غواية التراث جابر عصفور عرض: عبدالعزيز موافي

غواية التراث

في سلسلة (كتاب العربي) صدر أخيرًا كتاب (غواية التراث) للدكتور جابر عصفور, ويأتي هذا الكتاب - كما يقول المؤلف - نتيجة لغوايتين: غواية الحب الأول الذي أكسبه إياه طه حسين, وغواية النظرة المحدثة التي تعلمها جيله من أدونيس.

كانت هناك إشكالية منهجية في تناول موضوعات الكتاب, تتمثل في أن هناك ثلاث ظواهر مختلفة كانت محلا للدراسة: الذات (الشاعر) والموضوع (القصيدة), والظرف (التاريخي والاجتماعي), كما كان هناك العديد من الظواهر الجانبية التي تفاعلت مع تلك الظواهر الثلاث, مثل: الكائنات الميتافيزيقية التي تماست مع الشاعر/القصيدة, وظهور الدين كظاهرة تمثل نوعًا من الضبط الاجتماعي (وبالتالي الفني). لذلك فقد تعامل المؤلف مع الظواهر الدياكرونية المتحولة داخل الزمن بالمنهج التاريخي, وتعامل مع الظاهرة الفنية بالمنهج التحليلي, وتعامل مع الظاهرة الميتافيزيقية بالمنهج الألسني الوصفي, الذي يعتمد على التحليل اللغوي للجذور الدلالية للأسماء, باعتبار أن الاسم شاهد ينوب بحضوره عن غياب الكائنات (الشياطين - الجن - الغيلان).

ويشير المؤلف بداية إلى أنه من الملاحظ أن كل حركة نقدية أو أدبية جديدة كانت تعود إلى التراث الشعري بوجه عام, والجاهلي بوجه خاص كي تخضعه لتقنيات قراءاتها الجديدة, وآلياتها التفسيرية الموازية, كما يرى أن هناك أكثر من صورة للشاعر في تراثنا: المادح, اللاهي, الصانع, الداعية. وقد تغلب صورة من هذه الصور في عصر دون عصر لأسباب يمكن تحديدها, وقد تتجاوز أكثر من صورة في عصر آخر لأسباب مغايرة, لكن تظل كل هذه الصور بمنزلة نماذج متغيرة, لاحقة, ومتأخرة نسبيًا بالقياس إلى النموذج الأصلي الأقدم الذي بدأ به الوعي بالشعر والشاعر عند العرب.

وينتهي المؤلف إلى أن هذا النموذج الأصلي كان يبزغ عند نوابغ الشعراء, وذلك في علاقتهم المعقدة بالسلطة السياسية, إن هذه العلاقة المتوترة هي التي دفعت أبا تمام - على سبيل المثال - إلى الموازنة بين عطايا ممدوحه وقيمة قصائده, وتفضيل الثانية على الأولى, وفي هذا التصور ينتصر أبو تمام لصورة الشاعر الصانع الذي يرى في كمال إبداعه أو إحكام صنعته غاية مستقلة عن كل غاية, حتى لو ارتبط ذلك الإبداع وتلك الصنعة بصورة المدح.

إن تحول النموذج الأصلي لصورة الشاعر نتج بالأساس عن ظهور متغيرين في طبيعة البنية الأساسية للواقع الاجتماعي الذي انتقل ببنية السلطة من القبلية إلى الدولة. وبالتالي فقد انتقل الشاعر بدوره من علاقات القبيلة إلى علاقات الدولة, التي لم تفارق العلاقات القبلية القديمة تمامًا, ولكنها أخذت في تأسيس علاقات جديدة مغايرة في الوقت نفسه. وإذا كان ظهور شاعر البلاط يمثل صوت السلطة المركزية المهيمنة, فإن هذا الظهور كان يعني تقليص الحرية الإبداعية للشاعر, في مواجهة السلطة التي تحميه وينطق باسمها, والتي نظرت إليه باعتباره يحتل منزلة تتراوح بين موضع النديم وموضع الداعية. وبذلك تخلخلت منزلة الشاعر القديم, وفارق منزلة النبي / الشامان / عقل القبيلة الذي يسمع قوله ويصدق حكمه.

أصل الشاعر... أصل القصيدة

ثم ينتقل المؤلف من الشاعر إلى موضوعه (أي القصيدة), وإذا كان هناك نموذج أصلي للشاعر في التراث, يمثل نقطة الأصل التي تقاس عليها تحولاته, فإن هناك بالمثل نقطة أصل للقصيدة تمثلها (المعلقات). وهنا يتساءل جابر عصفور: ما الذي جعل المعلقات تنفرد بالمكانة التي أنزلتها العرب فيها? وهو يجيب بأن السبب في ذلك يعود إلى التركيبة الشعرية الإبداعية التي جسّدت حضور النموذج الأصلي للشاعر, في مجاليه: الديني والدنيوي, وذلك على مستوى صياغة وعي القبيلة والصدور عنه, وتصوير رؤيا العالم التي أنتجها سادة القبيلة الذين عبر عنهم شعراء المعلقات.

ويصل المؤلف إلى العلاقة بين الشعر والكائنات الميتافيزيقية (الخرافية), وفي هذه اللقطة تحديدًا تتبدى ألمعية جابر عصفور في التجائه للتحليل الألسني للجذور اللغوية الدالة على تلك الكائنات, والتي لا نملك منها سوى أسمائها. فهذه الكائنات قد ارتبطت بالشاعر والقصيدة معًا, ومارست تأثيرًا فاعلاً في ذاكرتي الإبداع والتلقي على السواء. فالشياطين والجن والغيلان كانت إما باعثًا على الإنشاد, أو موضوعًا لهذا الإنشاد. ويقرر المؤلف أنه يمكن لنا تفسير ارتباط تلك الكائنات بالشعر, إذا ما أمكننا أن نرصد خصائصها على المستوى اللغوي. إن كل نوع من تلك الكائنات الخرافية ينفرد بدلالة لغوية تميّزه عن غيره, إلى جانب الدلالات العامة التي تصله بالآخرين, فالشياطين تنفرد بالدلالة اللغوية الدالة على المخالفة في النية والوجهة والفعل والقدرة, وهي خصائص ترتبط بعملية إنتاج القصيدة. أما دلالة الجن فقرينة الستر والخفاء, حيث المعنى الذي يصل الشعر بالوحدة التي تستر صاحبها عن غيره, وتقرن الإبداع بالظلمة التي تفصل المبدع عن الآخرين, كأنها اللاوعي الذي يوازي باطن الأرض - رمزيًا - في دلالة الاستتار والخفاء. ويمكن أن نضيف إلى تحليل المؤلف بعدًا آخر لمفهوم الاستتار, والذي يتمثل في العبارة الشائعة: (المعنى في بطن الشاعر) وذلك حين تتباعد قصيدة النص عن أفق انتظار القارئ. أما دلالة الغيلان فقرينة السكون والتحول والتغير والتبدل, وتلك دلالة تفسر حال المداخلة التي نتجت عنها القصيدة من رحم اللاشعور, وهي حال أشبه بأحوال الجذب, التي يغيب فيها الوعي, وتتلبس الشاعر غيبوبة الاستحضار, أو الغولة التي تنطق فيها شياطين الجن على لسانه, بعد أن تغتال عقله الذي يشاركه فيه غيره.

وهنا يشير المؤلف إلى أنه ليست مصادفة أن تقترن دوال الكلمات الثلاث, الشياطين والجن والغيلان, بالإشارة إلى ذهاب العقل أو الجنون, الذي لم ينفصل يومًا عن الإبداع بمعنى أو بآخر. كما أن ذلك يعني أن دوال الكائنات الثلاثة تلتقي في مدلولات عامة, تشير إلى القدرة الاستثنائية على الفعل الذي ليس في طاقة البشر العاديين, والذي لا يستطيعه الشاعر إلا بمعونة تلك الكائنات الخرافية.

العالم والذات

وفي إطار تحليل عالم الشعر الجاهلي, يلحظ المؤلف أن الشاعر الجاهلي لم يكن ينظر إلى عالم الأشياء والحيوانات والكائنات نظرًا محايدًا, كأن العالم منفصل عنه, مستقل في الوجود. العالم - في عيني الشاعر الجاهلي وفي قصائده - عالم فاعل ومنفعل, خارجي وداخلي, ذات وموضوع, وعي للشاعر وحضور لوجوده. ولقد أدت تلك الثنائيات المتقابلة إلى أن تجعل (الاستعارة) تمثل أولوية الحضور في العلاقات البلاغية لإدراك العالم, فهي تفرض وجودها في القصيدة الجاهلية بوصفها وسيلة إدراك تحطم الحواجز العملية بين تلك الثنائيات من جهة, والأشياء من جهة أخرى, وتزيح حجاب الألفة والعادة, وتستبدل بأصناف المنطق وتقسيماته تجاوب علاقات الوجدان وتراسل مدركات الشعور.

وينتقل بنا المؤلف من حكمة اللذة السائدة في القصيدة التراثية, والتي تتأسس على مثلث: المرأة - الخمر - الصيد, إلى حكمة التمرد عند الشعراء الصعاليك, حيث بلاغة المقموعين, إن هذا التمرد يؤكد على حضور (الإنسان) بإزاء الآخرين, ويضع الشاعر/الصعلوك في مواجهة القبيلة بالمعنى الاجتماعي, وقصيدته في مواجهة شعر القبيلة بالمعنى الفني. وكما تمرد الشعراء الصعاليك على العرف الاجتماعي للقبيلة, وكسروا حاجز المنطق بين الواقعي والخرافي, وحطموا الجدران التي تفصل بين الإنسان والحيوان, فقد تمردت قصائدهم بالضرورة على الأعراف الفنية, وهدمت الحاجز المنطقي لأداة التشبيه التي تفصل بين العوالم والمدركات, واستبدلت الاستعارة التمثيلية الموسعة بالتشبيه الموجز, ووصلت بين أبياتها بالتضمين. كما استبدلت القصيدة بالحولية الطويلة المقطعات المتفجرة كالخطر اليومي, وسعت إلى إلغاء المسافة بين الكلمة والفعل.

ازدواجية الإبداع

ويمضي الكتاب في مناقشة العديد من الظواهر المصاحبة للظاهرة الشعرية التراثية مثل: الحضور المزدوج للإبداع والشفاهية والكتابية, والطبع والصنعة, ومديح القلم, والسيف والقلم, وفضائل الكتابة, وتراتب الأنواع الأدبية, وهي ظواهر تعد امتدادًا واستكمالاً لدراسة المثلث الإبداعي: الشاعر - القصيدة - العالم.

وينتهي الكتاب وقد أضاف إلينا, على صغر حجمه, رؤية نقدية جديدة للتراث, تمثل - على حد تعبير المؤلف - غواية ثالثة, تضاف إلى غوايتي الحب الأول والنظرة المحدثة, وهي غواية تجلي الذات المعاصرة في مواجهة التراث, والتي تنبهر به, لكنها لا تمارس انسحاقها أمامه, وبالتالي فإنها تمتلك إرادتها الواعية في إعادة إنتاجه وتفسيره, لأنه عمل يحمل قيما عابرة للزمن, تخص الذات المعاصرة, بقدر ما تعبر عن إبداع الذات الغابرة. إنها غواية البحث عمّا هو جوهري, والنظر إليه بعين عاشقة, لكنها مغايرة في الوقت ذاته كما يحل الكتاب إشكالية مهمة, وهي: كيف يستطيع كتاب صغير أن يناقش قضايا كبيرة, دون أن يتنازل عن العمق, حتى لو استبدله بالبساطة? بالطبع, فإن الأمر يتطلب هنا عينًا نقدية فاحصة, تمتلك مشروعًا ثقافيًا متكاملاً .

 

جابر عصفور