نظرة من الداخل... على المأساة الجزائرية

نظرة من الداخل... على المأساة الجزائرية

قضية طلقاء مكة معروفة, والمهم فيها أن سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم عفا عن الذين أساءوا له, وهو ما اقتدت به الثورة الجزائرية بعد استرجاع الاستقلال.

غير أن المقارنة ليست مطلقة بين طلقاء الأمس البعيد وطلقاء الأمس القريب.

فالذين أسلموا بآخرة, خوفاً أو طمعاً, كانوا, في معظمهم من علية القوم, الذين قد ينطبق على الكثير منهم تعبير "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام", ولقد عملوا على انتزاع السلطة من المسلمين الأوائل, لكن أبناءهم اندفعوا في الفتوحات الإسلامية بما يمكن أن يغفر لهم الكثير "وكلمات عكرمة بن أبي جهل خالدة مخلدة".

أما طلقاؤنا فلم يكونوا جميعاً من علية القوم, تماماً ككل الذين يربطون أنفسهم بعجلة المستعمر.

والذي حدث هو أن فرنسا شرعت, بعد تولي الجنرال شارل دوغول مقاليد السلطة, خلال صيف 1985, في إعادة تقويم موقفها في الجزائر.

لقد أدرك الرئيس الفرنسي المحنك, كما يقول في مذكراته, أن عدم التسليم للجزائر بحقها في الاستقلال عن فرنسا "يؤدي إلى إبقاء فرنسا تغوص سياسياً ومالياً وعسكرياً في مستنقع لا قاع له, وقد يؤدي ذلك إلى توريط جيشنا في قتال قمعٍ استعماري لا طائل تحته ولا نهاية له "..." فلم يكن أمامي من مخرج سوى منح الجزائر حق تقرير مصيرها بنفسها "..." وكنت أعتزم أن أحذو حذو فرنسا القديمة التي, بعد أن أصبحت بلاد الغال, ظلت محتفظة بالطابع الروماني, بحيث ستبقى الجزائر فرنسية من عدة أوجه".

وقد كانت الثورة الجزائرية من العنفوان بحيث قال الرئيس الفرنسي "يترتب عليّ إنقاذ فرنسا من المهام والخيارات التي يتزايد عبؤها باستمرار, في حين أن الفوائد التي كانت تجنيها سابقاً أصبحت مظاهر فارغة "..." أصبحت متأكداً أنه, رغم تفوق وسائلنا الساحق, فإنه لا طائل من خسارة رجالنا وأموالنا عن طريق فرض شعار "الجزائر فرنسية" "..." لأن القتال كان حتماً شديد الخطر وأحياناً منهكاً وغالباً مخيباً للآمال".

لكن الجنرال الفرنسي الداهية, وهو يستعد "لمََنْح" الجزائر استقلالها, كان يعمل لتبقى لبلاده اليد الطولى في جزائر ما بعد الاستقلال, لأن فرنسا "تتخذ هذا القرار, يحدوها الأمل المتفق مع مصلحتها, بألا تتعامل في المستقبل مع جزائر ثائرة ومجردة من القانون, وإنما مع جزائر هادئة ومسئولة"!

وهكذا أخذت فرنسا في إعداد العدة للمستقبل, فأطلقت بعض البرامج الاقتصادية لتكون نواة لمستفيدين منسجمين مع طروحاتها المستقبلية, وتوسعت في إعداد الموظفين الجزائريين الذين ستترك بين أيديهم مقاليد البلاد في المستقبل.

ومن هؤلاء أولئك الذين سيحملون لقب "دفعة لاكوست", وسيتركز وجودهم في البداية على المواقع الدنيا والثانوية, البعيدة عن الأضواء.

أين كان الوطنيون من كل هذا, وهل كانوا يدركون أبعاد اللعبة?

كل المعطيات تؤكد أن القيادة الجزائرية, في مجموعها, لم تتوقف كثيراً عند تفاصيل ما يحدث حولها, فقد كانت في سباق مع الزمن, تعاني من الآثار السلبية الناتجة عن عمليات ترتيب الأسبقيات, والبدء بالأهم ثم بالمهم, وربما كانت تحاول كسب الوقت وإقامة الواقع الجديد, مع تفادي الوقوع في الفخ الذي وقع فيه الخمير الحمر بعد ذلك في كمبوديا, وهو القيام بعمليات تطهير يعلم المرء متى وكيف تبدأ ولكنه لا يعلم متى وكيف تنتهي.

ومن هنا كان شعار "عفا الله عمّا سلف" ضرورة وطنية لتضميد الجراح وبناء المستقبل.

الهجرة الجماعية

ويجب أن نتذكر هنا أن الجزائر دخلت إلى مرحلة الاستقلال باقتصاد مربوط بمنطقة الفرنك, وبمؤسسات تابعة للمستعمر السابق, من بينها دار الإذاعة والتلفزة وكل البنوك وشركات التأمين والمؤسسات التجارية, بالإضافة إلى كل المناجم والمحاجر وآبار النفط, ومن دون أن ننسى وجود عدد من القواعد العسكرية الفرنسية عبر التراب الوطني كله, ومن دون أن ننسى أيضاً أن كل الوثائق الإدارية المتوافرة كانت باللغة الفرنسية, وأن فرنسا نفسها كانت على بعد نحو ساعة بالطائرة, وعلى بعد أمتار بفضل مراكزها الثقافية المنتشرة عبر البلاد, وعلى بعد لحظات بفضل أجهزة الإذاعة التي لا يخلو منها بيت.

وإذا تذكرنا الهجرة الجماعية لجل التقنيين الفرنسيين, والفراغ الهائل الذي كان لا بد من مواجهته حتى لا تتوقف البلاد, يمكننا أن نفهم كيف تمكن الطلقاء من التسرب إلى المفاصل الحيوية للدولة الناشئة, لتكوين الأخطبوط الإداري, وكيف ظل الكثيرون منهم على ارتباط بعناصر المستعمر السابق الذين فضلوا البقاء, أو طُلب منهم البقاء.

وأنا لا أحب التعميمات الظالمة, لكن المؤكد أن عدداً من أولئك, وخاصة المتزوجين بأجنبيات, لم يستطيعوا استيعاب واقع الاستقلال, وإن كان معظمهم قد نجح في إخفاء قناعاته, وتمكن من الاندماج الظاهري في الحركة العامة للمجتمع, في حين أن كثيرين تأقلموا مع الواقع الجديد, خاصة عندما لم يفكر أحد في محاسبتهم.

كان المنطق العام للوطنيين أن البلد محتاج إلى كل أبنائه, وعلى الذين فاتهم قطار الجهاد الأصغر أن يركبوا قطار الجهاد الأكبر, ومن هنا فإن الخلاف المهم الذي وقع في السنوات الأولى للاستقلال بين الرئيس الأسبق أحمد بن بله والرئيس الراحل هواري بومدين, الذي كان آنذاك وزيراً للدفاع الوطني, تمحور حول واقعية شعار "التطهير" الذي رفعه الرئيس بن بله, والذي كان شعاراً رائعاً من الناحية الاستراتيجية وشعاراً سيئاً من الناحية التكتيكية, وهذا هو ما يفسر موقف الرئيس بومدين, عندما واجه الرئيس بن بله, ورد على شعاره في المؤتمر الرابع للحزب, في 1964, بشعار "من يُطَهّر من"?.

وكان كل شعار يجسد خلفيات كثيرة ومعطيات أكثر.

كان الرئيس الأسبق, نتيجة لظروف لم يكن مسئولاً عنها بالدرجة الأولى, قد عاش معظم سنوات الثورة وراء أسوار السجون الفرنسية, في حين كان بومدين في الميدان, يتابع كل حركة وكل تحرك, واستعان, في سعيه الدؤوب لبناء الجيش الوطني لجزائر الاستقلال, بالعديد من الضباط الجزائريين الذين فروا من الجيش الفرنسي والتحقوا بالثورة, وكثير من هؤلاء قدموا خدمات لا تنكر للثورة وللوطن, لكن الجدير بالذكر أنهم ظلوا دائماً كتلة متكافلة مترابطة, تحمل إلى حد كبير نفس الميول والأذواق المرتبطة بالتكوين والتجربة.

وعندما جاء الاستقلال تم تحالف بين الرجلين, كان الأمل أن يكون تحالفاً استراتيجياً, فقد كان كلاهما, للأمانة, وطنياً مخلصاً يحب بلاده, وكان كلّ منهما مناضلاً متقشفاً على المستوى الشخصي.

ويرى هواة التسطيح أوجهاً للمقارنة بين كل من بن بله وبومدين في الجزائر ومحمد نجيب وعبدالناصر في مصر, وإن كنت, ككاتب سياسي, قد واجهت ما هو أخطر من تلك المقارنة في منتصف الثمانينيات, عندما بدأت في كتابة سلسلة من المقالات, عُرفت في الجزائر بسلسلة "الطلقاء", وكانت كتاباتٍ عن الفتنة الكبرى في صدر الإسلام, قمت فيها باستغلال, رأيتُه مُبَرّراً, لعبقريات العقاد وإسلاميات طه حسين, ولجأت إلى الإسقاط والتورية للتحذير من فتنة كبرى كنت أراها قادمة.

والذي حدث هو أن القراء كانوا يتصورون, لشدة الإسقاط وقربة من الواقع, أنني كنت, وأنا أتحدث عن الخلفاء الراشدين, أبي بكر وعمر وعثمان, رضي الله عنهم, كنت أعني في الواقع الرؤساء الجزائريين الثلاثة, بن بله وبومدين والشاذلي بن جديد.

وجاءني أحد الصحفيين الشباب ليبلغني أن ضابطاً سامياً سأله عن هذا الأمر, وقلت له في رد فعل متسرّع إن المهم هو من سيكون معاوية, وتلقف الصحفي الرد ليسألني بسرعة عمّن أراه في ذلك الدور, وقلت له بنفس التسرع إن معاوية لن يكون فرداً واحداً, بل سيكون أكثر من واحد.

كان إحساسي من استقراء التاريخ أن هناك شيئاً ما يتم إعداده.

وعندما انفجرت أحداث أكتوبر 1988 أدرك كثيرون أنني لم أكن أهزل, وأن الطلقاء بدأوا في تنفيذ صورة عصرية من صور الفتنة الكبرى.

اليمين واليسار

لست أدري ما إذا كان تعبير "الاختيار الاشتراكي" تعبيراً موفقاً بالنسبة للمسيرة الجزائرية, لأن الواقع يؤكد, في تصوري, أن الأمر لم يكن اختياراً بأي حال من الأحوال.

كان عهد الثوار في أول نوفمبر 1954 هو إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة في إطار المبادئ الإسلامية.

وكانت هذه هي أهم نقاط البيان الذي أعلن ميلاد أول ثورة شعبية تحريرية شاملة.

وبعد ذلك بأقل من عامين حدث ما حدث في مؤتمر الصومام, وحذفت الجملة الأخيرة, وبعدها بأقل من شهرين اختطفت طائرة الزعماء الأربعة "الواقع أن عدد الركاب في الطائرة كان خمسة أما عدد الزعماء فكانوا أربعة هم: أحمد بن بله وحسين آيت أحمد والمرحومان محمد خيضر ومحمد بوضياف, وكان معهم كاتب مغمور استقدمه بوضياف ليساهم في عمل إعلامي, هو مصطفى لشرف, ولم يتوقف أحد آنذاك عند الفرق بين درجة الركاب النضالية, وربما كان هذا خطاً إعلامياً, وهكذا دخل لشرف التاريخ عن طريق المصادفة".

وشهد العالم والمنطقة تطورات بالغة الأهمية, كان من أهمها تضعضع الجمهورية الفرنسية الرابعة, خاصة بعد هزيمة السويس, وتواصل الانهيار إلى أن قام الجيش الفرنسي في الجزائر بعملية انقلابية حملت الجنرال شارل دوغول إلى رئاسة الجمهورية.

وأعطى الجنرال لجيشه مهلة سنتين لتصفية الثورة, بحيث يمكن القول إن أكبر الخسائر البشرية في صفوف الجزائريين حدثت في عهد دوغول, الذي اضطر إلى الانصياع لحتمية التاريخ, وتم الاستفتاء لمصلحة الاستقلال بأغلبية ساحقة, ولم يفكر أحد بعد ذلك في التوقف لحظات ليسأل نفسه: أين ذهب الذين صوتوا ضد الاستقلال? وأين اختفى الذين تعاملوا مع شرطة الاستعمار?

ولقد كانوا هناك, وكانوا, في تصوري, ينتظرون اللحظة المناسبة ويُعدّون لها, وكانوا يضعون قائمة الأسبقيات والتحالفات.

كانت وضعية البلاد إثر استرجاع الاستقلال بالغة الصعوبة.

عملية الهدم الكبرى

كانت هناك أولاً كل الآثار التي خلفتها مرحلة الاستعمار ثم مرحلة الثورة, ومن بينها حالة الفقر العام ومئات الآلاف من الأرامل والثكالى واليتامى ومشوهي الحرب والعائدين من اللاجئين والمشردين والمعتقلين والمنفيين. وكان هناك عناصر القوة الثالثة الباحثين عن نقطة ارتكاز, والطلقاء الباحثون عن التحالفات الجهوية أو المصلحية, والضباع الباحثة عن الجثث, والضواري التي تتحفز وراء الحدود.

وكان هناك المستعمر السابق الذي ترك, بشرياً واقتصادياً, أكثر من مسمار جحا, وأكثر من حصان خشبي, وأكثر من قنبلة موقوتة وألغاماً مزروعة دون خرائط تدل على مكان وجودها.

ثم كانت هناك الخلافات حول مسيرة الاستقلال, والتي كانت تترجم نظرة فكرية أو عقائدية تختلف باختلاف تكوين القيادات, وكانت خلافات أمكن احتواؤها بفضل الإنضباط الثوري, ولكنها برزت إلى السطح فور رفع العلم الوطني.

كانت الثورة عملية هدم كبرى للواقع الاستعماري, وكان التحدي الذي يواجه الثوار هو بناء الدولة المستقلة, والهدم أمر بالغ السهولة إذا قورن بالبناء, خاصة إذا كان هذا البناء يبدأ, تقريباً, من نقطة الصفر.

وضاعت السنوات الأولى في عملية ترتيب البيت من الداخل, وتميزت باعتماد نظام الحزب الواحد, استلهاماً لتجربة الثورة نفسها, التي انتزعت النصر تحت لواء جبهة التحرير الوطني, وربما انطلاقاً من الحقيقة البسيطة التي تقول إن الأحزاب هي تعبير سياسي عن واقع اقتصادي اجتماعي, والتعددية الحزبية هي تجسيد لتعددية موجودة في الميدان, ولم تكن تلك وضعية الجزائر بشكل عام.

لكن الحزب الواحد اقترن بأمر آخر, وهو اعتماد النظام الاشتراكي في التسيير الاقتصادي للبلاد, وهذا من القضايا التي تتطلب وقفة جادة لفهمها, حيث كان على الدولة, بنت الثورة الشعبية, أن تتحمل كل الالتزامات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتحقيق كل الآمال التي كانت وراء التزام الشعب مع الثورة, بكل ما ارتبطت به من تضحيات جسام.

كانت الطبقة العليا خلال المرحلة الاستعمارية تضم الأوربيين وحدهم, ومعهم بالطبع اليهود الذين اختاروا المواطنة الفرنسية, طبقاً لقانون كريميو CREMIEU, وبالهجرة الجماعية لكل هؤلاء بدت الجزائر, بعد استرجاع الاستقلال, كتلة ضخمة من الفقراء, مع أفراد معدودين هنا وهناك يملكون طاقة معتبرة نسبياً, ولكنهم لا يشكلون طبقة متميزة, بالمعنى الكامل لكلمة "الطبقة".

ومن بين هؤلاء من راحوا يعملون للحصول على كل ما كان يملكه الأوربيون الفارون.

وأغمضت السلطات أعينها, ولم تكن تملك غير ذلك, على عمليات الانقضاض الجماعي على المساكن, باعتبارها حاجة اجتماعية ضرورية, لكنها حرصت على تطبيق القرار الثوري الذي يمنع جزائريين من شراء الأملاك العقارية أو الزراعية, التي أصبح يُطلق عليها تعبير "الأملاك الشاغرة".

حصان طروادة

كانت الخلفية الحقيقية هي أن الدولة عاجزة عن مراقبة عمليات البيع والشراء, وهو ما يعني أن كثيرين قد يكونون حصان طروادة لأجنبي يقوم بتمويل عمليات الشراء, أو أن القادر على الشراء لن يكون المواطن, الذي كان وقود الثورة, ولكنه الثري الذي كانت مساهمته فيها محدودة, إذا لم نقل إنه كان قد اختار الجانب الآخر, وهو ما يعني أن الطبقة المالكة في المستقبل ستكون شيئاً آخر خارج الكتلة الكبرى من الفقراء, الذين كانوا هم الجزائر الصامدة المكافحة, وكانت الثورة تطمح إلى التمكن من تحويلهم إلى طبقة وسطى عريضة, هي أمل نجاح مشروع المجتمع المنسجم مع أهداف ثورة أول نوفمبر, وهو المشروع الوطني العربي الإسلامي "الذي تم تحقيقه إلى حد كبير خلال الستينيات والسبعينيات".

وبعيداً عن كل العقائديات والمذهبيات والإيديولوجيات فإن ازدهار الطبقة الوسطى هو الضمان الحقيقي للاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي, بالإضافة إلى أنه هو عنصر الحماية الأول من الاختراقات الأجنبية, التي تجد مجالها غالباً في وسط الأقليات الطبقية أو الفكرية أو المذهبية.

وهكذا كان المطلوب هو تحويل الشرائح الفقيرة إلى طبقة وسطى منسجمة متكافلة.

لكن ذلك قاد إلى إقرار عملية بالغة الخطورة على مستقبل البلاد, وهي نظام التسيير الذاتي للأراضي الفلاحية التي هجرها المعمرون الأوربيون, والتي كانت أغنى الأراضي الزراعية وأكثرها إنتاجاً.

وكانت نقطة الخطورة الجوهرية هي أن الأراضي تركت غالباً للفلاحين الذين كانوا يقومون بزراعتها لحساب المعمرين, والذين لم يكونوا دائماً من الفلاحين الذين تخلوا عن كل شيء للالتحاق بالثورة, وهكذا وُلد نظام التسيير الذاتي, سيئ الذكر, الذي فشلت الجزائر في تأطيره ثورياً, وبالتالي في استعماله كركيزة للنمو المطلوب.

وبغض النظر عن وجهة نظر كانت ترى أن الرئيس بن بله, عند إقراره لذلك النظام, كان يأمل في أن يحقق لنفسه شعبية في الأوساط الريفية, تمكنه من اكتساب قوة سياسية ذاتية في مواجهة القوة السياسية التي يملكها وزيرالدفاع الوطني, العقيد بومدين, فلابد من النظر إلى القضية كلها على ضوء الأدبيات السياسية لبداية التسعينيات من جهة, ومن جهة أخرى عدم وجود بدائل مُقنعة أمام صانع القرار الجزائري, باستثناء بيع الأرض لمن يملك سيولة نقدية يعلم الله مصدرها, والمجازفة بنمو طبقة إقطاعية جديدة, لن يكون لها, بحكم ظروف النشأة, كل ضوابط البورجوازيات العريقة والرأسماليات الوطنية التي عرفها الوطن العربي على وجه التحديد, ولم تعرفها الجزائر. تلك هي, في تصوري, خلفيات اعتماد نظام الحزب الواحد سياسياً والتسيير الاشتراكي اقتصادياً, ولا بد من تثمينها على ضوء معطيات المرحلة, دون أن ننسى أن كلمة "الاجتماعية" "SOCIAL" في وصف دولة الاستقلال المنشود, طبقاً لبلاغ أول نوفمبر الذي كتب أساساً بالفرنسية, ليس لها وجود معروف في الأدبيات السياسية المألوفة في العالم العربي, وكان الجذر واحداً مع كلمة الاشتراكية, التي كانت موضة العصر آنذاك, وإن كان التطبيق عندنا أقرب إلى مضمون رأسمالية الدولة.

لهذا قلت إنني أرفض استعمال تعبير الخيار الاشتراكي, وأرى استبداله بتعبير الاضطرار الاشتراكي.

وكان من التداعيات التي قادت إليها الاشتراكية في الجزائر نفور عدد من البلدان العربية التي ترفض ذلك الانتماء, لأسباب عَقَدية أو عقائدية أو سياسية.

وهكذا وضع البعض الجزائر في قائمة الخصوم أو غير الحلفاء, ولعل بعضها فتح صدره لعناصر جزائرية رافضة, مما سيكون له دور كبير في أحداث المستقبل. "ولا بد للأمانة من التذكير بالتفهم الكبير الذي لقيته الجزائر من الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز, بعد زيارته التاريخية في يونيو 1970, والتي مكنته من رؤية الصورة الحقيقية, وكان هذا أساس قيام تحالف استراتيجي بين البلدين كانت له نتائج إيجابية في مجال حماية حقوق البلدان المصدرة للبترول, ثم خلال حرب أكتوبر 1973".

وربما كان لقطع العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية إثر حرب 1967, تضامناً مع مصر وسوريا, واعتماد الجزائر على الاتحاد السوفييتي في تسليحها, ونشاط الجزائر المتزايد لدعم حركات التحرير في العالم كله, وخاصة الحركات المناهضة لأمريكا, ربما كان لذلك كله دوره في تصنيف الجزائر دولياً, رغم أنها التزمت قولاً وعملاً بعدم الانحياز.

أخطر التداعيات

ولكن هناك شيئاً يجب أن يُقال في هذا المجال, وهو أن آثار الصراع الذي عرفته مصر الخمسينيات والستينيات بين الرئيس جمال عبدالناصر وجماعة الإخوان المسلمين كان يلقي بظلاله على الأجواء الجزائرية, حيث استنتج كل طرف ما يحلو له من استنتاجات, واتخذ من المواقف ما يترتب عليها, ولم يكن سراً أن قيادات إسلامية كانت ترى في بومدين صورة جديدة لعبدالناصر.

وكان من أخطر التداعيات عجز بعض القيادات الإسلامية في الجزائر عن فهم خصوصية ما حدث في البلاد, ورفضُها التكيف معه, وتحالفُ بعضها مع عناصر ذات طموحات إقطاعية, مما وضع البعض, بشكل آلي, في موضع الخصومة مع نظام الحكم, فتقوقعوا على أنفسهم, بحجة أنهم حرموا من كل الحقوق, وكان هذا جانباً واحداً من الحقيقة, وكان الجانب الآخر تصور طرف معين بأنه يملك كل مفاتيح الحقيقة.

في الوقت نفسه تمكنت العناصر اليسارية من التسرب إلى وجدان القيادات ورفعت شعار التأييد المتحفظ لنظام الحكم Soutien critique لتتمكن من تحقيق أكبر قدر من المكاسب الوظيفية دون تحمل التبعات السياسية, بمقدرة رائعة على التكيف والانسجام, وكان هذا جزءاً من تكتيك الأقليات الفكرية.

والعمل تحت الأرض, يميناً أو يساراً, هو الطريق نحو نوع من "الغيتو" السياسي, خطورته أنه يخلق حالة شبيهة بحالات البارانويا, حيث لا يرى المرء حوله إلا الأعداء.

وهكذا كانت القنابل الانشطارية الموقوتة تُجمع وتتجمع لتقوم بدورها في الوقت المعين, وستكون لنا فرصة الكشف عنها في لقاءات أخرى.

 

 

محيي الدين عميمور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




بن بله وهواري بومدين مرحلتان من التفاعلات الجزائرية





بن بله وهواري بومدين مرحلتان من التفاعلات الجزائرية





للجزائر خصوصيتها الروحية التي تجاهلتها حسابات عديدة





الشارع الجزائري يكشف عن ثقافة خاصة تجاهلها البعض طويلا





الجزائر العاصمة إطلالة متوسطة يختلف ظاهرها عما في قلبها