التطورات التكنولوجية وصدمات المستقبل.. د. أحمد أبوزيد أحمد أبوزيد

التطورات التكنولوجية وصدمات المستقبل.. د. أحمد أبوزيد

كان الاهتمام بالمستقبل دائما من الأمور التى تشغل بال الإنسان منذ بداية ظهوره المبكر، وقد بلغ ذلك الانشغال ذروته فى أواخر القرن الماضى، ولكن لاتزال هذه الذروة تتصاعد ويتسع نطاقها بتعقد الحياة وتشعب الاهتمامات وتفرع المطالب.

أصبحت هناك الآن مؤسسات متخصصة تحاول التعرف مسبقا على طبيعة الظروف التى يتوقع أن يجد الإنسان فيها نفسه فى المستقبل غير البعيد، وكيف يمكنه أن يهيئ نفسه لمواجهة هذه الظروف والتعامل معها كى يستمر فى الوجود والبقاء، خاصة أن كثيرًا من المستجدات التى يزخر بها عالم اليوم تظهر بشكل مفاجئ، وتتصادم مع كل ما جرت عليه حياته وما اعتاده من أساليب التفكيروأنماط القيم وكثير من الثوابت والمبادئ المسلم بها، والتى يصعب نقضها أو التنازل عنها، فضلا عن رفضها أوالتنكر لها . والجانب الأكبر من هذه التغيرات الصادمة يرتبط ارتباطا شديدا بالتطورات التكنولوجية التى تعتبرمن أهم معاييرالتقدم.

ومع بدايات القرن الحادى والعشرين أصبح لزاما على المهتمين بمستقبل العالم والجنس البشرى أن يأخذوا فى الاعتبارالأوصاع الجديدة الناشئة عن اتجاهات العولمة، والمشكلات التى ظهرت بالفعل والتى يتوقع ظهورها نتيجة للتقدم العلمى والثورة التكنولوجية والتطورات الاجتماعية والسياسية وتدفق المعلومات واتساع نطاق التحركات البشرية رأسيا وأفقيا، وغير ذلك من تحديات طارئة تمثل تهديدا لجوانب عديدة من المسلمات الثقافية الوطنية والقومية. ومن المسلم به أن التقدم التكنولوجى يتحقق بمعدلات أكبر وأوسع وأسرع من التطورات الثقافية والاجتماعية والبيولوجية على حد سواء، حيث يحتاج التطور البيولوجى بالذات إلى حقبات زمنية طويلة جدا بالرغم من أنه لم يعد متوقفا على عوامل الانتخاب الطبيعى الشديد التباطؤ، وبالرغم من النجاح الذى أحرزته علوم الطب والتغذية وقدراتها الفائقة على التأثير فى حياة البشر، فالأفكار الجديدة ترتبط ارتباطا وثيقا بالمستجدات التكنولوجية التى تساعد بدورهاعلى نشر تلك الأفكار وهكذا. كما أن التكنولوجيا الجديدة تؤدى إلى تغييرات جذرية فى كل أنحاء العالم حيث أصبح الاتصال ميسسورا بين مختلف الشعوب والثقافات. وإذا كانت التغيرات الاجتماعية عملية متصلة ومستمرة وتحتاج إلى فترات طويلة نسبيا من الزمن فإن التطورات التكنولوجية تتم الآن بمعدلات متسارعة للغاية ، ولذا نجد أنه بينما يتكلم العلماء عن المتصل الثقافى الذى يربط الماضى بالحاضر، على أساس أن التغيرات الاجتماعية عمليات تراكمية، بالرغم من كل ماقد يحدث من انقطاعات وانكسارات فى ذلك المتصل، فإنهم يتكلمون عن التغيرات الفجائية الناجمة عن الطفرات التكنولوجية الواسعة التى تمت خلال تاريخ الجنس البشرى والتى لاتزال تتوالى، والتى أدت - فى رأى بعضهم - إلى انتقال المجتمع الإنسانى من مرحلة التنقل والبداوة بمختلف صورها وأشكالها إلى مرحلة الزراعة والاستقرار، إلى مرحلة الصناعة والحضارة الحديثة بكل ماتحمله من تعقيدات، إلى مجتمع مافوق الصناعة Super-industrial Society الذى تمثل فيه التكنولوجيات المتقدمة فى مجال المعلومات قوة هائلة فى تشكيل الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بل والثقافية على مستوى العالم ككل.

وقد ترتب على هذه الاختلافات بين طبيعة ونوعية التغيرات الاجتماعية والثقافية والتغيرات التكنولوجية إخفاق المجتمع الإنسانى فى أحيان كثيرة فى التلاؤم بالسرعة الكافية مع تلك الطفرات التكنولوجية والتكيف مع المستجدات ومع النتائج غير المتوقعة والعجز عن تقبل هذه النتائج. ولعل أوضح مثال لذلك هو مانشاهده الآن من رفض بعض الثقافات لفكرة الاستنساخ التى جاءت نتيجة للطفرة الواسعة فى بعض مجالات البحث العلمى. وعلى أية حال فإن أى نسق ثورى جديد يؤدى فى الأغلب إلى حدوث خلل فى العلاقات القائمة بل وفقدان التوازن الاجتماعى وارتباك التوجه العام.

صدمة الواقع

وينطبق ذلك على المجال العلمى والتكنولوجى بقدر مايصدق على الحياة السياسية وكثيرا مايكون ذلك بمنزلة صدمة للواقع القائم تثير ردود فعل متباينة . فالتقدم التكنولوجى حقق فى مجال الكمبيوتر - على سبيل المثال - طفرات تفوق كل التوقعات فى فترة قصيرة نسبيا . ففى أواخر الستينيات كان هناك من بين المشتغلين فى الشركات الكبرى العاملة فى ذلك المجال من يتشكك فى أهميته وفاعليته وفى جدوى الشرائح الدقيقة ، بل إنه فى السبعينات كان هناك من يرى أنه ليس ثمة مايدعو لأن يملك الفرد «كمبيوتر» خاصا به فى البيت . وهذا التشكك نفسه كان يلازم دائما كل المكتشفات الحديثة فى مجال الاتصال، اعتبارا من التليفون حتى إمكان الوصول إلى القمر ، ولذا حين تحققت هذه الإمكانات كانت بمنزلة صدمة للكثيرين أدت إلى اختلال الموازين والتقديرات والعلاقات والسلوكيات.

والواقع أن كثيرا من التحديات التى يواجهها العالم الآن له مخاطر يصعب على أية حكومة أوأية منظمة التغلب عليها بمفردها، مما يستدعى تعاون المجتمع الإنسانى ككل بجميع مؤسساته وتنظيماته الفاعلة. ومن هذه الأخطار الزيادة السكانية الرهيبة وارتفاع معدلات استهلاك الطاقة وأخطار انتشار بعض الأمراض والأوبئة مثل الإيدز وازدياد التوجه نحو استخدام أسلحة الدمار الشامل سواء النووية أو الكيماوية أو البيولوجية، واحتمال وقوعها فى أيدى بعض الأفراد أو المنظمات المارقة وما إلى ذلك ، فكلها تمثل تهديدات لمستقبل الجنس البشرى كما تمثل نماذج من الصدمات التى تصدم المشاعر والأفكار والقيم والسلوكيات التى درج عليها المجتمع خلال تاريخه الطويل ولذا تؤدى إلى ارتباك منظومة الحياة العادية المألوفة.

وصدمة المستقبل أيضًا

ومصطلح «صدمة المستقبل» صاغه فى الأصل عالم الاجتماع الأمريكى ألفين توفلر عام 1970 للإشارة إلى المشاعر والأحاسيس والأفكار التى قد تثيرها التطورات التكنولوجية الرهيبة لدى الإنسان والتى قد تتراوح بين التحمس والانبهار من ناحية والخوف والارتياع من الناحية الأخرى، بالإضافة إلى التغيرات التى تطرأ على الأوضاع السائدة التى عايشها وكادت تصبح جزءا من تكوينه وكيانه . وقد تكون الأجيال الأكثر تقدما فى السن والمجتمعات التى تعيش فى مناطق نائية وفى شبه عزلة عن مجرى الأمور أكثر تخوفا مما قد يأتى به الغد، وذلك على عكس الحال بالنسبة للأجيال الأكثر شبابا وإقبالا على الحياة وتقبلا لتقلبات الأحوال وقدرة على التعايش معها والتكيف مع متغيراتها . وقد بينت بعض الدراسات أن الخوف (اللاعقلانى) من الغد أكثر انتشارا من الحماس المتدفق فى معظم الشرائح الاجتماعية التى أجريت فيها تلك البحوث والدراسات . وعلى أية حال فإن كتاب «صدمة المستقبل» الذى كان فى الأصل مقالا نشره توفلر فى مجلة إحدى المجلات يشير إلى الاضطراب والبلبلة فى الحياة السيكولوجية للأفراد والجماعات نتيجة للتغيرات الواسعة العميقة التى تحدث فى وقت قصيرلايتيح الفرصة لاستيعابها وتمثيلها، وهو الأمر الذى نجد له مثالا واضحا فى الموقف من مفهوم الفرادة التكنولوجية الذى سبق أن أفردنا له مقالا فى «العربي» (عدد إبريل 2006 ) والذى بدأ ينتشر فى الخارج فى أواخر القرن الماضى . فالصدمة تحدث إذن حين يجد المرء أن الأشياء المألوفة له والتى تؤدى دورا له معنى فى حياته تتراجع فجأة لكى يحل محلها أمور أخرى جديدة وغريبة عنه وغير مفهومة بالنسبة له . فالصدمة المستقبلية هى ضياع وفقدان للتوجه تنجم عن هجوم تغيرات غير متوقعة بسرعة رهيبة تفرض أوضاعا جديدة تماما على الواقع المألوف، وهذا هو مايواجهه المجتمع الإنسانى الآن، مما يثير البلبلة والارتباك والاضطراب كما هو الشأن بالنسبة للطاقة والاحتباس الحرارى وشئون البيئة والثورة المعلوماتية والفرادة وغير ذلك من المشكلات التى تواجه الإنسان المعاصر

التقدم واستمرار الحياة

ولقد حاول بعض العلماء التمييز بين عدد من مستويات صدمات المستقبل ونوع الاستجابة لها على مافعل إيليزر يودكوفسكى Eliezer Yudkowskyفى مقال له عن «مستويات صدمة المستقبل» (عام 1999) حيث يميز بين خمسة مستويات تبدأ من مستوى الصفر الذى يتمثل فى التكنولوجيات الحديثة السائدة فى عالم اليوم والتى أصبحت مقبولة ومستخدمة فى مختلف أنحاء العالم بعد أن قوبلت فى فترات سابقة بالرفض أو عدم التصديق أو التشكيك فى أهميتها أو الخوف من عواقبها ، ثم المستوى الأول المتمثل فى الواقع الافتراضى وفى الاقتصاد القائم على التجارة الإلكترونية ، والمستوى الثانى المتمثل فى السفر إلى الكواكب ومحاولات تحقيق الأمل فى تنفيذ فكرة استمرار الحياة أو (خلودها) عن طريق استخدام نتائج التقدم فى مجال البحوث الطبية والهندسة الجينية ، و المستوى الثالث المتمثل فى النانوتكنولوجى والذكاء الاصطناعى المماثل أو الموازى للذكاء البشرى، ثم أخيرا المسستوى الرابع المتمثل فى الفرادة . ويذهب يودكوفسكى إلى أن هذا التصنيف يعطى الناس فرصة لتهيئة أنفسهم لما سوف يواجهونه فى المستقبل من صدمات ، ولكنه يعترف فى الوقت ذاته بأنه تصنيف فضفاض وغير دقيق وبه كثير من الثغرات كما أنه لايعنى انقسام الشعوب أو الأفراد فى فئات متعارضة أو متصارعة، ولذا لايمكن الاعتماد عليه فى التفرقة بين البشر والتمييز بين (نحن) والآخرين . فالهدف منه هو قياس مايتقبله الناس عن رضا وليس قياس مايعرفونه عن المشكلات المتعلقة بكل مستوى ولذا فإن الذين يهتمون بمشكلات المستوى الرابع (الفرادة) قليلون نسبيا. والسؤال الذى يطرح نفسه هنا، هو هل هناك مستويات أخرى قد يكشف عنها المستقبل ؟

وواضح من هذا التصنيف أن المستوى الذى يتقبله البعض يثير الدهشة أو الاعتراض أوحتى الخشية والخوف والرفض لدى البعض الآخر نتيجة لعدد من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المتباينة . فالتدرج فى المستويات يقابله تدرج فى القبول أو الرفض يعتمد بدوره على تدرج مماثل فى القدرات الذهنية والمعرفة بالأوضاع القائمة واتساع النظرة إلى المستقبل. فالمعرفة بتكنولوجيا النانو تجعل الإنسان أكثر تقبلا لفكرة إمكان الوصول إلى أساليب امتداد الحياة إلى مالا نهاية وهو مايعرف باسم «الـخلود الطبى» Medical Immortality وقد يمكن تحقيق هذه الأمنية فى زمن لاحق ولكن الفكرة تثير الصدمة لدى الكثيرين نظرا لعجز التفكير عن استيعاب مغزاها. وليس أدل على تباين الاستجابات لتباين مستويات الصدمات من أن تصور إمكان السفر فى الفضاء بين الكواكب يثير قدرا من الصدمة بمختلف أشكالها أكثرمن فكرة السفر جوا بين مختلف قارات العالم كما يحدث الآن، بالرغم من شيوع الفكرة لدى أغلبية الناس فى الوقت الحالى. والطريف فى نظرية يودكوفسكى عن مستويات صدمات المستقبل هو رأيه فى أنه ليس لمسألة (الاعتقاد) أهمية أو دخل فى الموضوع، وأن المهم هو مدى الشعور بالارتياح نحو مستوى معين دون الآخر والتأقلم مع الفكرة. فما قد يعتقده البعض ويؤمنون به على المستوى الذهنى البحت، قد يحتاج إلى وقت طويل جدا حتى يسلموا به على أرض الواقع، كما هو الشأن مثلا بالنسبة للسفر بين الكواكب أو بالنسبة للفرادة أو تكنولوجيا النانو ، وهذا يستدعى إعادة النظر فى مشكلة التصنيف ككل.

وأيا كان الأمر فإن الجنس البشرى يتمتع بقدرات هائلة على التغيير الخلاق الذى كثيرا مايتجاوز كل التوقعات، بحيث يصدم بشدة الأفكار العامة السائدة نتيجة للطفرات العلمية والتكنولوجية الواسعة وارتياد مجالات لم تكن تخطر على البال بل وكان أمرها محظورا من قبل . والأكثر من ذلك أن عددا كبيرا من المشتغلين بهموم المستقبل لم يعودوا يقنعون بالتفكير المجرد ووضع التصورات النظرية أو يكتفون بالتحليق فى فضاء التأملات الخيالية ويعبرون عنها فى قصص وروايات الخيال العلمى وإنما بدأوا يشقون طريقهم إلى مجال النشاط العملى الذى قد يؤدى إلى تحقيق تلك الأفكار والتأملات على أرض الواقع المحسوس والملموس . ويظهر ذلك واضحا فى زيادة الاهتمام بالبحوث فى مجال هندسة الأنسجة tissue engineering التى يعتبرها الكثيرون صناعة القرن الحادى والعشرين والتى قد تحقق فى آخر الأمر فكرة الخلود الطبى المأمول . والمفروض على أية حال أن الخمسين سنة المقبلة سوف تشهد التغلب على كثير من التحديات من خلال الاعتماد على التطورات السريعة والمتلاحقة فى مختلف مجالات التكنولوجيا وبخاصة تكنولوجيا الكمبيوتر، وكلها تطورات مرتبطة بما يسميه المستقبليون بالذكاء الاصطناعى الفائق الذى يطبق المعلومات والخبرات بطرق وأساليب مبتكرة لحل المشكلات التى تواجه الإنسانية وتحقيق الأفكار الجديدة التى سوف تسبب صدمات مستقبلية تؤدى إلى خلق واقع جديد.

أزمنة مستقبلية

فى الفترة من 29 إلى 31 يوليو 2001 عقد عدد كبير من المستقبليين مؤتمرا فى منيابوليس بالولايات المتحدة سجلت تفاصيله مجلة «أزمنة مستقبلية Future Times» للنظر فى التحديات التى سوف تواجه العالم خلال العقود المقبلة وعرضوا خلال المناقشات لفكرة طريفة ومثيرة حول إنشاء (معرض عالمى للأفكار) يتيح الفرصة أمام الجميع لتقديم وعرض الأفكارالمستقبلية الجديدة حول والتوقعات المحتملة بالنسبة لتشكيل المستقبل من مختلف الزوايا والجوانب المؤثرة فى حياة إنسان الغد، وغير ذلك من الأفكار التى قد تراود العقول المتفتحة على المستقبل، وتتجاوز بنظرتها الواقع الحالى . وفكرة إقامة هذا (المعرض) فيها دعوة مفتوحة لأصحاب الفكر المبدع الخلاق فى مختلف فروع المعرفة والثقافة، بل والخيال الحر الطليق إلى النظر فى مستقبل الجنس البشرى والإدلاء بتلك الأفكار التى لن تخلو من طرافة ولكنها قد تسبب صدمات فكرية أو اجتماعية أو أخلاقية أو حتى عقائدية . ولكن هذه الصدمات هى التى تحمل عوامل وعناصر وبذور الانطلاق نحو عالم جديد، يقوم على التفكير العقلانى الهادف، بصرف النظر عما قد يحمله من خير أو شر حسب اختلاف النظرة إلى الأمور. وليس من شك فى أن المستجدات التكنولوجية ساعدت على التحرر من قيود الواقع الضيق بالرغم من مما تسببه من صدمات تنتهى فى الأغلب إلى قيام مجتمع أو عالم أكثر نضجا وتقدما وحرية ورخاء. وربما كانت المشكلة الأساسية التى تواجه العالم الآن وبخاصة دول العالم الثالث المتخلف هى ضرورة تطوير التعليم استعدادا لتقبل التغيرات العلمية والتكنولوجية المقبلة حتى تستطيع الاحتفاظ بشيء من توازنها أمام تلك الصدمات.

فماذا نحن فاعلون؟.

أنشدينـي أطربينـي بهـوى الأنـدلـسِ
أرسلي اللحنَ شجيّـاً كالصَّبا في الغَلَـسِ
هو يا روحي لروحي كالنـدى للنّرجـسِ
إن أنفاَسـكِ فـيـه لَحـيـاةُ الأَنـفـسِ


إبراهيم طوقان

 

أحمد أبوزيد