ذكريات في الترجمة دنيس جونسون ديفز عرض: كامل يوسف حسين

ذكريات في الترجمة

ينتمي هذا الكتاب إلى نوعية نادرة من الكتب, هي كتب السيرة الذاتية التي تقطع الشوط كاملاً في الصراحة والوضوح والموضوعية, خلافاً لما سبق أن رأيناه كثيراً من مؤلفي هذه النوعية من الكتب الذين يحولون صفحاتها إلى ساحات لتصفية الحسابات.

(العم دنيس) لقب اعتدت أن أنادي به المستعرب الكبير دنيس جونسون ديفز كلما أردت مداعبته وإثارة انزعاجه, فهو لا يرحب كثيراً بما يذكِّره بأنه تجاوز الثمانين من عمره, الذي ندعو الله أن يكون مديداً. ولكني في نهاية المطاف معي حق, فلم تكن عيناي قد رأتا النور بعد عندما كان هذا (الخواجة الرائع) ـ كما سبق لي أن وصفته في غير هذا المقام ـ يتصدى للتدريس في جامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً) في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي.

بعد قراءة كتابة هذا لا يملك أحدنا إلا أن يهتف: سامحك الله ياعم دينس!

هذا العتاب ـ الطالع من القلب ـ للعم دنيس مرده أربع مشكلات أتصورها في الكتاب, دعنا نطرحها ـ بصراحة ووضوح ـ قبل الانتقال لمناقشة فحوى الكتاب نفسه.

أولاً: هذا الكتاب تأخر, في اعتقادي, في صدوره بأكثر مما ينبغي, فقد كان ينبغي أن يصدر عقب فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للأدب عام 1988 ليساهم في تعريف القاريء الأجنبي بالأدب العربي في إطار موجة الاهتمام الكبير به التي أثارها هذا الفوز. ومع ذلك يمكن القول إنه خير أن يصدر الكتاب متأخراً من ألا يصدر أبداً.

ثانياً: يقع الكتاب في 130 صفحة من القطع المتوسط, وهو ما قد يتصور البعض أنه ميزة في الكتاب, لكنني أعتقد أن المؤلف قد وصل إلى هذا الحجم الرشيق لكتابه على حساب المضمون ـ كما سنرى حالاً ـ فهو قد جعل وحدة العمل في الكتاب فصولاً يقع كل منها في المتوسط في حدود 5 إلى 7 صفحات, وخصص كل فصل لذكرياته عن أديب عربي كبير, لكنه مع اقتراب الكتاب من نهايته تخلى عن هذا المنهاج, ولجأ إلى الاقتضاب, وإدماج كل مجموعة من الكتّاب فيما لا يتجاوز فقرات محدودة, هكذا فإن محمد البساطي لن يحظى إلا بنصف صفحة, ولن يظفر سعيد الكفراوي إلا بفقرة واحدة, شأن نبيل نعومي جورجي وجمال الغيطاني وخيري شلبي, وهو أمر أحسب أن القارئ سيشاركني الاعتقاد بأنه يخلو من الحد الأدنى من الانصاف لهؤلاء المبدعين.

ثالثاً: الأديبات العربيات نالهن الحظ الأوفر من الكلم, في غمار ميل المؤلف إلى الاقتضاب, أو ربما إسراعه في انجاز الكتاب للحاق بالموعد المقرر لطباعته, هكذا فإن أليفة رفعت لن تحظى إلا بإشارة عابرة, ولن تظفر سلوى بكر إلا بنصف صفحة, والأديبة العراقية بثينة الناصر ستحظى بخمسة أسطر لا غيرها.

رابعاً: لم ينصف المؤلف نفسه ولا صديقه د. عز الدين إبراهيم المستشار الثقافي لصاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة, عندما اقتضب في الحديث عن مشروع العمر الذي يشغلهما الآن, وهو ترجمة معاني سور مختارة من القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية, والذي عكفا على العمل على إنجازه, في صمت نبيل, خلال السنوات القليلة الماضية, بعد أن أصدرا في ثلاثة مجلدات مجموعات من الحديث الشريف مترجمة إلى الإنجليزية, حظيت بإقبال وتقدير عظيمين على امتداد العالمين العربي والإسلامي. وهما يعلقان الأمل على إصدار المجلد الرابع من الحديث الشريف أيضاً, لم يشر المؤلف أدنى إشارة إلى فحواه, رغم الأهمية البالغة لهذا التوجه والمتابعة التي يحظى بها من جانب الكثيرين على امتداد العالم.

الحفر في الصخر

لمن لا يعرفون من هو دنيس جونسون ديفز, ولست أحسبهم إلا قلة محدودة, أقول إن هذا المستعرب الكبير ولد في كندا, وأمضى طفولته في مصر والسودان وأوغندا, ودرس اللغة العربية في جامعتي لندن وكامبردج, وأوغل في معرفة أسرار تجلياتها العامية من خلال العمل مع فريق المذيعين والمعدين في القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية والارتحال والعمل والإقامة طويلاً في الخليج العربي ولبنان ومصر والمغرب, ويعتبره الكثيرون على امتداد العالم رائد ترجمة الأدب العربي الحديث بامتياز, حيث أنجز ترجمة ثمانية وعشرين مجلداً, أبرزها ترجماته لعدد من أعمال نجيب محفوظ ويحيى حقي وتوفيق الحكيم والطيب صالح, فضلاً عن مجلدات بارزة مثل (تحت سماء عارية: قصص قصيرة من العالم العربي). وهو يعكف حالياً على ترجمة مجلد يضم قصصاً مختارة لأدباء من دولة الإمارات العربية المتحدة.

للمؤلف أيضاً, بالإضافة إلى الكتاب موضوع المناقشة هنا, مجموعة من القصص القصيرة بعنوان (مصير سجين وقصص أخرى) صدرت عن دار كوارتيت اللندنية عام 1999, وله أيضاً قرابة عشرين كتاباً تضم قصصاً موجهة للفتية والناشئة استلهمها من التراثين العربي والإسلامي.

يستهل دنيس جونسون ديفز كتابه عن ذكرياته في الترجمة بإيضاح الظروف التي قادت خطاه إلى درب دراسة اللغة العربية, وهو درب لا يمكن وصفه بأنه كان سهلاً وممهداً, حيث أفضى به إلى دراسة العبرية والفارسية. ويطلعنا في غمار ذلك كله على الحقيقة البسيطة التي يجهلها الكثيرون منا نحن العرب, وهي أن الأدب العربي, بما فيه الأدب العربي الحديث, ظل مودعاً في خزانات أغلقها المستشرقون عليه, وحرصواً على أن يكونوا وحدهم القائمين عليها, إلى أن قام كتّاب, مثل المؤلف, بالمغامرة الممكنة ـ المستحيلة المتمثلة في إخراج هذا الأدب من تلك المتاهات إلى آفاق العالم الحديث.

ربما لا يستطيع الكثيرون في العالم العربي تقدير طبيعة الإنجاز الذي كان للمؤلف شرف الريادة فيه, وهو وضع الأدب العربي الحديث في دائرة اهتمام العالم, لكن أتيح لي أن أرى بعيني كتب المبدعين العرب مترجمة إلى العديد من لغات العالم في صدارة المكتبات في مدن مثل كيوتو, مونتريال, بانكوك, أمستردام ومونت كارلو, وما أحسب أن ذلك كان أمراً ممكناً, ليس في حياتي على أي حال, لولا دأب رجال مثل دنيس جونسون ديفز وجرأتهم وخيالهم المحلق وأيضاً استعدادهم للتضحية.

الفصل الأول الذي سيتحدث فيه المؤلف عن مسار دراسته للغة العربية سيطلعنا على نقاط عديدة جديرة بالتأمل والوقوف عندها طويلاً:

أ - اقتضى الأمر حربين عالميتين لكي تبدي الإمبراطورية البريطانية حداً أدنى من الاهتمام باللغة العربية وتخريج حفنة من الدارسين القادرين على التعامل معها ومع الشعوب التي تتحدثها.

ب - عندما التحق المؤلف بمدرسة الدراسات الشرقية التابعة لجامعة لندن (مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية الآن المعروفة اختصاراً باسم (ساوس)) وجد نفسه زميلاً في الدراسة لأناس من عيار الشيخ عبدالعزيز المراغي, المستشرق برنارد لويس الذي قُدِّر له بعد نصف قرن أو يزيد من العداء للعرب والمسلمين أن يكون أحد المنظرين الذين يعتمد عليهم المحافظون الجدد في أميركا, والشاعر جوزيف أكوالينا.

ح - لم يكن معلمو اللغة العربية, بمن في ذلك من أوغلوا في الاختصاص مثل بروفسور نيكلسون الذي ترجم (مثنوي) جلال الدين الرومي إلى الإنجليزية, قد اكترثوا بزيارة العالم العربي أو إبداء أدنى اهتمام بالأدب العربي الحديث, وهكذا نقلوا إلى طلابهم الاقتناع بأن العربية لغة ميتة أخرى, لا تختلف عن اللاتينية كثيراً.

مع نهاية الحرب العالمية الثانية أتيح لجونسون ديفز الانتقال إلى القاهرة مسلحاً بدراسته وخبرته باللغة العربية المنطوقة التي اكتسبها من العمل في هيئة الإذاعة البريطانية ليعمل في التدريس بالمجلس البريطاني أولاً ثم بتدريس اللغة الإنجليزية في قسم اللغة العربية بكلية الاداب في جامعة فؤاد الأول.

قدر ساحر ومدهش شاء أن تبدأ رحلة (العم دنيس) معنا أو رحلتنا معه من خلال صداقته لمحمود تيمور, الذي ينعقد الإجماع بشكل ما على أنه رائد القصة القصيرة العربية, فكانت البداية بترجمة قصتين من أعمال تيمور ثم نشر مجموعة كاملة له بعد القيام بترجمتها إلى الإنجليزية.

لما كانت هذه الحكاية التي يرويها المؤلف, في نهاية الفصل الثالث من كتابه, تنتمي - بامتياز - إلى الزمن الجميل, فإنها تتوج بنهاية سعيدة, فهذه المجموعة التي صدرت بمقدمة بقلم عبدالرحمن عزام باشا الأمين العام لجامعة الدول العربية, وصدرت في 1947 لتكون أول مجلد من القصص القصيرة العربية يترجم إلى الانجليزية, بادر محمود تيمور إلى دفع ما يعادل قيمة مبيع جميع نسخها للمترجم, من دون أن تكون هناك إشارة سابقة إلى أنه سيتحمل التكلفة, فتأمل!

على أي حال, هذه الحكاية ذات النهاية السعيدة تشكل استثناء لم يتكرر من القاعدة, وليس صدفة أن المؤلف يروي لنا كيف أنه عندما سئل ذات مرة عما إذا كان يأكل خبزه من الترجمة, رد على الفور: لا, لا سمح الله!

دمعة وابتسامة

تتوالى الفصول التي يسرد المؤلف ذكرياته فيها عن العمالقة الكبار في الأدب العربي ومعهم, حيث نلتقي في الفصل الرابع مع توفيق الحكيم, ونضحك من القلب عندما نقرأ كيف وصل شيك إلى الحكيم قيمته 3.60 جنيهات إسترلينية من دار هاينمان التي أصدرت له من ترجمة دنيس جونسون ديفز مجلداً في سلسلة (مؤلفون عرب) بعنوان (مصير صرصار ومسرحيات أخرى عن الحرية), وذلك على سبيل تسوية عوائد الملكية الفكرية عن سته أشهر, فبادر إلى القول: (سيكون من العار صرف هذا الشيك, أظن أنني سأتخذ له اطاراً وأعلقه).

الروح المرحة نفسها ستفرض نفسها على الذكريات التي ضمت المؤلف ونجيب محفوظ, الذي كان المؤلف هو أول من ترجم له قصة إلى الإنجليزية على الإطلاق, وأدرج كتابين له في سلسلة (مؤلفون عرب) التي كان يشرف عليها, وأوصى بترجمة (أولاد حارتنا) وأدرجها في السلسلة عينها تحت عنوان (أولاد جبلاوي), وترجم له عمله الموجز الجميل (أصداء السيرة الذاتية).

ولا تفارقنا الابتسامة ونحن نتابع ذكرياته مع يحيى حقي, الذي يصارحنا المؤلف بأنه أسف كثيراً لانه لم يترجم من أعماله أكثر مما ترجمه بالفعل, وإن كان هذا الأسف قد خفف منه صدور ترجمته التي انتظرت عقوداً قبل أن ترى النور عبر الجامعة الأميركية في القاهرة لـ (قنديل أم هاشم).

نجمع بين الدمعة والابتسامة في متابعتنا لذكريات المؤلف مع د. لويس عوض, قبل أن نرحل في حديث معمق عن إدوار الخراط, لكن علينا أن نشد الرحال مع (العم دنيس) إلى لندن حينما يضطر إلى الرحيل إلى هناك للاقامة والعمل بالمحاماة خلال السنوات من 1954 إلى 1969, حيث يتوالى حديث الذكريات مع العديد من المبدعين العرب ومنهم جبرا إبراهيم جبرا, بلند الحيدري, غسان كنفاني, زكريا تامر, الطيب صالح, وتوفيق الصايغ.

تغيب الابتسامة لتلتمع الدمعة في الفصل الحادي عشر, من خلال ذكريات المؤلف عن بدر شاكر السياب الذي حمل في معطفه الشعر وبدنه الضعيف والمرض العضال, ورحل إلى عاصمة الضباب. بحثاً عن العلاج, لكن طبيب دنيس يبلغه بالحقيقة المريرة: لا أمل, فيرحل إلى الكويت ليمضي أيامه الأخيرة, حيث يتحرر أخيراً من العذاب والمعاناة.

يتحدث المؤلف مطولاً عن الطيب الصالح ويوسف إدريس, مبدياً إعجابه بإبداع الأول وهو ما انعكس في ترجمته لرائعته (موسم الهجرة إلى الشمال) و(بندر شاه) بفاصل خمسة عشر عاماً بين الترجمتين, فضلاً عن (عرس الزين). ولا يتردد في الإعراب عن اعتقاده ـ سواء وافقناه أم اختلفنا معه ـ بأنه إذا كان هناك خطأ وقع فيه الطيب صالح, فهذا الخطأ هو أنه لم يكتب أكثر مما أنجز بالفعل.

أما يوسف إدريس فإن دنيس جونسون ديفز لا يتردد في الإعراب عن اعتقاده بأنه شخصية كارزمية وكاتب يتمتع بموهبة عظيمة, ويرى فيه عملاق القصة المصرية, غير أنه يملك الصراحة التي تتيح له القول, في السطور الاستهلالية للفصل الثالث عشر, إنه على الرغم من كل جاذبيته, إلا أنه في بعض الأحيان كانت له رؤية مبالغ فيها على نحو محرج لموقعه ككاتب.

موعد مع الأمل

ابتداء من الفصل الخامس عشر, كما سبقت الإشارة, سيتخلى الكاتب عن منهاجه في تخصيص كل فصل ـ كوحدة عمل ـ لكاتب عربي أو لمرحلة من حياته كرائد في تعريف العالم بالأدب العربي الحديث, ليحث الخطى, ربما بضغط مباشر من الناشر, نحو الانتهاء من إنجاز الكتاب. هكذا سنشعر بالغبن في متابعة ذكريات المؤلف مع يحيي الطاهر عبدالله, الذي بلغ من عشقه للقصص القصيرة حد أنه كان يحفظها عن ظهر قلب, كما لو كانت قصائد, لانه ـ كما يعبر كافكا ـ كان مجبولاً من أدب.

سيضع المؤلف يده على الهوة التي تفصل بين مبدعي الأدب في مصر ومن يفترض بهم القيام على تشجيعه ودفعه قدماً, لكنه سيكتفي بالإشارة دون التصريح, دع جانباً التفصيل.

كان جميلاً من ديفز أن يحدثنا وسط هذه الانطلاقة الحادة نحو ختام كتابه عن كتب الأطفال التي يخصص لها جانباً من وقته, وأيضاً عن اهتمامه بالحيوان وانعكاس ذلك على ترجماته ومؤلفاته, وهو يدهشنا حقاً بقوله في السطور الأولى من الفصل التاسع عشر والأخير من الكتاب إنه مع كل كتاب يترجمه فإنه يعد نفسه بأنه سيكون الكتاب الأخير الذي ينجزه, لكنه يجد نفسه عائداً إلى ترجمة كتاب جديد, لتصل حصيلة كتبه المترجمة إلى ثمانية وعشرين كتاباً حتى الآن.

ولا يجد المرء في نهاية الكتاب نفسه إلا على موعد مع الأمل بأن تتلقى المطبعة عما قريب إنجاز ديفز ود.عز الدين إبراهيم لما تيسر لهما من ترجمة معاني القرآن الكريم, التي عكفا سنوات على الاشتغال عليها.

من يدري, قد يتاح لـ (العم دنيس) إصدار طبعة جديدة من (مذكرات في الترجمة) تتضمن المزيد والمزيد من الإضافات إلى ما هو بين أيدينا بالفعل, في هذا الكتاب الذي يجمع بين سحر الزمن الجميل وتجليات الزمن الذي نعيشه بكل تحولاته وأعاجيبه!.

 

دنيس جونسون ديفز