عودة الباشا الميت
عودة الباشا الميت
الذي يطالع (حديث عيسى بن هشام) ينتابه إحساس بأنه يتأمل مصر اليوم وليست مصر القرن التاسع عشر وهي تستورد بانبهار تقاليد الغرب, ومن يمعن النظر في أسلوب الكاتب محمد المويلحي يحس بالنزعة الإصلاحية ولكنها ليست في قالبها الوعظي التقليدي وإنما في قالب فكاهي بديع, فماذا يحدث للباشا الذي يعود بعد موته إلى الحياة في (حديث عيسى بن هشام) وكيف يرى الدنيا.. هل يتابع الحياة متقبلاً التغيير أم يعود إلى قبره مفضلاً الخلاص?! بسرعة مدهشة تطورت الحياة في مصر في بداية القرن العشرين, وتحولت القاهرة إلى ما يشبه حلبة السيرك: عدد لا حصر له من الأزياء واللغات الغربية والشرقية, سيارات, ترام, تليفون, طرز جديدة من العمائر, حرف ومهن جديدة وأنماط متباينة من البشر. ورغم ذلك كله فإن أفكار وعادات وأساليب الماضي كانت تأبى أن تتلاشى. وتفتق ذهن شاب مصري (في السابعة والثلاثين من عمره) عن فكرة عبقرية: ماذا لو عاد (باشا) من باشوات محمد علي (الكبير) إلى الحياة? وكتب محمد المويلحي (1868 ـ 1930) رائعته (حديث عيسى بن هشام) ليجيب عن ذلك السؤال,ونشر فصولها مسلسلة عام 1905 ثم أصدرها في كتاب. مؤلف الكتاب ابن إبراهيم المويلحي (1846 ـ 1906) الصحفي والأديب, الذي كان يصدر مجلة (مصباح الشرق) الفكاهية الساخرة المزدحمة بالكاريكاتير, وله كتاب شهير بعنوان (ما هنالك), سخر فيه من السلطان عبدالحميد ومن حاشيته, وكتاب آخر عنوانه (حديث موسى بن عصام). وقد أهدى محمد المويلحي كتابه الفريد إلى أرواح المرحومين والده الأديب إبراهيم المويلحي, والمفكر الإسلامي جمال الدين الأفغاني والإمام العالم محمد عبده واللغوي الشنقيطي والشاعر البارودي وقال في تقديمه للكتاب: (والضعيف العاجز (المؤلف) يهدي هذا الكتاب إلى كل من يقرؤه من أديب يجد فيه طرفا من الأدب, وحكيم يرى فيه لمحة من الحكمة, وعالم يبصر فيه شذرة من العلم, ولغوي يصادف فيه أثرا من الفصاحة, وشاعر يشعر فيه بمثل طيف الخيال من لطف الخيال). الكتاب يحمل عنوانا ثانويا هو (فترة من الزمن) وهو مثال على مقاومة المصريين لمحاولة إعادة مصر إلى الغرب وتشبثهم بإحياء التراث العربي القديم, لذلك كان مزيجا من المقامة والرواية, وفصوله أقرب إلى القصص القصيرة وإن كان يربط بعضها بعضا شخصية راو واحد هو عيسى بن هشام الذي يحمل اسم بطل مقامات بديع الزمان الهمزاني, التي كانت تصف الحياة في بغداد القديمة. والرواية فيها تسلسل زمني حيث تبدأ بما يشبه الحلم بتجول الراوي بين القبور بحثا عن العبرة, وفجأة يظهر له (الدفين), ويكشف عن هويته: باشا تركي يدعى أحمد باشا, كان ناظرا للجهادية في عهد محمد علي, يُبعث من الموت بعد وفاة محمد علي بنحو نصف قرن. ولكن الباشا لا يعرف ذلك بالطبع, فهو يحرص على تغيير ملابسه (الكفن) لكي يذهب إلى ولي النعم الداوري الأعظم (محمد علي) ويقدم له فروض الولاء والطاعة, وفي الطريق إلى القلعة يعترض طريقه مكاري (مؤجر الحمير) ويتحدث إليه بلهجة وقحة لم يصادفها في حياته, فلا يطيق ذلك فيضرب المكاري بل يوشك أن يقتله, وبدلا من أن يستسلم المكاري كما كان يحدث في الماضي, إذا به يصر على أخذ حقه من الباشا التركي واقتياده إلى (البوليس), ثم تتطور الأحداث من البوليس إلى النيابة إلى المحامي الأهلي إلى المحاكم. ويحتاج الباشا إلى مال لينفق منه ولكنه يكتشف أن كل أمواله قد تبددت على أيدي الورثة ولم يعد هناك إلا حفيد واحد يقيم في (لوكاندة), هربا من الدائنين. يحاول الباشا الاتصال بحفيده ولكنه يصدم فيه, فيذهب للوقف ليسترد ما كان قد أوقفه من أموال, ويحاول الاتصال بأبناء كبراء الماضي الذين كانت تربطهم به صلة المودة والقربى فيجد أغلبهم قد فارق الحياة أو على وشك ذلك ويضطر الباشا إلى العمل بحثا عن مورد مالي يعينه على التخلص من مصيبته. القشور الباهرة وهو في أثناء ذلك لا يتوانى عن مناقشة ووصف مظاهر الحياة في عصره (بداية القرن العشرين) بأسلوب قصصي تصويري يكشف عن دقة ملاحظة الكاتب وحسه الدقيق ويقظته لما حوله من أحداث ومن شخصيات فيصف المحامي الأهلي وسمساره والدفترخانة والنيابة والمحاكم وقاضي المحكمة الأهلية والطب والأطباء والأعيان والتجار وأبناء الكبراء وما يعانيه موظفو الحكومة, ويصف تفشي الوباء في عصره ووباء آخر لا يقل خطرا هو مظاهر المدنية الغربية التي تتسلل إلى المجتمع المصري فتثير في نفوس الشباب احتقارا للماضي وكل ما يمثله. العمدة في الفخ والكتاب (في طبعته الرابعة) يتحدث عن رحلة أخرى إلى باريس, يصف فيها الكاتب تلك المدينة بإعجاب شديد خصوصا متحف اللوفر الذي يسميه (القصر الكبير) وبرج إيفل الذي يجعله (المعجزة الثامنة), إلا أن ذلك لا يمنعه من انتقاد ما شاهده بجناح مصر بالمعرض. وقد تغلبت النزعة الإصلاحية التعليمية على الكاتب إلا أنه ألبسها ثوبا فكاهيا أعطاها الكثير من الحيوية خاصة في المواقف التي تصف غطرسة الباشا التركي العائد من القرن الثامن عشر, وتصوره أن الباشوات الأتراك مازالوا على قمة النظام الاجتماعي كما كانوا في عهده, في الوقت الذي بدأت فيه الهيمنة التركية على مصر تنحسر, وبدأ الكثير من الباشوات الأتراك يعودون إلى بلادهم, أما الذين بقوا فهم الذين تزاوجوا مع المصريين واندمجوا تماما حتى انمحت معالمهم التركية إلا قليلا. إن القاريء يضحك من الباشا التركي المتعالي الذي ينظر إلى كل شيء حوله بدهشة واشمئزاز متشبثا بعصره الذي يفضله على الحاضر المتقدم, إلا أنه يتطور مع الوقت وبعد أن دار ولف وتعرف على أوجه الحياة الجديدة. مصر أمام المرآة الجديد حقا أن مصر تنبهت إلى موقعها الفريد وبدأت تتساءل هل أنا شرقية أم غربية?! هل أنا بحر متوسطية أم إفريقية?! وانقسم المجتمع المصري على نفسه انقساما حادا يكاد يجعل منه شعبين لا شعبا واحدا: مجتمع الأرستقراطية الثرية ومجتمع عامة الشعب. مجتمع (الهاي لايف) ومجتمع الطبقات الأخرى, الذي ينظر إليه على أنه متخلف وهمجي و(بلدي)! ومنذ ذلك التاريخ بدأت إرهاصات الازدراء والاتهام لكل ما هو رافض للتطور في مصر: بنت البلد, ابن البلد, الفلاحين والصعايدة.. وغير ذلك ودخل الجيل الجديد من شباب مصر في صراع نفسي سيكون الأساس الذي تبنى عليه نهضتهم الحضارية والعصر الذهبي لكل الفنون في مصر.
|