤل يتضمن رغبتنا في تجديد هذه القيم، وما آلت إليه في ظل عواصف المتغيرات في عصرنا.

لنرصد الحاضر من أجل المستقبل

هذا التساؤل صاغته أكبر مؤسسة ثقافية تابعة للأمم المتحدة، وهي منظمة اليونسكو، بشكل مختلف وهو «القيم إلى أين؟» وحول هذا السؤال قامت «شعبة الاستشراف والفلسفة والعلوم الإنسانية» التابعة للمنظمة بإدارة سلسلة «مداولات القرن الحادي والعشرين»، التي تجمع في كل حلقة حوارية عددا من العلماء والمثقفين وصناع القرار والمفكرين المعروفين عالميا لمناقشة عنصر من العناصر المنبثقة عن سياق التساؤل والتفرعات المؤدية للإجابات المرتقبة. ثم جرى تجميع حصاد هذه الحوارات والمداولات في كتاب يحمل عنوان التساؤل آنف الذكر، وأشرف على هذا الكتاب «جيروم بندي» نائب المدير العام لليونسكو لشئون العلوم الاجتماعية والإنسانية، وساهم في تأليفه عشرات الباحثين والفلاسفة العالميين منهم: جاك دريدا، وميشيل سير، وبول ريكور، وجان بودريار، ومحمد أركون، وجاك ديلور، وجياني فاتيمو، وول كندي، وجوليا كرستيفا، وإدجار موران، وداريوش شايجان.

ولعلنا نذهب بداية إلى الاتفاق مع مقدمة الكتاب التي كتبها جيروم بندي والتي تقول إن هناك فكرة شائعة أننا نعيش أزمة قيم يلقي البعض بمسئوليتها على العولمة التي تهتم فقط بتحقيق التقدم التقني والكسب الاقتصادي، ولا تهتم بمسألة القيم الأخلاقية. وحتى نبحث عن جذور هذه الفكرة نعود مع الكاتب إلى عصر النهضة في أوربا ثم التنوير اللذين ظهر فيهما نوعان من الفكر مهدا للعولمة، أحدهما يؤكد على كونية القيم، والثاني على تعددية الممارسات الأخلاقية وفق الشعوب والثقافات المختلفة. لكن الحادث في عصر العولمة الشاملة، أو التي تريد الشمول، أنه لم يعد لدينا فكر أخلاقي واضح. فثمة اضطراب حقيقي يسود عالم القيم والفكر الأخلاقي نتيجة مستجدات الاتصال والتقنية والاستثمارات الاقتصادية عابرة القارات، وهذا ظاهر مما يتبدى على السطح من أساليب للعيش وللتواصل لم تكن مألوفة حتى عقود قليلة مضت. فهل يعني ذلك أننا مقبلون على عالم من دون قيم أخلاقية؟ يجيب الكاتب بالنفي ويقول إن هناك دائما قيما وقواعد أخلاقية وأن العالم لا يمكن أن يستمر من دون قيم، بل ولم يوجد في تاريخ البشرية عدد كبير من القيم كما هو حاصل الآن!

وفي إيضاح الفكرة الأخيرة يُشار إلى أن أحد آثار العولمة هو تعددية الثقافات والقيم التي يجب أن تتساوى من حيث المكانة والكرامة، وبالتالي ينبغي احترامها جميعا، ولكن في الوقت ذاته يُشار إلى قيم مكروهة وخطرة تؤدي إلى صدام الحضارات والحروب الأهلية مثل العنصرية التي يؤمن بها اليمين المتطرف، والطائفية التي تؤمن بها حركات التعصب الديني المتزمتة والمغالية في عدائها للآخر، وهي ليست وقفا على أتباع دين بعينه ولا جماعة إنسانية بذاتها، بل هي ظاهرة عالمية عامة تمتد وتتمدد من أقصى الغرب إلى أدنى الشرق، ويوازيها تعصب آخر يقوم على تنافر الإثنيات وتصارع الأعراق كما في بعض البقاع الإفريقية اليوم.

هذا المعنى يفنده المشرف العام على الكتاب في ما يخص ثقافتنا الإسلامية، فيقول: إن كثيرين يتحدثون في الغرب عن العدمية أو اختفاء القيم والتناقض بين قيم الثقافة الإسلامية وقيم الثقافة الغربية، لكن الثابت أن الغرب شهد مرحلتين أساسيتين من القيم: مرحلة القيم الدينية، ثم المرحلة العلمانية التي انتصرت بعد عصر التنوير والقرن السادس عشر وسادت كل المجتمعات الأوربية، وهي قيم فلسفية تؤمن بمقدرة العلم الحديث على تحقيق التقدم المطّرد للإنسان وحل كل المشكلات والقضايا، ولكنها - أي المرحلة العلمانية - انتهت أخيرا إلى توليد الحركات الفاشية والنازية والاستعمارية التي فقدت مصداقيتها، كما فقدت القيم اللاهوتية المتعصبة مصداقيتها بسبب محاكم التفتيش والانغلاق والتزمت، بينما فقدت القيم العلمانية مصداقيتها أيضا بسبب انحراف مشروع التطوير عن مقاصده وانتهائه بحربين عالميتين مدمرتين ومجازر مرعبة في المستعمرات وسواها.

إذن ليست المسألة صداماً بين قيم غربية وأخرى إسلامية، بل هو بحث دائب من الجانبين عن الملائم والمناسب مادامت اللاهوتية الغربية المتزمتة لم تثمر غير التعصب المقيت الذي شهدته عصور محاكم التفتيش في أوربا، والعلمانية المتطرفة التي لم تمنع نشوب حربين عالميتين أكلت بنيرانهما عشرات الملايين من البشر، وآلافًا من المدن والقرى المدمرة، وفي أوربا نفسها. ومن ثم يبدو تشكك الثقافات غير الغربية، ومنها الثقافات الإسلامية، في مسار ومصير القيم المختبئة في عباءة العولمة ذات الطابع الغربي، تشككا مشروعا، وبحثا عن قيم حقيقية مشتركة. والحديث هنا ينصب تحديدا على الوجه الحقيقي للثقافة الإسلامية المفعمة بالتسامح وأخلاقيات التعايش ونبذ التعالي ورفض الهيمنة.

من أين نشأ الارتباك؟

يؤكد على حالة التشكك المبرر هذه، عالم الأنثربولوجيا أرجون أبادوري قائلا: «إن اليقين تزعزع في القرن العشرين بعد المجازر التي ارتكبت في الحربين العالميتين وفي الحروب الاستعمارية، ومع أن كثيرين بعد ضربة 11 سبتمبر في نيويورك اعتقدوا أن النبوءات الخاصة بصدام الحضارات قد تحققت، يعتقد آخرون - من مفكري الغرب المنصفين - أن هذا الرأي خطأ، لأن العالم الإسلامي غير موحد كما أن القرآن الكريم لا يحتوي على أي تبرير للعنف ضد المدنيين.

أما البروفيسور بول كيندي، أحد أكبر علماء الإستراتيجيات في الولايات المتحدة الأمريكية، فيقول: إن العلوم والتكنولوجيا والتقدم المادي غيرت أنماط إنتاجنا وتبادلاتنا واستهلاكاتنا، ثم جاءت الآن ثورة المعلوماتية لتغير حياتنا أكثر، فأصبحنا نشتري ثيابنا وكتبنا عن طريق الحاسب الآلي، وهذا الشيء كان مستحيلا إلى ما قبل سنوات معدودات. كما أصبحت الرساميل الضخمة تنتقل بشكل إلكتروني إلى الأسواق المصرفية بسرعة هائلة كل يوم. لكنه يقول: «قادة العولمة من أرباب شركات ومستشارين مصرفيين وأغنياء وكبار يقدمون لنا صورة زاهية ومتفائلة جدا عن مصير العالم في ظل هذه العولمة، ولكن هذه العولمة لم تقدم شيئًا لكوسوفو والشيشان ورواندا وكشمير، وبلاد أخرى» (ولا أدري لماذا تناسى الشعب الفلسطيني؟)، وفي تعليق شامل مترع بالأسف يقول: «إن ثورة الاتصالات لا تصيب إلا جزءا صغيرا من البشرية، أقصد الجزء الغني صاحب الامتيازات والإمكانات، وهكذا نترك على الهامش مليارات عدة من البشر، كما أن ملايين الأفارقة والآسيويين والعرب والمسلمين وسكان أمريكا اللاتينية لم يروا في حياتهم الإنترنت، الذي تعتبره منظمة اليونسكو أفضل وسيلة للتربية والتعليم والثقافة وتطورها في شتى أنحاء العالم»!

ويمضي البروفيسور بول كيندي قائلا: «نحن نتحدث عن التربية من أجل الجميع وحق الناس في المعرفة، ولكن الكلام شيء والفعل شيء آخر. وربما كانت ثورة المعلوماتية قد أدت إلى زيادة التفاوت بين الأغنياء والفقراء بدلا من تقليصه»، مضيفا أنه في أمريكا نفسها زادت الشقة اتساعا بين البيض والآسيويين من جهة، والسود من جهة أخرى، وأن أمريكا ستكون مشكلة من طبقتين، إحداهما تمتلك الإنترنت وأخرى لا تمتلكه ولا تعرف استعماله، و10% من سكان العالم يستفيدون منه، فما معنى عولمة لا يستفيد منها إلا عشرة في المائة من سكان العالم؟! وهل يمكن لأحوال العالم أن تستقر على هذا الوضع؟

أخلاقية عالم معقد

كل ما سبق يحيلنا إلى استنتاج واضح مؤداه أننا نعيش في عالم معقد يبحث عن قيم عامة. لهذا أفرد الكتاب فصلًا مكرسًا لمشكلة القيم في القرن الواحد والعشرين كتبه عالم الاجتماع الفرنسي إدجار موران، يعتقد فيه أن مشكلة القيم ناتجة عن التعقيد الأخلاقي الذي طرأ عقب التحول العلماني الذي يتمتع فيه الفرد باستقلالية كاملة حيث صارت القيم تنبع من الفرد نفسه، ويخشى أن نجد في هذا السياق الأناني حالات من القيم الفردية بعدد أفراد الجنس البشري، ومن ثم تستحيل الحياة على كوكب الأرض إلى غابة للقنص والافتراس، دون مراعاة للآخرين وتقاليد العيش المشترك على الأرض، وهذا هو جوهر كل قيمة حقيقية من القيم العامة للمجتمعات والشعوب.

وفي هذا الشأن يسود اعتقاد بين كثير من المراقبين بأن انحطاط كل ما يعطي معنى عميقا لأعمالنا وحياتنا، هو نتيجة من نتائج ازدهار العولمة التي تحصد اهتمامها بالتطور التقني، وتاليًا تبدو مغرقة في مادية تخلو من أي روحية، وغير قادرة على توجيه أعمالنا، بمعنى أنها لا تقيم أي وزن للقيم.

قيم أكثر.. صراع أكثر

تقول الكاتبة آمال موسى في معرض تعليقها على كتاب اليونسكو هذا: «إنه رغم أن كل ثقافة تحمل نماذجها الخاصة ومنظومتها القيمية التي تميزها، فإن مشروع العولمة قد نجح في جعل حجم القيم المشتركة الجامعة للمجتمعات اليوم أكبر، بالإضافة إلى ما يمليه توسيع دائرة المشترك من توسيع دائرة الصراع بين النماذج القيمية وأحيانا تصادمها، باعتبار أن التصورات المختلفة للقيم قادرة على بلوغ حالات متقدمة وخطيرة من الصدام والمواجهة. وهذه الرؤية تشخص بدقة الوضع الحالي للقيم في العالم، وهذا بالطبع لا يعكس حالة ثراء خلّاقة للقيم، بقدر ما يزكي حالة الصدام القيمي، وهو ما يؤكد

أن القيم في حالة اضطراب بعيدة عن الاستقرار وكثيرة التعقيد.

وقد تناول إدجار موران مسألة أخلاقية التعقيد ومشكلة القيم في القرن الواحد والعشرين من زاوية المعرفة القيمية والأخلاق، قائلا: إنه في الماضي لم تكن تطرح مسألة العلاقة بين المعرفة العلمية والأخلاق، لأن العلم الغربي الحديث تحديدا، كان يتأسس ويتطور رافضا أي تداخل له مع السياسة والدين والأخلاق، إذ كان الهدف بلوغ المعرفة مهما كانت النتائج، هذا الفصل لم يكن ناجما عن كون العلم يقف بنفسه على الأحكام الواقعية، بينما النظام الأخلاقي يشتمل على الأحكام القيمية، بل لأنه في المجال العلمي اتخذ الحكم الواقعي صفة القيمة العليا: «هذا التفريق لم يطرح أي مشكلة حتى القرن العشرين، حين شرعت العلوم بتطوير طاقات تدميرية أو معالجات هائلة، وما التكاثر الحالي للهيئات واللجان الأخلاقية إلا خير دليل على أن العلاقة بين المعرفة العلمية والأخلاق أصبحت مسألة أساسية. هذا مع العلم أن قدرة الأخلاق على ضبط العلم بعيدة التحقيق، لأن العلم منفصل عن الأخلاق، وهكذا فإن هذه العناصر التي يجب أن تكون في حالة توافق هي في حالة انفصام تام».

ويعتبر موران أن الغرب كمركز للسيطرة، قد أنتج قيما يحتمل أن تكون شمولية وقد استند إليها الخاضعون ليجدوا سبل تحررهم، ذلك أن المحرَّرين من الاستعمار لم يتمكنوا بالفعل من التحرر، إلا بتبني مبدأ حق الشعوب والأمم في تقرير مصيرها. وأضاف موران أن البلدان الإسلامية منقسمة اليوم بين تيارين، أحدهما يعبّر عن توقه للاستفادة من أفضل ما قدمته الثقافة الغربية، من دون التفريط بهويته الخاصة وبتقاليده، والثاني يرى أن القيم تشكل اعتداء بالغا على الفضيلة الإسلامية، ومن هذه المنطلقات يعتبر موران أن تعقيد الأخلاق يتم عبر محاولة تصور وإرساء العلاقة بين العلم والأخلاق والسياسة، أي بفك العزلة عن مسألة القيم.

كما يعني تعقيد الأخلاق الاعتراف بوجود نزاعات بين ملزمات أخلاقية تتمتع جميعها بالأهمية نفسها، بالإضافة إلى الاعتراف بعدم اليقين النهائي في ما يتعلق بمحصلة نوايانا الأكثر صدقا واحترامنا للقيم.

الموقف من الطبيعة، دلالة عامة

وفي تتبع مسارات القيم يتوقف جان جوزيف غو أحد المتحاورين في كتاب اليونسكو عند القيم الماثلة في علاقة الإنسان بالطبيعة، فقد صارت علاقة حادة التناقض القيمي. فمن موقف التوجس والتقديس القديم الذي لم يتآكل تماما لدى قلة من سكان الأرض, لاقتناعات ثقافية صارت معزولة، إلى شطط عالمي في استباحة الأرض وبيئتها بهدف أقصى استغلال لها.

ولعل هذا التناقض في الموقفين تجاه الطبيعة، من التوجس والتقديس إلى الاستباحة والاستغلال، يمثلان حالة التناقض التي تعيش فيها البشرية قيميًا، وهو اضطراب قيمي لا يتوقف عند علاقة الإنسان بالطبيعة، بل يمتد إلى العلاقة بين الإنسان والإنسان في المجتمع الواحد، والدولة الواحدة، وعبر الدول والقارات.

إنه اضطراب قيمي عالمي في زمن عولمة لايزال كل يراها من زاويته الخاصة، وهو اضطراب لا يعني، بالضرورة، الاحتراب حتمًا، بل لعله يشير إلى اختيار حميد لقيم جامعة تنتقيها البشرية من أجل عيش مشترك، في كوكب هش، لم يعد يتحمل المزيد من الدمار، فأي قيم تكون؟.

 

 

سليمان إبراهيم العسكري