إحراق الغاز بين المخاطر البيئية والهدر الاقتصادي.. أحمد الشربيني أحمد الشربيني

إحراق الغاز بين المخاطر البيئية والهدر الاقتصادي.. أحمد الشربيني

هذه ليست قضية بيئية فقط، بل واقتصادية وسياسية أيضا. فالنفط كان دائما نعمة ونقمة على المنطقة العربية. والقضية التي نعالجها هنا يعرفها العلماء باسم Flaring، أي إحراق الغاز. فعندما يرفع النفط الخام إلى سطح الأرض من على بعد عدة كيلومترات تحت السطح، يرتفع عادة معه إلى السطح أيضا الغاز المصاحب لاستخراج هذا النفط. وعندما ينتج البترول في مناطق العالم التي تفتقر إلى البنية الأساسية اللازمة لإنتاج الغاز أو إلى سوق قريبة للغاز، عندها يقوم القائمون على إنتاج النفط بإطلاق جزء كبير من هذا الغاز إلى الغلاف الجوي، غير مشتعل (منفس) أو مشتعل (محروق). وقد دعت الشراكة العالمية لتخفيض إحراق الغاز التابعة للبنك الدولي (GGFR) البلدان والشركات المنتجة للبترول في منطقة الشرق الأوسط إلى الانضمام إلى الجهود العالمية الرامية إلى الحد من حرق الغاز الطبيعي أو إحراقه، وزيادة كفاءة استخدام الطاقة، بغرض التخفيف من حدة آثاره على تغيّر المناخ.

ويقول بنت سفنسون، مدير الشراكة العالمية من أجل تخفيض إحراق الغاز: «إن مساهمة منطقة الشرق الأوسط عامل مهمّ لإحداث تأثير عالمي حاسم بشأن تخفيض إحراق الغاز والاستفادة من الغاز المصاحب في الأمد الطويل. ويدرك عدد من بلدان المنطقة، مثل قطر والكويت وغيرهما، جيداً أهمية معالجة القضايا البيئية، ولذلك، فإننا نتطلع إلى العمل معها، ونرحب بها في الشراكة العالمية من أجل تخفيض إحراق الغاز».

وتفيد تقديرات الشراكة العالمية لتخفيض إحراق الغاز بأنه يتم إحراق أو هدر ما لا يقل عن 150 مليار متر مكعب من الغاز في كل سنة على مستوى العالم، مما يضيف 400 مليون طن سنوياً من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. ويعادل ذلك تقريباً جميع تخفيضات الانبعاثات السنوية المحتملة من المشاريع التي يتم تنفيذها حالياً في إطار آليات بروتوكول كيوتو.

وتبلغ كميات الغاز التي يتم إحراقها في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا حوالي 50 مليار متر مكعب سنوياً، وهو ما يضعها في المرتبة الثانية على مستوى العالم من حيث إحراق الغاز بعد كل من روسيا ومنطقة بحر قزوين (حوالي 60 مليار متر مكعب)، وإفريقيا جنوب الصحراء (حوالي 35 مليار متر مكعب). فالكميات التي يتم إحراقها في الشرق الأوسط فقط (حوالي 30 مليار متر مكعب) يمكن أن تكون وقوداً لمحطة لتسييل الغاز الطبيعي بطاقة 20 مليون طن.

وأوضح سفنسون أن تخفيض إحراق الغاز ينجح بصورة كبيرة عندما يبدي البلد المعني التزاماً قوياً ودعماً رفيع المستوى، وعندما تكون هناك شراكة محلية فعالة بين الحكومة والصناعة، مضيفاً: «إن كل متر مكعب من الغاز الذي يتم إحراقه هو هدر للموارد من شأنه كذلك توليد كيلوغرامين من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي».

وقد أظهرت تقديرات إحراق الغاز، التي أعدت لستين بلدا أو منطقة في جميع أنحاء العالم، أن إحراق الغاز على مستوى العالم ظل مستقرا إلى حد كبير على مدى الأعوام الاثني عشر الماضية، في نطاق يتراوح بين 150 و 170 مليار متر مكعب.

ووفقا لبيانات الأقمار الصناعية، أحرقت البلدان والشركات المنتجة للبترول في العام 2006 حوالي 170 مليار متر مكعب أو حوالي 5 تريليونات قدم مكعب من الغاز الطبيعي في مختلف أنحاء العالم. وهذه الكمية تعادل حوالي 27 في المائة من مجموع استهلاك الولايات المتحدة من الغاز الطبيعين و 5.5 في المائة من مجموع الإنتاج العالمي من الغاز الطبيعي في تلك السنة. ولو أن هذا الغاز كان قد بيع في الولايات المتحدة بدلا من إحراقه، لبلغت قيمته الكلية في السوق الأمريكية حوالي 40 مليار دولار. كما أن إحراق الغاز ينتج حوالي 400 مليون طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.

ويقول سفنسون إن: «إحراق الغاز لا يضر وحسب بالبيئة عن طريق الإسهام في الاحترار العالمي وإنما يشكل أيضا هدرًا هائلاً لمصدر أنظف للطاقة يمكن استخدامه لتوليد الكهرباء التي تمس إليها الحاجة في البلدان الفقيرة في مختلف أنحاء العالم». ويقول إنه «يتم في إفريقيا وحدها إحراق حوالي 40 مليار متر مكعب من الغاز سنويا، وهي كمية لو استخدمت لأمكن توليد نصف الكهرباء التي تحتاج إليها تلك القارة».

ويستخدم إشعال أو إحراق الغاز على نطاق واسع للتخلص من الغاز الطبيعي الذي ينطلق أثناء إنتاج البترول وأثناء تصنيعه عندما يحدث هذا في مناطق نائية وبعيدة عن المستخدمين المحتملين، حيث لا توجد في أحيان كثيرة بنية أساسية في الموقع للاستفادة من هذا الغاز. غير أنه تبذل في الأعوام الأخيرة جهود متجددة للتخلص من ظاهرة إحراق الغاز، مثل إعادة حقنه في الأرض لزيادة إنتاج البترول، أو تحويله إلى غاز طبيعي مسيل لشحنه بحرا، أو نقله إلى الأسواق عبر خطوط الأنابيب، أو استخدامه في الموقع لتوليد الكهرباء. ويقول كرستوفر إلفيدج Christopher Elvidge، وهو عالم يعمل في المركز الوطني للبيانات الجيوفيزيائية التابع للإدارة الوطنية لدراسة المحيطات والغلاف الجوي ورئيس فريق إعداد هذه الدراسة، إن: «هذه الدراسة تثبت أن بالإمكان رصد إحراق الغاز من الفضاء وإعداد تقديرات معقولة ومستقلة للكمية التي يتم هدرها. ففي الماضي، كانت الطريقة الوحيدة لتتبع إحراق الغاز هي من خلال التقديرات الرسمية، ولكن تلك الأيام قد ولت الآن. والمفترض أن تساعد هذه الأرقام المستقلة الحكومات والشركات على حد سواء في الحصول على تقدير أفضل لكمية الغاز التي تحرقها بالفعل». ونظرا لأن هذه هي أول دراسة لإحراق الغاز تستخدم مشاهدات الأقمار الصناعية، فإن العلماء ينبهون إلى أن هذه النتائج الأولية يجب أن تستخدم بحذر، حيث إنه لا تزال هناك عدة مصادر للخطأ وعدم التيقن، بما في ذلك التفاوتات في كفاءة الحرق، والخطأ في تحديد عمليات الحرق، وأخذ عينات غير مستمرة، والآثار البيئية.

ووفقا لمشاهدات الأقمار الصناعية، فإن 22 بلدا قد زادت معدلات إحراق الغاز على مدى فترة الاثني عشر عاما الماضية. وهذه البلدان هي: أذربيجان، وتشاد، والصين، وغينيا الاستوائية، وغانا، والعراق، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وموريتانيا، وميانمار، وعمان، والفلبين، وبابوا غينيا الجديدة، وقطر، وروسيا (باستثناء منطقة خانتي مانسييسك)، والمملكة العربية السعودية، وجنوب إفريقيا، والسودان، وتايلند، وتركمنستان، وأوزبكستان، واليمن. ومن ناحية أخرى، تظهر مشاهدات الأقمار الصناعية أن 16 بلدا خفضت مستويات إحراق الغاز فيما بين عامي 1995 و2006. وهذه البلدان هي: الجزائر، والأرجنتين، وبوليفيا، والكاميرون، وشيلي، ومصر، والهند، وإندونيسيا، وليبيا، ونيجيريا، وبحر الشمال، والنرويج، وبيرو، وسورية، والإمارات العربية المتحدة، والولايات المتحدة (في المناطق البحرية).

كما أن تسعة بلدان حافظت على مستويات مستقرة إلى حد كبير لإحراق الغاز على مدى تلك الأعوام الاثني عشر. وهذه البلدان هي: أستراليا، وإكوادور، وغابون، وإيران، والكويت، وماليزيا، وخانتي مانسييسك (الاتحاد الروسي)، ورومانيا، وترينيداد.

وقد استخدم معدو هذه الدراسة بيانات تصوير منخفض الإضاءة من برنامج الأقمار الصناعية الدفاعية الخاصة بالأرصاد الجوية التابع لسلاح الطيران الأمريكي لتقدير كميات الغاز التي تحرق في عمليات الإحراق، والتي يمكن رؤيتها في مشاهدات الأضواء الليلية في ظروف الأجواء الخالية من السحب. وستستمر أجهزة استشعار الأقمار الصناعية المستخدمة حاليا والمزمع استخدامها مستقبلا في توفير بيانات ملائمة لإجراء تقديرات لكميات الغاز التي يجري إحراقها لعشرات السنين المقبلة. وتشجع الشراكة العالمية لتخفيض إحراق الغاز المراقبة في الموقع وكذلك تساعد على رصد التغيرات في كميات الغاز التي يتم إحراقها والإبلاغ عن التقدم المحرز في تخفيض عمليات الإحراق.

وهذه المشكلة ليست بالأمر الجديد. فإحراق الغاز ـ وهو أحد النواتج الفرعية لعملية إنتاج البترول الذي ينفث سنوياً في الغلاف الجوي حوالي 400 مليون طن من الغازات المحدثة للانحباس الحراري- مستمر لعقود عدة من الزمن. لكن الصور الجديدة للأقمار الاصطناعية ـ التي طلبت مبادرة الشراكة العالمية بين القطاعين العام والخاص لتخفيض إحراق الغاز التابعة للبنك الدولي إجراءها ـ تظهر أن بعض البلدان تقوم حالياً بحرق كميات أكبر من الغاز عما أفادت به في بادئ الأمر. وقد أدت تلك الصور إلى إعادة ترتيب مراكز أكبر 20 بلداً من حيث إحراق الغاز، مقارنة بالأرقام الرسمية السابقة لعام 2004. حيث انتقلت روسيا إلى المركز الأول لتحل محل نيجيريا، ومن بين البلدان الجديدة على هذه القائمة استناداً إلى ما رأته أجهزة استشعار الأقمار الاصطناعية في رحلاتها اليومية الأربعة عشرة حول العالم كل من: الصين، وعُمان، وأوزبكستان، وماليزيا، ومصر، والمملكة العربية السعودية.

ويقول سفنسون: «إن إحراق الغاز يضر بالبيئة ويشكل أيضا هدراً هائلاً لمصدر أنظف للطاقة يمكن استخدامه لتوليد الكهرباء التي تمس إليها الحاجة في البلدان الفقيرة. وتمثل تقديرات هذه الدراسة مصدراً إضافياً جيداً للمعلومات، لكن لصور الأقمار الاصطناعية محدودياتها كما أنها تنطوي على حالات عدم التيقن، ونحن نعمل حالياً مع العلماء على الحد من ذلك».

ويذكر أن الشراكة العالمية لتخفيض إحراق الغاز هي عبارة عن شراكة بين القطاعين العام والخاص تضم حكوماتٍ وشركات مملوكة للدولة وشركات البترول الدولية الرئيسية الملتزمة بتخفيض إحراق الغاز وتنفيسه في الهواء على مستوى العالم. وتعمل هذه الشراكة على تسهيل ومساندة الجهود الوطنية الرامية إلى استخدام الغاز المصاحب الذي يأتي مع عملية إنتاج البترول، ومن ثم تخفيض مستوى إحراقه، وذلك عن طريق معالجة الافتقار إلى الأطر التنظيمية الفعالة والقيود المعوقة للاستفادة منه، من قبيل عدم كفاية مرافق ومقومات البنية الأساسية وضعف القدرة على الوصول إلى الأسواق الدولية لمنتجات الطاقة، ولاسيما في البلدان النامية.

وتشمل قائمة البلدان العشرين الأكثر إحراقاً للغاز في العالم كلاً من: روسيا، ونيجيريا، وإيران، والعراق، وأنغولا، وفنزويلا، وقطر، والجزائر، والولايات المتحدة، والكويت، وإندونيسيا، وكازاخستان، وغينيا الاستوائية، وليبيا، والمكسيك، وأذربيجان، والبرازيل، والكونغو، والمملكة المتحدة، والغابون.

 

أحمد الشربيني