متى تنفجر الفقاعة? لم نتجنب الكابوس... لكننا أجلناه فقط أحمد الشربيني

متى تنفجر الفقاعة? لم نتجنب الكابوس... لكننا أجلناه فقط

لم تكن البشرية ككل في تاريخها نهمة واستهلاكية كما هي الآن. لكن هذا النهم يهدد ليس فقط مستقبل أبنائنا, بل ومستقبلنا ذاته.

والحقيقة أن ما تنتجه البشرية من أغذية اليوم يكفي حاجاتها بل ويزيد. لكن الخطر يأتي من حاجاتنا من المياه لإنتاج هذه الأغذية. فوضع المياه الحالي على المستوى الكوني لا يسمح بإنتاج أغذية جديدة بالتقنيات الحالية.

ويحتاج جنوح البشر الاستهلاكي إلى مزيد من المياه. وإذا علمنا أن إنتاج كيلوجرام من القهوة يحتاج إلى 20 ألف لتر من الماء, وسندوتش الهامبورجر يحتاج إلى 11 ألف لتر من الماء, والقميص القطني إلى سبعة آلاف لتر, والكيلوجرام من الجبن أو الأرز يحتاج إلى خمسة آلاف لتر, فسندرك أن أزمة المياه الكونية قادمة لا محالة.

وقد بدأت أزمة المياه في الظهور في أماكن عدَّة في كوكبنا. وإذا تأملنا نذرها جيدا فسيمكننا أن نكون صورة عن حدة الأزمة عندما تجتاح مناطق أوسع من كوكبنا في ظل الزيادة المتوقعة في تعداد سكان كوكبنا.

واليوم, يعاني 852 مليون إنسانِ الجوع المزمن بينما يُتَوقّع زيادات جديدة في عدد سكانِ العالم بحدود ملياري نسمة بحلول العام 2030. ولا تبدو تلبية الاحتياجات المباشرة لتلك الأعداد المتنامية إلى الغذاء وخفض معدلات الجوعِ أهدافاً ممكنة ما لم تترافق معها زيادات كبرى في كميات الغلال الزراعية والإنتاج الحالي. غير أن الإنتاج المتزايد للأغذية يتوقف بالقدر الأكبر على الاستثمارِ في تقنيات التحكم في المياه.

والواقع أن الزراعة هي المستهلكَ الأكبر للموارد الأرضية من المياه العذبة, إذ تعدّ مسئولة عن نحو 70 بالمائة من جميع عمليات سحب المياه العذبة. وبينما تتناقص مصادر المياه وتنمو المنافسة على الماء مِنْ القطاعاتِ الأخرى, يُواجه قطاع الزراعةِ تحدّياً معقّدَاً: أي إنتاج كميات أكبر من الغذاءُ بنوعيةِ أفضلِ مع استخدام موارد مائية أقلِ وضمان استمرارية بيئية.

وحسب المناطق يَتفاوتُ توافرُ المياه تفاوتاً هائلاً حيث يندر في بَعْض البقاع. وحتى في المناطقِ ذات إمداداتِ المياه المحدودةِ, فبوسع الرَيّ أن يحقق زيَاْدَات كبرى في الإنتاجية الزراعيةِ وأن ينهض بدورٍ حاسم في تعزيز الأمنِ الغذائي.

وإلى حدٍ بعيد, فإن معظم كميات المياه المستخدمة في زِراعَة المحاصيلِ تعود إلى رطوبةِ التربةِ الناجمة عن الأمطار. ويُزوّدُ الرَيُّ فقط نحو 10 بالمائة مِنْ المياه الزراعية لكنه يؤدي دوراً حيوياً, في الأحوال كافة, حين تسقط الأمطار قليلةً أَو متقطّعة, إذ يصبح بوسع الرَيّ ضمان إنتاجِ المحصولِ الجاري ويَسْمحُ للمزارعين بالتَنويع والاسْتِثْمار في الأنماطِ الزراعية الأعلى إنتاجية, وهو ما يعني ليس فقط ضمان الأمنَ الغذائي والتغذيةَ المُحسَّنةِ لسكانِ الريفِ بل وأيضاً توفير فرص العمل, ورفع مستويات الدخل وإيجاد فرصٍ تجاريةٍ متزايدة.

والواقع أن معدل إنتاج الأراضي المرويّة هو أعلى من مثيله في الأراضي البعلية (أي التي تروى بمياه الأمطار) بنحو ثلاث مراتِ. وحتى إن كان الرَيّ يَغطّي نحو 20 بالمائة من مجموع رقعة الأراضي المحصولية في العالم, فهو يُساهمُ بنسبة 40 بالمائة مِنْ إنتاجِ الأغذية الكليِّ على صعيد الكوكب.

وتنطوي مصادر المياه المستخدمة جزئياً في أجزاءٍ من إفريقيا على إمكانات هائلة بالنسبة للرَيِّ, لا سيما في حالة تطبيق تقنياتٍ بسيطةٍ ورخيصة. وتستخدم إفريقيا اليوم أقل مِنْ 6 بالمائة من موارد مياهها القابلة للتجدُّد, مقارنةً بنسبة 20 بالمائة في آسيا. ولا يُروى إلا 7 بالمائة مِنْ الأرض الصالحة للزراعةِ على صعيد إفريقيا, مقارنةً بنسبة 38 بالمائة لدى آسيا.

الثورة الخضراء

في ستينيات القرن المنصرم, سيطرت على العالم نظرة مالتوسية متشائمة إزاء قضية الانفجار السكاني. فقد كان من المتوقع أن يتضاعف عدد سكان العالم خلال جيل واحد, ولم يكن أحد يتخيل كيف سيتم إطعام هذه الأفواه الجديدة. وأخذت السيناريوهات الكابوسية تتوالى. وفي العام 1968, على سبيل المثال, كتب بول إلريك أستاذ البيولوجيا في جامعة ستانفورد في كتابه الذي احتل قمة الكتب الأكثر مبيعا (القنبلة السكانية The Population Bomb) (إن معركة إطعام البشرية كلها قد انتهت بالفعل... وسيجوع مئات الملايين من البشر حتى الموت).

لكن أيا من الكوابيس لم يتحقق أبدا وذلك بفضل جيل جديد من بذور المحاصيل العالية الإغلال مثل الأرز والذرة والقمح. لكن ما لم يلاحظه الكثيرون أن هذه (الثورة الخضراء) اعتمدت أساسا على استثمارات هائلة في أنظمة الري. واليوم, ينتج العالم غذاء هو ضعف ما كان ينتجه قبل جيل واحد, لكنه يستخدم من المياه ثلاثة أضعاف ما كان يستخدمه. ويذهب ثلثا المياه التي نعتصرها من البيئة المحيطة بنا إلى ري المحاصيل. وهذا النمط من استغلال المياه هو بالتأكيد غير قابل للاستمرار, أو بتعبير أدق (غير مستدام), وهو ما جعل الكثيرين يعتقدون أننا لم نتجنب الكابوس, لكننا أجلناه فقط.

ففي معظم البلدان, كان ري المحاصيل يعني بناء السدود وإفراغ الأنهار في قنوات الري. وهو ما ألحق أضرارا جسيمة بالأنهار وأنظمتها الإيكولوجية, رغم أن الأمطار كانت في معظم الأحيان تعيد ملء الأنهار. لكن في بعض الأماكن لم يكن بوسع الأنهار سد حاجات الري من المياه. لذا أخذ الفلاحون الأمر على عاتقهم.

والنموذج المفزع لهذا الأسلوب هو الهند. فخلال العقد الفائت, شهدت الهند ما يمكن تسميته (ثورة حفاة مائية). فقد استأجر الفلاحون آلات حفر الآبار, واشتروا المضخات الكهربائية لاستخراج المياه التي بقيت غير مستغلة في خزانات المياه الجوفية تحت أقدامهم لملايين السنين. واليوم يستخرج 21 مليون مزارع هندي المياه من الخزانات الجوفية لري محاصيلهم, بينما يروى ثلثا محاصيل الهند بالمياه الجوفية. غير أن هذه المياه آخذة في التناقص. وعلى عكس الأنهار, فإن خزانات المياه الجوفية لا تستعيض المياه بسرعة.

ولا توجد إحصاءات يعتمد عليها حول كمية المياه التي يضخها الفلاحون الهنود من باطن الأرض. وتشير تقديرات معهد إدارة المياه الدولي, وهو جزء من شبكة عالمية لمراكز البحوث الزراعية يمولها البنك الدولي, إلى أنه يتم سنويا استخراج 250 كيلومترا مكعبا من المياه لاستخدامها في الري. وهي كمية تزيد على أقل تقدير بمائة كيلومتر مكعب عن كمية المياه التي تعوضها الأمطار. لكن مع كل عام يمر تصبح خزانات المياه الجوفية أكثر نضوبا.

وكما قال توشار شاه, الخبير في معهد إدارة المياه الدولي, لمجلة نيوساينتست: (إنها رحلة في اتجاه واحد نحو الكارثة). وكان شاه قد أمضى أكثر من عقد من الزمان يتابع ثورة المياه الجوفية في الهند من مكتبه في بلدة آناند في ولاية جوجارات الهندية القاحلة. وهو يقول إن الفلاحين الهنود يبددون مياه خزاناتهم الجوفية, ويزرعون محاصيل نهمة للمياه مثل الأرز, وقصب السكر والقطن. والأمر المؤكد أن المزارعين يدمرون مستقبل أبنائهم, إن لم يكن مستقبلهم هم أنفسهم.

وفي الوقت نفسه, تقف الحكومة عاجزة أمام ما يحدث. ويقول شاه: (فرض القانون هنا مستحيل عمليا. فلا أحد يعلم أين المضخات, ولا من يمتلكها. وليس هناك وسيلة للتحكم في ما يجري على الأرض. كل هذا تفجر في العقد المنصرم, منذ أن وصلت المضخات الرخيصة إلى الهند. والهجوم الكاسح آخذ في التصاعد. وهناك مليون مضخة جديدة تدخل إلى الخدمة كل عام. وقد بدأنا للتو في مشاهدة العواقب). وتشير تقديرات شاه إلى أن ربع الفلاحين الهنود على الأقل يستخرجون المياه الجوفية التي لن تعوضها الطبيعة أبدا, بينما يواجه نحو مائتي مليون مستقبلاً بلا غذاء وبلا مياه شرب.

واليوم,أخذ عصر ازدهار المياه الجوفية في التراجع, وبالنسبة للبعض انتهت الثورة الخضراء إلى الأبد. ومنذ خمسين سنة, كانت الآبار التقليدية المحفورة يدويا تأتي بالمياه من على عمق عشرة أمتار فقط. واليوم تضطر ماكينات الحفر إلى حفر آبار ارتوازية على عمق 400 متر, وأحيانا لا تجد المياه على هذا العمق. واليوم جف أكثر من نصف الآبار التقليدية وملايين الآبار الارتوازية في الهند. وفي ولاية تاميل نادو على سبيل المثال, جف أكثر من ثلثي الآبار التقليدية وتقلصت مساحة الأرض المزروعة بمقدار النصف مقارنة بمثيلتها قبل عقد واحد. وهناك مناطق كاملة في ولايتي تاميل نادو وجوجارات أصبحت خالية تماما من السكان. وقد باتت حالات الانتحار شائعة بين المزارعين. بينما لم يجد الكثيرون سوى الانضمام إلى ملايين المهاجرين الذين يعيشون كلاجئين في أحياء الصفيح في المناطق الحضرية.

الهند ليست وحدها

والحقيقة أن فوضى مياه الهند الجوفية تتكرر في أماكن عديدة أخرى. فمن الصين إلى إيران, ومن إندونيسيا إلى باكستان, تجف الأنهار تحت وطأة الضخ المفرط لمياهها, أو بسبب التغير المناخي في أماكن أخرى. ولم يجد ملايين الفلاحين الصغار أمامهم سوى شراء المضخات لجلب المياه من أعماق الأرض.

وتشير تقديرات شاه إلى أن الهند, والصين وباكستان تضخ 400 كيلومتر مكعب من المياه الجوفية سنويا, وهي كمية تزيد مرتين عن كمية مياه الأمطار التي تتسرب سنويا إلى خزانات المياه الجوفية. وهذه البلدان الثلاثة مسئولة عن أكثر من نصف المياه الجوفية التي تضخ على المستوى الكوني. وعلى خطى هذه البلدان الثلاثة, تسير بلدان آسيوية أخرى مثل فيتنام, وسري لانكا, وإندونيسيا, وإيران وبنجلاديش. وخارج آسيا تسلك بلدان كثيفة السكان, كالأرجنتين والمكسيك والبرازيل والمغرب, الطريق ذاته. بل إن الولايات المتحدة نفسها تستنفد خزانات المياه الجوفية فيها من أجل إنتاج المزيد من الغلال واللحوم للتصدير.

وهذه البلدان هي قلب ما أطلق عليه لستر براون, رئيس معهد سياسة الأرض في واشنطن, اسم (فقاعة الغذاء). فالأرقام القياسية للمحاصيل الزراعية التي تحققت في السنوات الأخيرة لم تكن ممكنة دون الاستغلال الجائر للموارد المائية غير القابلة للتعويض. وهو يقول: (إن الفقاعة ستنفجر. والسؤال ليس: هل ستنفجر, وإنما هو متى ستنفجر?).

وستكون عواقب النفاد الحتمي لمياه الخزانات الجوفية وخيمة وكارثية. إنها كارثة جفاف تنضج ببطء لكنها ستؤثر في مئات الملايين من البشر. ولن تحدث الكارثة في كل الأماكن في الوقت نفسه. فكل خزان جوفي له طاقة مائية معينة ستنفد في أجل ما. وعندما تنفجر كل من هذه الفقاعات, ستقوض قدرة العالم على إطعام نفسه. لكن آثار الكارثة ستتركز, مثلها في ذلك مثل كل الكوارث البيئية الكونية, في ذلك الجانب الأفقر من العالم.

ورغم قتامة الصورة العامة, فإن الرهان الوحيد المتاح أمام البشرية يتمثل في رفع كفاءة استخدام المياه من خلال تقنيات جديدة, وضخ استثمارات كبيرة في قطاع الزراعة من أجل دعم البنى التحتية والتفتيش عن حلول وتكنولوجيات مبتكرة للحد من استهلاك المياه وزيادة فعاليتها.

المياه المطلوبة لإنتاج المواد الغذائية
(المقياس باللتر لكل كيلوجرام)

  • القهوة: 20 ألف لتر
  • الأرز: 5000 لتر
  • السكر: 3000 لتر
  • القمح: 1200
  • الذرة: 2700
  • البطاطس: 160
  • فول الصويا: 2300
  • اللحم البقري: 15000
  • الدواجن: 2800
  • البيض: 4700
  • الحليب: 2000
  • الجبن: 5000

(منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة)

 

أحمد خضر الشربيني 





ري االمحاصيل بمياه لا تعوضها مياه الأمطار يسهم في (فقاعات الغذاء) على مستوى الكون





 





وضع المياه الحالي على المستوي الكوني لا يسمح بإنتاج أغذية جديدة بالتقنيات الحالية





الأنهار تجف في كل أنحاء العالم وليس في الهند وحدها





الزراعة مسئولة عن سحب 70% من كميات المياه العذبة