إنجمار برجمان آخر عمالقة السينما عبدالرحمن حمادي

إنجمار برجمان آخر عمالقة السينما

برحيل المخرج السويدي الكبير انجمار برجمان تكون قد فرغت خوابي السينما العالمية من آخر بقايا عسل الكبار.

كان برجمان أيضا أحد عمالقة المسرح، وكاتباً كتب في المسرح والسينما وعلم الجمال، وبين هذا وذاك يتفق مؤرخو السينما ونقادها على أنه أفضل سينمائي جسد بأساليب مبتكرة المشاعر الإنسانية في تناقضاتها وتأزمها، واستطاع بمهارة وفنية وحرفية أن يرفع الفن السينمائي إلى أرقى درجات الفن، ووضعه على سوية واحدة مع الرواية والشعر والمسرح.

إنه الفنان المبتكر الذي أجاد التعبير عن نفوس البشر أثناء وبعد الحرب، ولعله أول من جدد اللغة السينمائية ورفعها إلى مرتبة الفن بعد أن جدد في لغتها وربطها ربطا حرفيا بالمسرح بلغة بصرية ظهرت بأشكال إدهاشية في مجمل أفلامه، وسيبقى ساحر السينما كما يلقبه النقاد مهيمنا على مخيلة الأجيال القادمة كعملاق كبير في ساحة الفن السابع.

ولد انجمار برجمان في الرابع عشر من شهر يوليو عام 1918 في بلدة أوبسالا بالسويد، وكان أبوه قسيسا معروفا في المنطقة بشدة تدينه، وقد حرص على أن يهيئ ابنه انجمار لينخرط في سلك الكهنوت، لذلك منذ طفولته صار يصطحبه معه إلى مناطق الريف في جولاته الرعوية وحيث كان يحضر معه حفلات الزواج والجنازات وطقوس تعميد الأطفال، وبدوره لم يشك انجمار أبدا في أنه سيحل مكان أبيه يوما كقسيس، ولكن تلك الفترة من حياته المبكرة زرعت في نفسه تساؤلات حول الوجود والحياة والموت، وسرعان ما تحولت تلك التساؤلات إلى حالة انطواء صار خلالها يتأمل في تناقضات هذه الحياة حيث الولادة والموت أمران متلازمان.

يقول انجمار عن تلك الفترة في مذكراته: «عندما كنت أحضر تعميد طفل أتألم لأنني أتصور قسيسا مثل أبى يقوم بتأبين هذا الطفل ذات يوم بعد أن يكون قد تعذب في حياة مجهولة، وأسأل نفسي: لماذا ولد هذا الطفل وقدره أنه سيموت قريبا؟ ولم أكن اجرؤ على سؤال أبى القسيس هذا السؤال لأنه سيغضبه، ولم أجد إلا أن استمع بإمعان واهتمام لعظات أبى لأنها تقدم جوابا ما وصرت معجبا أشد الإعجاب بتلك العظات».

رحلة عشق مع المسرح

لم يكن انجمار حتى تاريخ انتسابه للجامعة قد شاهد مسرحا، ولكن في أيامه الأولى في الجامعة دعاه أحد زملائه الذي تعرف عليه مجددا إلى مشاهدة مسرحية لشكسبير يعرضها الطلاب، وكانت تلك المسرحية نقطة الانعطاف في حياته، إذ صار يدمن حضور المسرحيات في الجامعة وخارجها بعد أن تملكه عشق كبير للمسرح، وأدى به هذا العشق إلى أن ينخرط في العمل المسرحي كهاوٍ في عام 1932 حيث عمل مخرجا في مسرح «ماستر اولوف غاردن» حتى عام 1938، وبين عامي 1941 و 1942 صار مخرجا غير محترف في مسرح «مدبورغار هوست»، ثم في العامين 1943 - 1944 في «دراماتيكن ستوديون» وفي الوقت نفسه ظل يخرج فيه بين الحين والآخر مسرحيات مختلفة لحساب مسرح الطلاب، ومن بين الأعمال التي أخرجها مسرحيات لشكسبير وسترندبرغ وابسن.

في تلك الفترة كانت الحرب العالمية الثانية قد اشتعلت ووصلت إلى قمة بربريتها ووحشيتها، ومع أن السويد نجت من الغزو النازي، فإن الدمار كان قد لحق بالدول المجاورة للسويد، وكرد فعل على الدمار الذي تسببه الحرب ظهر في السويد التيار العبثي، وكان أصحاب هذا التيار من الأدباء والفنانين والمثقفين يجتمعون ويتحدثون بحماس عن الشعور بالألم ولاجدوى الحياة في ظل الخراب الذي تسببه الحروب للبشرية، وكان برجمان يخالط أصحاب هذا التيار فتأثر بهم، وكنتيجة لتأثره بهم كتب في عام 1944 مسرحية «تيفولت» ومسرحية «راشل وبواب السينما»، ثم كتب في عام 1945 مسرحية «النهار ينتهي بسرعة»، ومسرحية «إنني خائف »...وقام بإخراج كل المسرحيات التي كتبها بنفسه للمسرح بعد أن رقي في عام 1944 الى رتبة مخرج محترف، وكان صدى كل هذه المسرحيات كبيرا وواسعا في كل أنحاء السويد.

باتجاه السينما

مع عشقه الكبير للمسرح لم يفكر برغمان أبدا بأن يعمل في السينما، فبالرغم من الإدهاش الذي كانت تحققه السينما آنذاك فإنه كان يبدي عدم رضاه عما تقدمه السينما من أفلام فرنسية وأمريكية وسويدية ويصفها بالدونية، وكان كل همه محصورا في المسرح، لكن الصدفة مرة أخرى لعبت دورها في جعله ينخرط في العمل السينمائي، ففي عام 1944 وبعد أن رقي لرتبة مخرج محترف صار يتردد على استوديوهات السينما من باب الفضول، وبعد أن عرفه السينمائيون من خلال شهرته كمخرج مسرحي لامع، وكان يغادر الاستوديوهات سريعا لأنه لم يكن يحتمل ضجيج التصوير وصياح المخرجين، وذات يوم في بداية تصوير أحد الأفلام تبين للمخرج أن مساعده قد تغيب، ولم يجد إلا أن يطلب من بيرجمان الذي كان حاضرا بالصدفة أن يسدي له خدمة ويعمل معه مخرجا مساعدا، وأمام إلحاح المخرج السينمائي وكحل إنقاذي قبل بيرجمان أن يساعد في إخراج الفيلم، وكان موضوع الفيلم عن استعراض فني طلابي راقص، وهو يعني إخراجيا سهولة في العمل لأنه لا يتطلب أي اجتهاد إخراجي، لكن بيرجمان قدّم للمخرج مقترحات تقنية وإخراجية، وقام بتعديل سيناريو الفيلم تعديلا كاملا، وبشكل أدهش كل العاملين في الفيلم، وقد أعطت مقترحاته للفيلم وتعديله للسيناريو نكهة جادة ومشوقة وحولته من فيلم عن استعراض راقص تقليدي إلى فيلم يوحي بقصص جذابة، ومزج لأول مرّة في تاريخ السينما بحرفية بين المسرح والسينما، وفور عرض الفيلم حقق نجاحا كبيرا في صالات السينما، وكان المخرج منصفا عندما أعلن في مقابلات صحفية واكبت نجاح الفيلم أن الفضل في نجاحه يعود للمخرج المسرحي برجمان، وهو ما جعل مدير صناعة السينما السويدية آنذاك يستدعيه ويلح عليه في كتابة سيناريو، وفعلا كتب برجمان سيناريو فيلم «هيتس» الذي قام بإخراجه ألف سيوبرغ، وحقق الفيلم نجاحا كبيرا، وكان موضوعه عن أساليب إرهاب معنوي يقوم بها مدرس في إحدى المدارس بحق طلابه.

ومنذ ذلك الوقت تحول برجمان إلى السينما، حيث صار يكتب سيناريوهات يقوم بإخراجها بنفسه، معلنا انه سيعطي للسينما أهمية لاتقل عن أهمية المسرح، وإن هذه الأهمية لن تأتى إلا عبر الابتكار الدائم في السينما، وهو ما لم يسع اليه المخرجون من قبله في السويد على الأقل، وعن تلك الفترة يقول في أحد كتبه: «السينمائيون كانوا كسالى لأن الجمهور كان مدهوشا بما تعرضه السينما يتقبل أي شيء.. قصص متشابهة ومواضيع رتيبة، وأساليب واحدة.. وكان من الضروري أن نعيد صياغة السينما لتصبح فنا قابلا للإبداع والاجتهاد الدائمين».

اكتشاف الأعماق الإنسانية

ضمن هذه الرؤية للسينما بدأ برجمان بتقديم أفلامه والتي كانت مزيجا من الخوف والوحدة والموت ولعنة الوجود،وبجرأة غير مسبوقة في السينما عالج علاقة الفرد مع ذاته ومع الآخرين، وكشف تراكمات الماضي في أعماق البشر وعلاقتهم مع الكون والطبيعة والزمن والموت.

هذه الجرأة والأسلوب الجديد الذي تعامل بهما برجمان مع السينما جعلته موضع نقد متواصل من أبناء الشعب السويدي، واتهمه السياسيون والنقاد بالإساءة الكبيرة للشعب السويدي لأن أفلامه تعطي صورة مضخمة ومشوهة للشعب السويدي كشعب يختزن كل العقد النفسية والأمراض العصابية، وكثيرًا ما طالب النقاد السويديون بأن ينزع برجمان صفة الفيلم السويدي عن أي فيلم يصنعه حفاظا على سمعة الشعب السويدي. والطريف أن كل فيلم كان يصنعه ورغم تعرضه الشديد للنقد والتهجم من قبل الجمهور والنقاد في السويد يحقق أعلى إيرادات يمكن أن يحققها فيلم. وبعد كل فيلم كانت عروض هوليوود تنهال عليه بإغراءات كبيرة لينتقل للولايات المتحدة الأمريكية ويصنع فيها أفلامه، ولكنه كان يرفض تلك الإغراءات وبقي ملتصقا بالسويد، وصوّر فيها 40 فيلما من أفلامه، ولم يغادر السويد إلا عندما اختلف مع مصلحة الضرائب حيث صنع فيلمين خارج السويد ثم عاد مرة أخرى إليها ليواصل مسيرته الإبداعية. ويتفق معظم النقاد ومؤرخو السينما على أن أحد أسباب هجوم السويديين على برجمان هو أن أفلامه توغل في المرارة والسوداوية، ونادرا ما كانت تتطرق للجوانب المضيئة في المجتمع السويدي، وحيث شكل كل فيلم كبّة متشابكة من الأسئلة الفلسفية والوجودية، فمنذ فيلمه الأول «أزمة» الذي صنعه عام 1945 بدأ في الإيغال في المناطق المظلمة من النفس البشرية، وكما قلنا كان كل فيلم يواجه بهجوم عنيف من النقاد والجمهور والسياسيين السويديين، ولكن كل فيلم كان يحقق أيضا أعلى الإيرادات في صالات السينما داخل السويد وخارجها، وبعد ثلاثة أفلام صنعها كانت شهرته قد وصلت لهوليوود وأوربا وبإدهاش غير مسبوق، وزادت شهرته عندما حصل في عام 1960 على جائزة أوسكار المخرجين الشباب كأصغر مخرج ينال هذه الجائزة في تاريخ الأوسكار.

المسرح ثم المسرح

في عام 1982 حصد انجمار أربع جوائز أوسكار في فيلمه «فاني والكسندر» وبدلا من أن يتجه إلى إخراج فيلم جديد مستغلا الضجة التي أثارها حصوله على أربع جوائز أوسكار ابتعد عن السينما واتجه لإخراج مسرحيات عدة مجسدا عشقه الأساسي للمسرح، وعندما عاد للسينما عام 2003 عاد ليخرج سينمائيا نصا مسرحيا لإبسن فكان فيلم «ساراباند» من بطولة ممثليه المفضلين: ليف أولمان وإيرلاند جوزفسون، وكان موضوع الفيلم عن مواجهة أخيرة بين حبيبين على أعتاب الشيخوخة، ورغم كل النجاح الذي أثاره الفيلم عالميا عاد برجمان للمسرح مرة أخرى وأخيرة للمسرح عام 2004 ليخرج نص ابسن الشهير «أطياف عائدة»، واعتزل بعد هذه المسرحية العمل والبشر معتكفا في جزيرة صغيرة اشتراها حيث أمضى فيها السنين الأخيرة من عمره.

روائع سينمائية

لا يمكن الحديث عن سينما برجمان بشكل واف، لكن يمكن القول بشكل سريع إنه صنع من مزيج سحري سينماه التي وضعت بلده السويد على الخريطة السينمائية العالمية، ومنذ أول فيلم له عام 1946 صار اسمه في الصدارة، إلى جانب أسماء فيلليني وهتشكوك وجون فورد واورسن ويلز، وقد ترك بصماته على معظم مدارس السينما في العالم، فقد تأثر به مثلا أصحاب الموجة الجديدة في فرنسا بعد أن اعتمدوه كمرجع أساسي بعد فيلمه «ابتسامات ليلة صيف»، وكان السينمائي الأمريكي الشهير وودي آلن مثلا اعتبر انجمار معلمه المطلق واعتز بتأثره به في جميع أفلامه،.... ومثلما ترك مخرجو الواقعية الإيطالية.. والموجة الفرنسية الجديدة.. وسينما تحت الأرض وغيرهم من أصحاب الاتجاهات السينمائية المهمة ارثهم الفني الباهر.. فان أعمال برجمان تظل موحية ومعبرة عن صفاتها الفنية الخاصة.. في شاعرية السينما.. وفلسفة النص..وتعبيرات الحوار عن إشكاليات نفسية واجتماعية واقعية.

وكما قلنا برحيل انجمار بيرجمان يوم 25 يوليو 2007 تكون قد طويت آخر صفحات عمالقة السينما والمسرح الذين صنعوا زمن السينما الجميل، ولا نعلم إن كانت قد فرغت برحيله خوابي عسل كبار السينمائيين في السينما العالمية.

 

عبدالرحمن حمادي 





 





كتب سيناريوهات كل أفلامه وأخرجها





 





البحث عن أسرار الوجود والحياة والموت كان بارزا في أفلام برجمان