بانوراما الخيال العلمي

المؤلف: جاك فان هيرب

يهاجم البعض روايات الحيال العلمي بأنها متدنية أدبيا. ولكن البعض الآخر متحمس لها بوصفها التعبير الوحيد عن العالم المتوتر الذي نعيش فيه وعن طموح الإنسان من أجل مستقبل أفضل.

           إن الأهمية الكبيرة لكتاب " بانوراما الخيال العلمي" الذي يحتوي على أكثر من 400 صفحة لمؤلفه "جاك فان هيرب" تكمن في أن مؤلفه لم يحصر بحثه في تقديم أو تحليل الروائع بطريقة التقسيم الزمني، بل في سعيه إلى دراسة الخيال العلمي عبر شتى جوانبه ومظاهره متناولا: مواضيعه، أنواعه، مدارسه، والمشكلات التي يطرحها.

           ولقد استطاع المؤلف عبر هذا الكتاب الفريد من نوعه أن يجعل القارئ يتفهم- أكثر- هذا النوع الأدبي المميز الذي يستجيب لحاجات نفسية، واجتماعية وعلمية وحضارية لمختلف المجتمعات التي ظهر فيها وانتشر.

           ويعتبر هذا الكتاب الأول من نوعه في محاولة معالجة واكتشاف العالم الأدبي والحضاري لروائع الخيال العلمى عبر إضاءة جديدة، خصبة وشاملة.

تعبير عن قلق العصر

           والمؤلف " جاك فان هيرب " المولود في بروكسل عام 1923 رغم اختصاصه في الرياضيات، وفي أدب الفتيان، فإن اهتمامه الكبير بالخيال العلمي يرجع إلى حداثة سنه، حيث لم تفته مطالعة كتاب من كتب هذا العلم. ولعل من أهم النقاط التي يشير إليها المؤلف في افتتاحيته هذه الكلمة:

           " من حيث المواضيع تبدو مؤلفات الخيال العلمي أكثر تعبيرا عن زمنها من الروايات الكلاسيكية التى تبقى على ضفاف أفكار الزمن، في حين تغرق مؤلفات الخيال العلمي في اهتمامات زمنها وقلقه".

           ويضرب المؤلف مثلا قائلا إن ميل القرن التاسع عشر نحو التصنيع والتقنية، وثقته المؤكدة بالعلم، وإيمانه المتفائل بالتطور المادي، إنما تعبر عن منظور استاتيكي (ساكن)، وهذا التفاؤل يضطرب بعد العام 1870، بعد ظهور الرؤية الديناميكية (المتحركة) التي هي رؤية القرن العشرين.

           إن إدراك هذا التحول في المنظور لا نجده لا عند فلوبير، ولا عند موباسان، ولا عند سواهما من الروائيين، لكننا نجده في مؤلفات الخيال العلمي. إن الروائيين لم يأخذوا وعيا بالعصر الذري الذي نحياه، وبالكارثة النووية المحتملة إلا انطلاقا من العام 1960، لذا تبدو رواية الخيال العلمي مرآة لزمنها أكثر من الرواية العادية.

اكتشافات مبكرة

           وإذ ينظر المؤلف للناحية الزمنية، فإنه يصنف رواية " كبلر، " الوهم " المكتوبة عام 1620، المطبوعة عام 1634 أول رواية من الخيال العلمي، حيث يبين "كبلر" كيف أن المسافر وبعد 150 كم في الفضاء يخرج من الهواء إلى الفراغ والبرد حيث يجذبه القمر إليه، ويعتبر المؤلف هذا الوصف استباقا لقانون الجاذبية الذي اكتشفه نيوتن، ويبين كيف تكاثرت في القرن الثامن عشر الرواية الخيالية عن القمر، ثم مجيء الحدث الكبير عام 1865 مع عبقرية الخيال العلمي "جول فيرن"، وصدور روايته الأولى "من الأرض فى القمر" ، ويبدو أن عبقرية " فيرن" لم تنحصر في استباقه العلم الفضائي وحسب، بل في كونه الرجل الوحيد- وخلال قرون- الذي أدرك أن غزو الفضاء سيكون مشروعا إنسانيا عملاقا.

           إن أول حديث عن العوالم الخفية جاء عند  "أفلاطون" في كتابه " التيماوس "، حيث يتكلم عن، الأطلنتيد أو القارة المفقودة " واصفا تلك الحضارة البائدة وعاداتها، والكتابات حول "الأطلنتيد "- تلك القارة الضائعة بإمبراطوريتها الزائلة- كثيرة منها "مفتاح العالم" لجورج هوتيبتر، " آثار الزائلات" لهانز فيشر، "حضارات بائدة" لأوجين جورنج، "الأطلنتيد وحكم العمالقة " لدنيز سورا، أي يمكن إحصاء أكثر من 15 رواية عن تلك القارة المفقودة، ومن أهمها رواية " يقظة الأطلنتس" لبول فيغال، وهي رواية خوارق مذهلة، يصف فيها كاتبها كيف تحط طائرة في عمق المحيط، حيث يشهد الركاب انبثاق القارة المفقودة من عمق المياه، وعودة سكانها والحياة إليها، تماما كما كانت في سحيق الأزمان، وحيث يتم أسر هؤلاء الركاب ويقادون إلى الملكة التي يتغير لون عينيها كل دقيقة حسب حالاتها النفسية، وتنتهي الرواية بعد أحداث مثيرة وخارقة إلى أن يستطيع أحد الركاب السيطرة على الآلات الحارسة، وتعود القارة لتغرق من جديد في مياه المحيط.

مدن المستقبل

           في وصف مدن المستقبل يميز المؤلف في الحيال العلمى بين ثلاثة اتجاهات: الاستباقية أولا، اليوتوبيا ثانيا، ضد- اليوتوبيا ثالثا.

           ففي الاتجاه الاستباقي يصف الروائي كونا خياليا، إما انطلاقا من معطيات زمنه أو استباقا صرفا، والاستباقية على الغالب وصف تقني للعالم.  أهم تلك الروايات ظهرت عام 1733، حيث وصف المؤلف " مادن " في روايته "مذكرات سائح " سفر سائح عبر أوربا 1997، ومن أهم روايات مطلع القرن العشرين روايات "ويلز" وأهمها " الحرب في الفضاء، 1908، ورواية "اتكنز" "مذكرات المستقبل" 1955، وكذلك رواية "لاشيء إلا السوبرمان" 1937، للروائي "أولاف ستابلودون" حيث يروي حكاية البشرية انطلاقا من زمنه حتى وصول الإنسان إلى كوكب نبتون، وحيث يتوقع أنه في العام 4000 سيكون العالم كله قد تأمرك: أي أصبح أمريكيا، كما يتوقع أيضا أن تكون قد تمت تدفئة القطبين اصطناعيا.

           أما كتاب اليوتوبيا فيحاولون رسم أفضل العوالم الممكنة، أي أن الرواية تأتي تعبيرا عن تصور المؤلف للحضارة المثالية، من تلك اليوتوبيات "الأطلنتيد الجديدة ا لبيكون، "مدينة الشمس" لكامبانيلا، كذلك يوتوبيا المسير "توماس مور" الصادرة عام 1516، وكذلك يوتوبيا " فورييه".

           أما الاتجاه المضاد لليوتوبيا فيقدم ممثلوه رؤى تشاؤمية عن مستقبل البشرية، من تلك الروايات: "العالم كما سيكون" 1846 لأميل سوفيستر، حيث يقول: "الإنسان أصبح عبد الآلة، والمنفعة حلت محل الحب !، هذا عام 3000، وحيث: (الآلة في المطاعم هي التي تختار لنا ما نأكل، وتأمرنا أن نفرغ الصحن، وإذا تركت فيه بقايا حكم عليك بالسجن".

           " كما أن الأمريكيين سيكونون قد جمعوا آثار العالم، من معبدالكرنك الى فرساي، ورصفوها في طريق طويل يمتد من نيويورك افى سان فرانسيسكو".

           وهناك روايات عن نهاية الحضارة، مثل "الضحكة الخواء" 1914 لماك أورلان، وعن الأوبئة وانتقال الجراثيم والأمراض بالعدوى، مثل رواية "إنني أسطورة) 1954 للكاتب نفسه، وعن الظواهر الكونية المخيفة، مثل رواية (الغيمة القانية 19011 لشييل، حيث كل الإنسانية تختفي بسبب ظهور غيمة أرجوانية في فضاء الأرض ولا يبقى إلا العلماء، و " احتضار الكوكب !1935 لسبيتز، و " أيام العالم الأخيرة) لشيرز، حيث يصف كيف أن نصف الأرض سيسحقه القمر إذ يحاذي الأرض، و " أمير اليوم الأخير 19651 لبيار نوكوبا، حيث يروي كيف أن مذنب هالي الذي يحمل غازا مميتا يجلب نهاية العالم.

           بالإضافة اشد هذه الاتجاهات المستقبلية الثلاثة، تعالج روايات الخيال العلمي المواضيع التالية: 
الآلات التي تفكر، أو عالم الروبوتات، والكائنات الغريبة التي تأتي من كواكب أخرى، أو التي تحل محل الإنسان مثل الغوريلا، وهذا ما تعبر عنه روايةأ كوكب القرود) لبيار بول الصادرة عام 1963، "وحرب الذباب" 1938 لسبيتز، حيث يصور مغامرات ذباب يتمتع بذكاء خارق، وهناك أيضا روايات عن الأشباح، والقوى الغامضة، وروايات عن غزو سكان الكواكب الأخرى للأرض، وخاصة سكان المريخ، وروايات عن موضوع تحولات الإنسان، مثل رواية (الرجل المطاطي) لسبيتز 1938، و (رجل عند الجراثيم ا لرونار 1928، ورواية " الرجل الذي يتقلص " لماتيسون 1956، كذلك توجد روايات عن تحولات الحيوانات " جزيرة الدكتور مورو" لويلز 1896.

ملحمة جلجامش هي الأولى

           أما بالنسبة لأشهر المدارس فإن المؤلف يقيم ثلاثا منها: المدرسة الأمريكية، والفرنسية، والسوفييتية، وبعد عرض لأهم كتاب وروايات ومواضيع كل مدرسة على حدة، يبين خصائص ومميزات كل منها، فالمدرسة الأمريكية- ومن خلال روائع أشهر أربعة كتاب أمريكيين- تعبر عن ثلاثية المثل الأغلى: المثل الأعلى الديمقراطي، والمثل الأعلى التقني، والمثل الأعلى التجاري. وأهم ممثلي الخيال العلمي الأمريكي هم: ف. بوهل، شيكلي، ف. بروان، هانيلن، ب. اندرسن، ويعتبر المؤلف أن تطور الخيال العلمي الأمريكي هو الأكثر تثقيفا من أجل دراسة وتطور الخيال العلمي الأوربي، ويقول بهذا الصدد: "نعم، إن الأوربيين هم الذين اخترعوا هذا النوع الأدبي، لكنه ومنذ 40 عاما يشهد هناك ما وراء الأطلسي تطوره وليس تقلصاته الدائمة كما في أوربا، وفي هذه النقطة يكمن كل الفرق ".

           أما المدرسة الفرنسية فإن أهم ممثليها "جول فيرن، وج. هـ. روسني إينيه" ويبدو أن غالبية روائعي الخيال العلمي الفرنسيين- وهم كثر - مهتمون بمواضيع الحضارات البائدة، والرؤى الاستباقية واليوتوبيا، كما تتميز هذه المدرسة بعدد من الصحف والمجلات المختصة بالخيال العلمي منذ الخمسينيات.

           أما بالنسبة للمدرسة السوفييتية فيقول المؤلف إن واحدا من أصل أربعة أشخاص وفقا لبعض الإحصائيات لا يقرأون إلا الخيال العلمي، كما أن الطبعات تنفد بسرعة مذهلة هناك، بيد أن جودة هذا الأدب متدنية.

           ويعد "أفريموف" أشهر كتاب الخيال العلمى في الاتحاد السوفييتي، أما أول كاتب فيدعى "تسيولوفسكي " في كتابه " خارج الأرض، ويحصر الكتاب السوفييت اهتمامهم بالمواضيع الاستباقية خاصة.

           بالنسبة للمسائل والمشاكل التى يطرحها الخيال العلمي كنوع أدب يغطي مجالي الأدب والعلم في آن معا، وفي تحليله لعلاقة الخيال العلمي بالعلم يعتبر المؤلف أن روايات الخيال العلمي تقدم فرضيات، والافتراضات- كما يقول- يمكن أن تتحقق على الصعيد العلمي، وهذا ما حصل فعلا بالنسبة لما حملته بعض الروايات من استباقات، وخاصة روايات جول فيرن  وويلز.

           وفي فصل أخير يحمل عنوان " هل الخيال العلمى هو نوع أدبي؟" يعرض المؤلف لآراء بعض النقاد في فترة ما بين الحربين العالميتين، حيث لم تكن تعتبر هذه الروائع روايات، 9 لكن اليوم، ها نحن ننقد هذه الروائع بنفس الحبر الذي ننقد به مورياك وموران. ويبين المؤلف كيف ولماذا لا يمكن اعتبار هذا النوع الأدبي نوعا متدنيا عن الروايات التقليدية، على العكس، فحال صدور كتاب " حرب العوالم " لويلز بالفرنسية، كتب الناقد لا أرنست شارل" يقول: " إن عنوان حرب العوالم ومضمونه يكشف عن كونه أكثر من رواية، عن كون الكتاب ملحمة كونية ".

           ويختتم المؤلف كتابه الهام والشائق هذا قائلا: "إن الخيال العلمي هو نوع أدبي جديد، فهو التعبير المعاصر عن رغبة دائمة عند الإنسان في تجاوز الواقع والشرط الإنساني، ومن هذا المنظور يعتبر المؤلف أن "ملحمة جلجامش " ببطلها الذي يذهب باحثا عن شجرة الحياة هي أول كتابات الخيال العلمى







غلاف الكتاب




الخيال العلمي يستشرف آفاق المستقبل واكتشاف عوالم الفضاء البعيد