تواصلا مع.. تأريخ النزعة الاستهلاكية عبدالرحمن محمد العيسوي

تواصلا مع.. تأريخ النزعة الاستهلاكية

في مقاله الرائع المنشور في عدد نوفمبر سنة 2007 بمجلة العربي الغراء ربط الأستاذ الكبير الدكتور سليمان إبراهيم العسكري رئيس التحرير بين أعماق التاريخ، في العديد من الحضارات والثقافات، وبين الحاضر المعيش حاليًا، في تتبعه لتاريخ النزعة الاستهلاكية عبر حقب التاريخ المختلفة، موضحًا أنها تضرب بجذورها في أعماق التاريخ.

وفي تفسير هذه النزعة سيكولوجيًا ندرك ما يعرف في علم النفس بـ «هوس الشراء» وهو حالة عقلية مرضية، شأنها في ذلك شأن شتى أنواع الهوس، تشير إلى الولع الشديد والاندفاع القوي لشراء واقتناء الأشياء بصرف النظر عن حاجة صاحبها إليها، ومن ذلك أيضًا هوس التملك والاقتناء.

وفي الولايات المتحدة الأمريكية، الآن، تنتشر نزعة استهلاكية أو شرائية متطرفة ومبالغ فيها تعرف باسم «to Keep up with is Johns» ومؤداها أن الأمريكي يشاهد جاره أو زميله مثلًا وقد اقتنى سيارة جديدة يفعل مثله، ويبيع سيارته أو يقايض عليها بأخرى تشبه سيارة جاره أو جارته أو تفوقها في الحداثة أو في العمر، وهذا الشراء يتم بالأجل أو التقسيط ومن شأن هذه العادة أن تغرق صاحبها في الديون بصفة دائمة، ففور أن ينتهي من سداد ثمن سلعة ما يبادر إلى شراء أخرى ويعيش في حالة من الوقوع في الديون على طول الخط. ويشير هذا المقال القيم إلى كثير من العادات السلوكية السلبية، وبينها الولع بشراء السلع غير الضرورية أو السلع الترفيهية أو ما يطلق عليه البعض «السلع الاستفزازية»، أو التي تؤدي إلى تبديد النقد الأجنبي في استيرادها وخاصة في المجتمعات الفقيرة والنامية والتي يندر فيها هذا النقد، وتتمثل في شراء السلع دون حاجة فعلية إليها. وتبدو هذه النزعة بصورة متطرفة لدى بعض النساء في اقتناء كثير من الملابس الفاخرة والحلي والمجوهرات، وحتى قطع الأثاث المنزلي دون حاجة حقيقية إلى هذه السلع، وذلك لإشباع نهم الشراء أو الولع الشديد بالشراء، أو رغبة في التقليد والمحاكاة، أومن أجل المباهاة والتفاخر «الكاذب».

وإذا كان بعض العلماء ينظرون لعلم التاريخ على أنه دراسة الوقائع الحربية أو الغزوات العسكرية أو الصراعات السياسية، فإن ذلك يخالف وجهة نظر فلسفة التاريخ والتي ترى أن التاريخ ما هو إلا دراسة لتطور حضارة الإنسان أو هو دراسة الظواهر البشرية. ولقد فعل ذلك عبدالرحمن بن خلدون في مقدمة كتابه الموسوعي المعروف باسم «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطات الأكبر» حيث استعرض الحرف والصناعات والعادات وطرق التعلم والإكساب والعلوم والفنون المعروفة على عهده، والحقيقة أن التاريخ لا يقتصر فقط على دراسة الصراعات السياسية كما كان حادثًا بين أمريكا الرأسمالية وروسيا الشيوعية، ولكن هناك تاريخ الفلسفة وتاريخ العلم وتاريخ الفنون والآداب، وحتى تاريخ الجريمة وتطورها وتاريخ القانون.

وقد يقول البعض إن المرأة، في بعض الحالات، تسرف وتبالغ في مطالبها وفي الشراء ربما انتقامًا لا شعوريًا، من زوجها أو في محاولة مستترة منها لإفلاسه عملًا بالشعار النسائي القائل: «قصص جناح طيرك أحسن يلوف بغيرك» خوفًا علي الزوج إذا أثرى أن يتزوج من غيرها.

ودراسة المجتمع سماها العلامة ابن خلدون علم «العمران البشري» وهو ما يعرف اليوم بعلم الاجتماع والذي ينسبه الغرب كذبًا إلى «أوجست كونت»، ولاشك أن نزعة الاستهلاك قد تكون نزعة طبيعية في الإنسان لإشباع حاجاته الضرورية في المأكل والمشرب والملبس، ولا بأس في ذلك ما دامت لا تتخطى حدود الكفاية التي يوصي بها إسلامنا العظيم فلا بد من إشباع الحاجات الضرورية للإنسان في المأكل والمشرب والمأوى بصورة متوسطة ومعتدلة، وهنا تبرز أهمية نزعة الوسطية في ديننا، فلا «إفراط ولا تفريط» بل وسطية واعتدال بلا إسراف أو تقتير أو بذخ أو بخل. ومن هنا وجب على المواطن العربي والمواطنة العربية عدم الخضوع لإغراءات شركات الإنتاج وتضليلات الإعلانات البراقة والمزيفة أحيانًا، وذلك حتى لا نخلق مجتمعًا استهلاكيًا فقط. ذلك لأنه إذا كان الاستهلاك ضروريًا، فلا بد وأن يقابله إنتاج، بل يتعين أن يزيد الإنتاج عن حدود الاستهلاك، وبذلك يتحسن نظام المدفوعات ويصبح لمصلحتنا.

وإذا كنا نلمس اليوم أن الأثرياء ثراء فاحشًا يسرفون إسرافًا ممقوتًا في الشراء والاستهلاك والاقتناء إلى حد السفه، فإننا، مع الأسف الشديد، نلمس الملايين من الفقراء الذين يعز عليهم توفير لقمة الخبز فقط، والذين ينامون في العراء وهم جوعى، أو ما يعرف باسم أطفال الشوارع أو سكان العشوائيات، والذين يعانون من أمراض سوء التغذية وتنتشر بينهم الأمراض.

السلوك الاستهلاكي في الوقت الراهن هو سلوك معدٍ وفي حاجة إلى مزيد من الإرشاد والتوعية والترشيد، حتى لا تتحول النزعة الاستهلاكية إلى نزعة وساوسية قهرية وعبثية يجد الفرد نفسه مسوقًا إليها قهرًا عنه. وعودة هذه النزعة التي استقصى أثرها د. سليمان إبراهيم العسكري، تفيد بأن التاريخ يعيد نفسه أو يكرر نفسه حتى في السلوكيات السلبية أو في الأمراض النفسية والاجتماعية.

وإنسان اليوم تزداد حاجاته ومطالبه وتتسع رغباته التي يسعى لإشباعها، حتى أنه يظل يلهث وراء إشباع هذه الحاجات المتزايدة. ويضاف إليها الزيادة المطردة في أعداد السكان وزيادة معدلات كثافتهم مع قلة الموارد، وهذا السلوك يمتص عائدات التنمية. ولا شك أن هذه النزعة أي الاستهلاكية قد تأثرت بالاستعمار الذي كان ولا يزال يعمد إلى جعل بلادنا مجرد أسواق رائجة لمنتجاته ويبقينا مجرد مستهلكين ومستوردين لمنتجاته حتى من السلع الضرورية كالقمح وغير الضرورية مثل الرموش الصناعية أو العطور والروائح النسائية والمساحيق و«الباروكات». ومن العوامل المشجعة لتفشي هذه النزعة انتشار نظام البيع بالأجل أو بالتسقيط ونزعة التقليد والمحاكاة أو شعور المرأة أو الرجل بالنقص وعدم الثقة بالذات، ولذلك قد يتم اللجوء إلى الاقتناء لتعويض نقص ما في الشخصية، لأن الإنسان السوي يشتري فقط ما يلزمه وفي نطاق حد الكفاية، بل إن المسلم مطالب بعدم الشبع أزيد من اللازم حتى لا يصاب بالتخمة وبأمراض السمنة، فـ «نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع»، و«المعدة بيت الداء». وظاهرة حب الشراء تنتقل بطريق العدوى، وقد يقلد الفقراء الأثرياء في شراء العطور وغيرها. ولنا أن نتأمل الزعيم الهندي العظيم غاندي أين هو وأمثاله من نزعة الطمع والجشع والشره والاستهلاك الجائر لمصادر الثروة؟ والنزعة الاستهلاكية هي، في الواقع الحالي، نزعة رأسمالية تشجع على الشراء من أجل أن تكثر من الإنتاج وبالتالي من الأرباح. أما الفكر الاشتراكي فكان ينادي بأن «لكل إنسان على قدر حاجته فقط ومن كل إنسان على قدر طاقته».

 

عبدالرحمن محمد العيسوي