فِرَقُ الطبِّ يوسف زيدان

فِرَقُ الطبِّ

تعدُّ هذه المخطوطة واحدةً من أشهر المخطوطات العربية في العالم, وأكثرها ندرةً. ويزيد من أهميتها - بالإضافة إلى كونها مخطوطة (ألفية) يرجع تاريخ نسخها إلى أكثر من ألف عام - أنها تجمع بين ثلاثة أسماء كبرى في تاريخ التراث العربى, بل الإنساني بعامة.

مؤلف هذه المخطوطة هو الطبيب اليوناني الشهير (جالينوس) ومترجمها إلى اللغة العربية هو أشهر مترجم في تاريخنا (حنين بن إسحاق), ومالكها الذى سجل تملُّكه على غلافها هو الشيخ الرئيس (ابن سينا). وسوف تكون لنا عودة في آخر هذه المقالة, للنظر في هذا التملُّك وما يثيره من إشكالات تاريخية.

المخطوطة محفوظة اليوم بباريس, ضمن مقتنيات المكتبة القومية الفرنسية, المعروفة اختصاراً بحروف BNF, ويعتقد كثيرون أنها كُتبت سنة 232 هجرية, وهو تاريخ مبكر نسبياً وتحوطه بعض الشكوك! ومع ذلك, فالمخطوطة لا يقل عمرها بحال عن ألف عام, إذ الراجح عندنا أنها كُتبت أوائل القرن الخامس الهجرى, ولهذا الأمر تفصيلٌ سنعود إليه بعد الكلام عن مؤلفها ومترجمها.

جالينوس

ولد جالينوس في مدينة (برجامه) بآسيا الصغرى, في حدود سنة 129 ميلادية, ودرس الطب لعدة سنوات في الإسكندرية - وكان يفخر بذلك - ثم عاد إلى موطنه ليمارس الطب ويشتهر به, حتى صار ثاني أكبر الأسماء اليونانية في مجال الطب, بعد أبقراط.

ولم يقتصر الجهد العلمي لجالينوس على الطب, وإنما تعداه إلى الفلسفة والمنطق والأدب والخطابة, حتى اعتبره المؤرخون أهم شخصية علمية في القرن الثانى الميلادى, الذي توفي جالينوس في العام الأخير منه (سنة 199 ميلادية), ولذلك أفرد له سارتون فصلاً كاملاً في موسوعته الشهيرة: مقدمة في تاريخ العلم.

بلغت مؤلفات جالينوس حوالي الخمسمائة, وقد جُمعت في فهرست بعنوان Pinax وقد ترجمه حنين ابن إسحاق إلى اللغة العربية بعنوان: فينكس, ثم ألَّف رسالة بعنوان طريف: رسالة فيما ترجم من كتب جالينوس ومالم يترجم, بعلم حنين! وكانت مؤلفات جالينوس, الخمسمائة, عبارة عن رسائل متفرقة وكتيبات قصيرة, مالبث أطباء الإسكندرية أن عكفوا عليها بالدراسة والتحقيق والضبط, واستخرجوا منها ستة عشر كتاباً كبيراً, عُرفت في تاريخ العلم باسم: منتخبات الإسكندرانيين لجالينوس.

وبعد أن ترجم حنين بن إسحاق (منتخبات الإسكندرانيين) الستة عشر, صارت هذه المجموعة, بالإضافة إلى الاثني عشر كتاباً التي ألَّفها أبقراط, هي المقرر الأساسي لطلاب الطب في مشارق العالم الإسلامى ومغاربه, لمدَّة ثمانية قرون, لم يكن خلالها يُسمح لأي شخص بممارسة الطب, قبل دراسة هذه الكتب الثمانية والعشرين.

وكتاب (فرق الطب للمتعلمين) هو واحد من منتخبات الإسكندرانيين الستة عشر, وفيه يستعرض جالينوس المدارس المختلفة للطبِّ في زمانه. وطرق الاستدلال الطبي والمعالجات في كل مدرسة منها, وقد كتبه جالينوس, ونقَّحه الإسكندرانيون و ترجمه حنين, بلغة سهلة تناسب الغرض التعليمى الذي وضع الكتاب لأجله, ولذا كان عنوانه العربى الكامل, هو: فرق الطب للمتعلمين.

حنين بن إسحاق

ارتبط فجر العلوم العربية الإسلامية بحركة الترجمة ونقل الكتب من اليونانية إلى العربية, وهي الحركة التي نشطت ببغداد, عاصمة العالم في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) وكان بيت الحكمة هو بؤرة هذا النشاط العلمي الكبير, الذي قاده أشهر مترجمي الإسلام في كلِّ العصور: حنين بن إسحاق العبادي, المتوفي سنة 260 هجرية.

ولم يكن حنين بن إسحاق يعمل في بيت الحكمة كمترجم منفرد, وإنما كان بمثابة (المشرف العام) على الترجمة والمترجمين الذين عملوا هناك, من أمثال: اسحاق بن حنين (ابنه) حبيش ابن الأعسم (ابن أخته) عيسى بن علي (تلميذه) عيسى بن يحيى.. وغيرهم من المترجمين المهرة الذين تراوح عددهم ما بين التسعين والمائة مترجم. وكان (حنين) قد سجل في قائمةٍ ما ترجمه هو من كتب جالينوس, أو ما أصلحه من ترجمات السابقين عليه لهذه الكتب, التي نالت شهرة واسعة في زمن حنين, والأزمنة التالية عليه.. غير أن أعمال (حنين) لم تتوقف فقط عند ترجمة أعمال جالينوس, فقد ترجم عديداً من مؤلفات أبقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم من علماء اليونان, حتى بلغت الأعمال التي ترجمها قرابة مائة وعشرين كتاباً.

ولجودة المترجمات التي قام بها حنين, الذي كان يتقن العربية واليونانية والسريانية إتقاناً تاماً, صارت ترجمته لهذا الكتاب أو ذاك, هي الترجمة المعتمدة التي توارت لصالحها أية ترجمة أخرى قام بها المترجمون الذين سبقوه زمناً.

ويحكي لنا المؤرخ الشهير (ابن أبي أصيبعة) في كتابه الشهير (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) حكاية طريفة, مفادها أن حنين بن إسحاق كان يُكافَأ من الخلفاء (المأمون, الواثق, المتوكل) مكافأة كبيرة, بل إن الخليفة المأمون بن هارون الرشيد, كان يزن له ما يقوم بترجمته, بالذهب. فكان (حنين) يبالغ في الكتابة على ورق سميك, ليضمن مكافأة أكبر من الوزن! وكان ذلك سبباً في بقاء ترجماته إلى عصور متأخرة, نظراً لأن الورق السميك كان أكثر قدرة على مقاومة آفات الزمان.

ومع ذلك, فقد ابتلي حنين بن اسحاق بالكثير من المحن التي يضيق المقام هنا عن ذكرها, ولذا نراه متبرماً بزمانه وأحوال أهل عصره, في عبارة تناقلتها المصادر يقول فيها: (يقولون: منْ هو حنين ? إنما حنين ناقل لهذه الكتب, ليأخذ على نقله الأُجرة, كما يأخذ الصُّنَّاع الأُجرة على صناعتهم.. فهو خادمٌ لأدائنا, وليس هو عاملٌ بها, كما أن الحدَّاد وإن كان يُحسن صنعة السيف, إلا أنه ليس يُحسن أن يعمل به, فما للحدَّاد والفروسية..) إلخ.

ومع ذلك, فقد أدى حنين خدمات جليلة لتاريخ العلوم العربية, وظل اسمه حتى يومنا هذا مرتبطاً بفجر النهضة العلمية العربية, التي أسهم فيها بقسط وافر من خلال ترجماته التي وصل إلينا منها الكثير, ومن هذا الكثير مخطوطتنا الألفية هذه المحفوظة اليوم بباريس.

تزوير قديم

كثيراً ما تقابلنا في عالم المخطوطات عمليات تزوير كان النُّساخ يلجأون إليها لرفع قيمة هذه المخطوطة أو تلك.. فبعضهم يدوِّن في آخر مخطوطته تاريخ نسخ أقدم من تاريخها الفعلي, وبعضهم يضع تاريخ التأليف في مكان تاريخ النسخ ليوهم الناظر فيها بأنها أقدم عمراً (وبالتالى: أغلى ثمناً), وبعضهم يتعمد الكتابة بالخط القديم ولا يضع نقاطاً فوق الحروف, مقلِّداً طريقة القدماء, فيوهم بقدم مخطوطته ويطلب لها سعراً كبيراً! ولا تكاد عمليات التزوير هذه, تخفى على المتخصصين في عالم المخطوطات, إذ يمكن اكتشافها بالنظر في طبيعة (الورق) الذي كتبت عليه المخطوطة, وما قد يشتمل عليه من علامات مائية أو طريقة صنع أو أية علامات أخرى تدل على تاريخها. كما يمكن اكتشاف التزوير بالنظر في الأخطاء التاريخية التي قد يقع فيها المزوِّر, أو في التعليقات الهامشية التي ربما دَلَّ بعضها على دقائق تخالف تاريخ النسخ المذكور بالمخطوطة. وبالطبع, فالتزوير كلما كان أقدم, كان اكتشافه أعسر! ولسوف نرى فيما يلي حالة فريدة, وطريفة في الآن ذاته, لعملية تزوير قديمة تمت قبل ألف عام, لتوحي بأنَّ هذه المخطوطة (فرق الطب, لجالينوس ) يزيد عمرها عن تاريخها الفعلي, بقرابة مائة وخمسين سنة.

لجأ ناسخ المخطوطة إلى حيلةٍ طريفة, فذكر في آخر المخطوطة أنَّها أُنجزت سنة 232 هجرية, وهو ما يوحي للوهلة الأولى بأنه تاريخ نسخها.. والواقع أنَّ السنة المذكورة, هى تاريخ إنجاز الترجمة على يد حنين بن إسحاق, لا تاريخ تدوين هذه النسخة بالذات. وهو أمرٌ لم نستطع حسمه, إلا بعد فحص المخطوطة الأصلية أثناء زيارتي للمكتبة الوطنية الفرنسية بباريس قبل عامين, حيث تأكدت من أن الورق الذي كُتبت عليه المخطوطة, يختلف عن ذلك الورق (السميك) الذي كان حنين بن إسحاق يستخدمه, ليزن مقابله ذهباً! بل هو ورق مصقول لم يصنع أصلاً, إلا بعد مائة سنة من وفاة حنين بن إسحاق.

وقد لجأ الناسخ إلى حيلة أخرى لرفع قيمة المخطوطة, فكتب على غلافها ما نراه من التملكات الواردة في النموذج المصور هنا, حيث نقرأ تحت العنوان: (في حوزة الفقير حسين بن عبدالله بن سينا المتطبب, سنة سبع وأربعمائة), وهي عبارة صريحة تدل على أن المخطوطة, كانت ضمن مكتبة الشيخ الرئيس ابن سينا (المتوفي سنة 428 هجرية) وعليها خطه. وكان الناسخ من الحذق, بحيث كتب: الفقير.. المتطبب! وهي صفات لا يمكن لغير (ابن سينا) أن يصف بها نفسه على سبيل التواضع, وإلا, فالمعتاد أن يشار لابن سينا بصفات مثل: الطبيب, الشيخ الرئيس, العلامة, ومثل ذلك من الصفات التي تليق بمكانة أشهر أطباء الإسلام, وأحد أشهر أطباء الإنسانية.

وقد بالغ الناسخ في تزويره, فانكشف, ذلك أنه سجل على صفحة العنوان تملكاً آخر, بالحبر والقلم نفسه, باسم (بختيشوع) ونحن نعلم أنه اسم لأسرة طبية شهيرة عاشت ببغداد في القرن الثالث الهجرى, ومات آخر أطبائها قبل ابن سينا بخمسين سنة! فلا يعقل أن يكون التملكان قد كتبا بالحبر والقلم نفسه.

ومما يؤكد أن التملكين مزوران, أن الحبر الذي كتبا به, شف الكلمات على الصفحة البيضاء المقابلة لصفحة العنوان. فقد سها الناسخ, وطوى الكتاب قبل أن يجفَّ الحبر, فشف! وهو ما يؤكد أن كلا التملكين كتب في وقت واحد, وبالتالي فكلاهما مزورٌ.

ومع ذلك, تظل المخطوطة على الرغم من تزويرها القديم, المتقن, واحدة من أهم المخطوطات الألفية في العالم, فهي قديمة (بل: ألفية) وكاملة, ومقروءة بشكل جيد, وتضم واحداً من أهم متون الطب في التراث العربي والإنساني بعامة.

أصبح السفحُ ملعبا للنسور فاغضبي يا ذرا الجبالِ وثوري
إن للجرح صيحةً فابعثيها في سماعِ الدنى فحيحَ سعيرِ
واطرحي الكبرياء شلوا مدمى تحت أقدامِ دهركِ السكيرِ
لملِمي يا ذرا الجبال بقايا النسرِ وارمي بها صدور العصور
إنه لم يعد يكحل جفن النجم تيها بريشةِ المنثور ِ


(عمر أبو ريشة)

 

يوسف زيدان 




الصفحة الاولى من مخطوط فرق الطب للمتعلمين وهو مترجم عن اليونانية لعلاّمة الطب جالينوس