الدراسات الأدبية في مأزق مصطفى ناصف

الدراسات الأدبية في مأزق

الدراسات الأدبية المعاصرة منحازة وضيقة بالرغم من تعمقها. لقد عبدنا كلمة النصوص وحملناها أكبر مما نعانيه من اضطراب وقصور.

في زحام الدراسة الأدبية يستطيع الباحث أن يجد الكثير مما يسره ويسوؤه، يستطيع أن يجد البنائية المغلقة والسميوطيقا التي لا تخلو من شكلية، والتفكيك الذي يصوّر المرح بلا حساب، والاحصاءات التي يدل ظاهرها على غير ما يدل عليه باطنها، ويستطيع أن يجد المصطلحات البراقة، والعناية بالعنونة، فإذا سألت نفسك عن أهداف كان الجواب شاقًا، لقد ضاع السؤال عن المقاصد، وضاع على الخصوص الهم الاجتماعي المتمثل في ترقية التفهم والتواصل والحوار.

الدراسات الأدبية لا تجعل هذه الثلاثية مطلبًا ملحًا، أكبر الظن أن أمر التفهم والتواصل والحوار يحتاج إلى تخصصات متداخلة لا نطيق الأخذ بها، ولا نعرف السبيل إليها، فقد فرغنا من الكلي إلى الجزئي، وفرغنا من الرسالة للحرفة، وفرغنا من هم السؤال إلى بدعة التقرير.

لنقل إن دراسات الأدب تحاصرنا دون وعي منا، لأنها مملكة منفصلة عنا، مملكة كلها حكام يثبتون في كل لحظة حقوقهم في التفرد، والسيطرة، الانفصال يدهمنا، انفصال الأساتذة بعضهم عن بعض، وانفصال الأساتذة عن الطلاب، وانفصال الأساتذة والطلاب عن أنفسهم وعن سائر الناس. من أجل هذا، ظلت دراسات الأدب في معظم الأحوال غريبة لا تقيم حوارًا، ولا تخدم تفهمًا مشتركًا، ولا تسير نحو غاية عامة، ولا تبحث عن المجتمع، ولا تعرف لنفسها موضعًا واضحًا في سياق الثقافة العربية والإنسان العربي، ومع ذلك فإن هذه الدراسات عميقة.

العمق لا يكفي لأنه عمق احترافي لا عمق وجودي، هم الدراسات الأدبية أن يقرأها قليل من الناس، أو أن تؤصل لنفسها مكانًا بمعزل عن أكثر الناس.

في الدراسات الأدبية ذكاء وصبر ودهاء ومراوغة للمجتمع وغياب عن القراء. من الصعب أن ندّعي أن هذه الدراسات تخدم التواصل والنور والبلاغ والاكتراث. الدراسات الأدبية أكثر دقة بمعنى ما من دراسات سابقة، لكنها بسبب هذه الدقة أكثر عزلة وأقل إحساسًا بالمسئولية العامة. الغايات يجب أن تحدد الدقة المطلوبة. الدقة الصورية الشائعة تكاد تشغلنا وتسحرنا عن أنفسنا. ما ظنك بحصانة غير مفتحة، ودقة لا متعة فيها، وصفوة لا تكاد تبحث عمّا يؤرقنا، وبحث عن أشياء لا تؤثر تأثيرًا قويًا في الثقافة العربية المعاصرة.

هل يؤدي العمق إلى العزلة؟

هل ضل البحث طريقه إلينا، هل جعلنا هذا البحث نمطًا من اللعب الشخصي الذي لا يوسع الفائدة الاجتماعية ولا يعمّقها؟ عكف الباحث على بعض الأدوات، وأثبت أنه ماهر في استخدامها، وأنه يعرف عنها الكثير. أكبر الظن أنه استغنى بها عنا.

عزّت الحواس الاجتماعية، وهرب الباحثون من أنفسهم، تفنن الباحثون في الاحتراف - والاحتراف هنا صدى القطيعة - وترك الزحام والتنافس الاجتماعي. حَسْبُ الباحثين تنافس فردي، وتجويد الحرفة، والإدلال علينا، أما الوصل والنماء الاجتماعي، فلهما ميدان آخر، قاعات الدرس تعمل، والمكافآت تنفق، والكتب توزع، وجماعة من المختصين تغدو وتروح، ثم ماذا؟

من الواضح أن الطلاب لا يستريحون كثيرًا إلى ما يسمعون، وأن الأساتذة أنفسهم يرتابون فيما يكتبون وما يذيعون، وأن الرحى - مع ذلك - تدور.

في وقت مضى، كان الناقد يطمح في أن يكون قائد فكر، لكن القيادة الآن معلّقة أو مغيّبة، هل يمكن أن ندير حوارًا حول برامج تدريس الأدب واللغة؟

يقال إن المعرفة لا هم لها إلا المعرفة، لكن هذا كلام لا يقنع معظم الناس. المعرفة كلها من أجل القوة، ونحن نلتمس من المعرفة الأدبية قوة لا مجرد تخصص، والسبيل إلى القوة لا يشبه السبيل إلى التخصص والاحتراف الضيق الذي لا يعنيه عثراتنا الفكرية والعملية.

لا إنكار لأهمية ما يصنعه رواد النقد المعاصر، لكننا نثير بعض الأسئلة، فحسب عن الهم الاجتماعي والوصل النفسي وكشف الشخصية العربية لا الشخصية الفردية المعتزلة المتفرجة الخارجة على الجماعة. لكن البحث الأدبي المعاصر تشغله البنية أحيانًا عن المضمون، يشغله النظام عن التجربة، ومشغلة التجربة نفسها عن ثمرتها. البحث الأدبي يمضي واثقًا من نفسه لا يقلقه كثيرًا عزوف معظم الناس عن الأدب والشعر المعاصر. ثم إن هذا البحث أيضًا لا يقلقه جناية الخيال الأدبي الفردي على التقاليد، فضلاً عن أننا نعزف عن طرح مشكلة العزوف عن التخيل والمشاركة الوجدانية.

كان من المظنون أن نفيق من أثر المعلومات المتدفقة عن الشكل إلى أهمية ما نحن فيه. إن الباحثين يجدّون في التقاط علم الشعر وعلم القص بأكثر مما يجدون في تأمل رسالة تصدر عن المجتمع، وتتجه إلى المجتمع، إن دور الرائد المنبه غير دور الحاذق المشغول بهندسة العمل وتركيبه وإخضاعه لبعض التصنيفات. أكبر الظن أننا نقرأ النقد الأدبي بأكثر مما نقرأ الثقافة العربية القديمة والحديثة. الباحث يعلو في مضمار التخصص ولا يفكر في شيء أكبر منه.

نحن نثقل على أنفسنا، ولا نكاد نلتفت إلى المسافة التي تفصل بيننا وبين الشباب، هل تربي البضاعة الدراسية في عقولهم وضمائرهم حاسة الانتماء. هل تفزعنا غيبة الاكتراث العميق. أنا أفضل أحيانًا سؤالاً مقلقًا للجماعة على أسئلة التكنيك، ذلك الترف الذي يشغل مَن عاش في غرفة ضيقة، ومفهوم مفرّغ للغة. لم يستطع البحث الأدبي المتطور أن يكشف ما حدث لقوم كانوا يومًا كبار النفوس.

أهم من البنية المفرّغة سؤال عن مشكلات الصلة بين الكاتب والقارئ، ربما أعتقد أن الصلة والحوار أهم من «الصنعة». الصنعة لا تسأل عن شيء مشترك. إنني أخشى أن ننصرف عن الحوار حول مبادئ أكبر من الصنعة. أليس من الخير أن نتعلم التفكير معًا، أن أسألك وأن تسألني، أليس المحاور الصديق منافسًا للمعلم الباحث.

لقد تطور البحث كثيرًا، وصحب هذا التطور ما يشبه التسلط والنظر إلى اللغة نظرتنا إلى مصنع الأجهزة التي لا تعقل ولا تسمع، لكن غير قليل من الأدوات تحول كل شيء إلى جماد أو تحول الإنسان إلى علامات، سرعان ما نتحول عن القوة الرمزية إلى علامات.

خسارة القوة الرمزية لا تلفتنا كثيرا، القوة الرمزية مختلفة عن التكنيك. القوة الرمزية تخلفت منذ وقت غير قصير، القوة الرمزية شيء، وما تعودنا عليه مما سمي في التراث باسم اللازم والملزوم شيء آخر، لكن هذا الاصطلاح نفسه

لا يزال معمولاً به في مسميات أخرى. كانت هذه المسميات آية اضمحلال الروح، كما كان التبعثر الذي يجد رواجًا كثيرًا الآن. بعبارة أخرى إن الدراسات الأدبية لا يهمها كثيرًا التشقق العقلي والروحي الذي يتزايد.

الدراسة الأدبية عليها واجبات ثقيلة تتصل بحماية الثقافة العربية، بدلاً من الخضوع لخشونة الحياة، والاعتماد المتزايد على الصور، وضآلة النشاط الخيالي. قل أن يكترث الأديب المعاصر بضعف القوة الرمزية، واشتداد الإعلان، وحملات الإيهام، والتلفزيون، والتلاعب، والتأثير الخفي، والتعاملات الحديثة مع فكرة الإخراج، وقلة الشعور بالحرج.

عجز المعلمون عن بث القوة الرمزية والتلطف، وعجزوا أيضًا عن معالجة طغيان الجزئيات والعقبات، والريب والتفصلات، ووهن الآمال الكبيرة - تراجع المعلمون مع تراجع قوة الروح، وأصبح كل إنسان حكاية تذهب أو تجيء، تراجع المعلمون وغير المعلمين، وأصبحنا واقعات صغيرة.

التفصيلات تلتهم القوة الرمزية

مغزى هذا أن النقد المعاصر يصم أذنيه عن فكرة الرموز والإنسان العظيم. لاشيء فوق الفرد والعوارض والسرد والتتابع المستمر، لاشيء من قبيل الطلاقة الرمزية، ربما أسهمت السميولوجيا في مناوأة هذه الطلاقة، وتمكين فكرة الشذرات. أغرت الأدباء المعاصرين القوة التقويضية، والعبث بفكرة العظمة والعلو.

في هذه الأيام، لا نكترث بالقوة الرمزية والروح العظيم. غلبنا السرد والتفصيلات والنجاحات الرخيصة. لكن الدراسة الأدبية هانئة يعنيها التكنيك أكثر مما يعنيها السؤال، يعنيها التحيز أكثر مما يعنيها انصهار الآفاق، يعنيها الآبد أكثر مما يعنيها الصراع بين الساكن والمتحرك. أهل الثقافة الأدبية يتحلون - كذلك - بطلب الغموض، وتعشق المجهول، هناك مطالب أخرى ذات وجاهة، مطالب الوضوح والمعلوم ونظام الحركة الواقعي.

إن الثقافة الأدبية تتأنى كثيرًا أمام قوة الغموض، لكن من حقنا أن نتفتح على عالم آخر يكون فيه الوضوح شرطًا لازمًا ومقومًا جوهريًا. هناك محاولات تحتاج - لا محالة - إلى فك هذه القوة في مفردات بسيطة.

لقد غالت الثقافة الأدبية المعاصرة في تقدير الغامض والمفكك والمشتت والمجهول والمهدوم، ومن ثم أصبحت تعيش في عالم ضيق. من حقنا أن نلبي احتياجات متنوعة، وأن نتصدى للنزاع الاجتماعي بين مختلف الاحتياجات، قضية الثقافة غير الأدبية متشعبة وحسّاسة، لكن الثقافة الأدبية تتصور الحياة الداخلية معرضة للضيم أو الضياع.

لا ريب أن كل فئة ثقافية لها مصالح وقدرات على مقاومة فئات أخرى.

لا غرابة إذا وجدنا الثقافة الأدبية الآن منساقة في هذه المقاومة، والإسراف في مزاعم الضياع الذي يعتبر - مع الأسف - ثروة لا يمكن تبديدها.

يجب أن تتجاوز دراسة النصوص الهوية المفقودة والزمن الضائع، ويجب أن نعنى بتحديدات الزمان والمكان والروابط ومناوأة الاشتباه والنسيان، وتقوية التذكر والتنظيم، والبحث عما يجاوز الاختلاط والتحطيم. لا معنى لإعطاء الثقافة الأدبية سلطانًا مطلقًا، إن بنية الفهم أكبر من مطامح كثير من الأدباء، وموضوع الجدل بين الواضح والغامض كمثل موضوع الغاية يحتاج إلى مناهج وخبرات ثانية، هناك في الوسط الأدبي ضروب من الاهتمام تحتاج إلى مناقشة. لا يمل الوسط الأدبي من الهجوم على السائد والسابق والمكرّس، والتثبيت. الجدل الاجتماعي أعمق من المتوحش والنافر واللاهي الذي يقفز على الدوام.

من واجبنا أن نرصد ما هو ضد المجتمع، ما يغني المجتمع، وما يفقر المجتمع، ما يعد إجازة من المجتمع، وما يعد توحشًا ورفضًا قاسيًا للمجتع. لكن الثقافة الأدبية المعاصرة مولعة بالعجز والنكوص والسلب والعدم. هناك حقوق أخرى تنسى. المعركة بين الأدبي والاجتماعي يجب ألا تفهم من أجل الدعاية لفريق واحد.

نحن لا نخدم الشعر وحده، إنما نخدم أيضًا ما يصح أن نسمّيه مكافحة الشعر الرابض في عقولنا. وليس بد من أن نلاحظ قضية التنافس والتكامل بين مكونات ثقافتنا، إنها قضية أكبر مما يتصور الأدباء، أكبر من التأمل العصبي الفردي. نحن ندرس أشياء كثيرة. هل نضيع في الكثرة والمتفرقات. لقد صرنا متأنقين، ونسينا ما نعانيه في الحر والبرد والعيش العملي، ونسيان التدريبات العظيمة لروح الإنسان. بدلاً من هذه التدريبات أخذنا نتملق تشويش الرسالة.

تلفت قَلبي إِلى الكرمـلِ وَحنَّ إِلى عَهـدِهِ الأَوِّلِ
وَمَرَّت بِهِ ذكريات الهَوى رَواجعَ مِن ذَلِكَ المَنـزلِ
تلفت كَما شئت وَاخفق لَهُ سَحائِبُ هَمك لا تَنجلـي


إبراهيم طوقان

 

مصطفى ناصف