أمل جديد للمرض رؤوف وصفي

الرّنين المغناطيسي النووي

شهد القرن العشرون إنجازات علمية مذهلة، لعل أهمها ما يرتبط بنواة الذرة وقد أدى ذلك إلى وضع أسس لتقنيات حديثة أصبحت تميز حياتنا المعاصرة منها: الرنين المغناطيسي النووي الذي يعتبر تحقيقا لحلم الأطباء في إيجاد وسيلة مأمونة وفعالة لتصوير خفايا الجسم البشري، وأمراضه، ومن ثم علاجها بمزيد من الدقة.إن القدرة على استخلاص المعلومات من داخل جسم الإنسان، هي التي تجعل الطب في عداد المعارف العلمية، لكن فيما عدا سماعة الطبيب ومنظار العين لم تكن الوسائل الفنية للحصول على هذه المعلومات متاحة، قبل اكتشاف الأشعة السينية (إكس) في نهاية القرن التاسع عشر، ثم تطورت ببطء تقنية توليد واستخلاص هذه الأشعة في التصوير، ولم تزدد سرعتها في التقدم إلا في الثلاثين سنة الأخيرة.

وشهدت فترة الخمسينيات من القرن العشرين ظهور الطب النووي والكشف بالموجات فوق الصوتية Uitrasound، كما عاصرت فترة السبعينيات من هذا القرن التوصل الى التصوير بالأشعة باستخدام الكمبيوتر CT وجهاز التصوير الباعث للبوزيترون PET وفي الثمانينيات التصوير بالرنين المغناطيسي النووي ( NMR ) Nuclear Magnetic Resonance . إن الأمراض التي تهاجم جسم الإنسان كثيرة ومتعددة، لدرجة أن كل طريقة من طرق التصوير بالأشعة لها فائدتها.الخاصة ومن ثم فإن الأمر يحتاج إلى وجود كل هذه الوسائل، وبحيث لا تلغي إحداها الأخرى.

وفي جميع طرق التصوير الطبي يتحول شكل معين من الطاقة إلى نمط مرئي بطريقة محددة مكانيا، بحيث تنعكس الطاقة بواسطة مكونات عميقة داخل الجسم، وباستثناء التصوير الحراري، فإن مصدر الطاقة وخواص الإشارة المرتدة من الجسم، تحددهما معدات التصوير الطبي المستخدمة.

ومن الناحية المثالية يستخدم التصوير الطبي كسجل للحالة الوظيفية (الفسيولوجية) لأعضاء الجسم البشري، وقد يكون هذا السجل وقتيا أو دائما تبعا للطريقة المستخدمة والهدف المطلوب. وليس كافيا تسجيل شكل عضو الجسم فقط، وإنما يجب تصوير الوظيفة التي يقوم بها إذا كان الهدف الكشف عن بعض أنواع الأمراض التي تهاجم الجسم البشري. وهكذا أمكن في الوقت الحاضر تصوير تدفق الدماء والتمثيل الغذائي وتركيب النسيج الضام وغير ذلك.

مغناطيسات. . داخل الجسم

الرنين المغناطيسي النووي (وكلمة نووي هنا لا ترتبط بالنشاط الإشعاعي بل بنواة الذرة). طريقة جديدة لإنتاج الصور باستغلال الخواص المغناطيسية لأنوية الذرات. ورغم أن الرنين المغنا طيسي استخدم معمليا منذ الأربعينيات من القرن العشرين، إلا أنه لم يتم تطوير الأجهزة التي تستخدمه لكي تنظر إلى داخل الجسم البشري وتنتج صورا عن تركيبه الكيميائي، إلا منذ عام 1980، وقد تتساءل ما هو الأساس العلمي لفكرة الرنين للغناطيسي النووي؟

من المعروف أن الجسيمات دون الذرية التي تكون النواة هي البروتونات والنيوترونات- ما عدا نواة الهيدروجين التي بها بروتون واحد فقط- وتدور معظم أنوية الذرات حول محورها وكأنها مغازل صغيرة، وهذه الحركة المغزلية يطلق عليها البرم Spin والبروتونات تبرم عكس اتجاه برم النيوترونات، ومن ثم يلغي أحدهما الآخر، ومع ذلك فقد لا يكون عدد البروتونات والنيوترونات متساويا في النواة، وعندئذ يخلق البرم مجالا مغناطيسيا دقيقا بالطريقة نفسها التي ينشئ بها دوران كوكب الأرض، المجال المغناطيسي الأرضي.

وفي هذه الحالة تتصرف نواة الذرة كما لو كانت قضيبا مغناطيسيا دقيقا ذا قطب شمالي وقطب جنوبي. والذرات التي من هذا النوع هي التي تستخدم في إنتاج الصور بالرنين المغناطيسي النووي، والمثال النموذجي على هذا، ذرة الهيدروجين التي تحتوي على جسيم دون ذري واحد في النواة هو البروتون. ويتوافر الهيدروجين بكثرة في جميع أنواع الأنسجة المكونة لأجزاء الجسم البشري. وفي الظروف العادية توجد ذرات الهيدروجين في الجسم بحيث تتجه مغناطيساتها عشوائيا، ويعني ذلك أنها تلغي بعضها بعضا، ومن ثم لا ينتج عنها أي تأثير مغناطيسي.

ولكن عند وضع الجسم البشري في مجال مغناطيسي خارجي قوي وثابت، فإن هذه الأنوية تتجاوب مع قوة المجال المغناطيسي الخارجي بأن تنظم نفسها باتجاهه بإحدى طريقتين، اعتمادا على الطاقة المختزنة: إما في اتجاه مواز للمجال المغناطيسي Parallel في حالة الطاقة المنخفضة، أو في اتجاه مضاد له في حالة الطاقة المرتفعة أو كما يسمى "موازي مضاد" Anti - Parallel. ولكن هناك دائما توازنا حيويا بين حالتي الطاقة المنخفضة والمرتفعة، يحددها المجال المغناطيسي ودرجة الحرارة.

وظائف أخرى غير التصوير

والرنين المغناطيسي النووي لا يستخدم فقط في إنتاج الصور، إذ باستخدام برامج كمبيوترية مختلفة، يمكن لجهاز الرنين المغناطيسي أخذ قياسات للعمليات الكيميائية التي تحدث في الأنسجة الحية للجسم البشري.

وذرة عنصر الفوسفور أيضا لها رقم فردي في الجسيمات دون الذرية داخل النواة (31)، ولهذا يمكن فحصها بدلا من نوأة الهيدروجين. والفوسفور هو أحد المكونات المهمة لأدينوسين ثلاثي الفوسفور ATP، وهي مادة كيميائية لها دور في عملية تجهيز الطاقة في العضلات والأنسجة الأخرى في الجسم البشري للاستخدام، وقد أمكن بالفعل للقياسات الكيميائية الحيوية باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي النووي، اقتراح طرق لعلاج مشاكل العضلات.

ومن المتوقع أن يكون التصوير بالرنين المغناطيسي النووي قادر، على إظهار وفرة نوع معين من الأنوية في أنسجة الجسم البشري، حيث توضح صورة الكثافات المختلفة لذرات الهيدروجين وتأثيراتها المتبدلة مع الأنسجة المحيطة بها، ولأن الهيدروجين يحدد المحتوى المائي للجسم البشري، فإن الأطباء يمكنهم استخدام الصور في التمييز بين الأذسجة المختلفة.

كذلك تبين صور الرنين المغناطيسي النووي، بيئة الجزيئات المحتوية على الأنسجة، وهذا الأسلوب المتخصص له إمكانات هائلة، وقد تم بالفعل الحصول على صور مثيرة ودقيقة لأنسجة المخ والأعصاب أفضل من الصور المأخوذة بطريقة التصوير بواسطة الكمبيوتر، بالإضافة إلى أن الرنين المغناطيسي له قيمة لا تقدر في اكتشاف عضلات القلب المريضة، والأمراض التي تؤثر على مركبات الدهون المحيطة بالأعصاب.

وإذا كانت أشعة إكس تصور عظام الجسم البشري، ولا تعطي إلا معلومات ضئيلة عما يحدث داخل الخلايا الحية، فإن الرنين المغناطيسي النووي يعطينا صورا واضحة وملونة لهذه الخلايا، بحيث يمكن تحديد مكان ومدى انتشار المرض داخل الجسم. وهناك العديد من الحالات المرضية التي يمكن أن يستخدم الرنين المغناطيسي النووي في تحديدها ومنها: أمراض الرئة ومشاكل الدورة الدموية وأمراض الكبد والتحديد المبكر لنجاح عمليات زراعة الكلى ودراسة الأنسجة الكلوية.

التصوير بالرنين المغناطيسي

يتكون جهاز التصوير بالرنن المغناطيسي النووي من مغناطيس هائل مجوف، ذي منضدة بمنتصفه، يتمدد عليها الشخص المطلوب فحصه، ويستعمل مغناطيس كهربي لتوليد مجال قوي جدا (أقوى آلاف المرات من المجال المغناطيسي للأرض)، وله ملف فائق التوصيل يبرد على الدوام بواسطة الهليوم السائل، وعندما يشتغل الجهاز ويكون الشخص في الداخل، تصطف الأنوية ذرات الهيدروجين التي في جسمه، وكذلك الأنوية الأخرى ذات العدد الفردي من البروتونات والنيوترونات، إما بشكل مواز أو مواز مضاد، بحيث تتجه عالية الطاقة ناحية رأس المريض والأنوية منخفضة الطاقة ناحية أصابع القدمين، وهي تهتز بتردد معين Frequency، وكلما زادت قوة المجال المغناطيسي، زاد هذا التردد.

ولإظهار الصورة المطلوبة يقوم مشغل. جهاز الرنين المغناطيسي النووي بإطلاق موجات راديوية من مصدر راديوي بزاوية عمودية على المجال المغناطيسي الثابت، فيتغير برم الأنوية من اتجاهه ويحصل على طاقة خلال هذه العملية، ومقدار الطاقة الممتصة هذه يتوقف على الأنوية وقوة المجال المغناطيسي.

وهذه الطاقة الإضافة تنقل أنوية البروتون المنخفضة الطاقة إلى حالة "مثارة" Exctited مرتفعة الطاقة، وعندما "يثير" جهاز الرنين المغناطيسي هذه البروتونات بالموجات الرديوية التي لها تردد البروتونات نفسه، فإن هذه الموجات تدفعها بعيدا عن التوازي، وبمجرد توقف الموجات الراديوية، وفي أقل من أجزأء من ألف من الثانية، فإنها ترجع حلزونيا إلى مكانها الأول مطلقة موجات راديوية ضعيفة خاصة بها، لتعود إلى حالتها الأصلية، وهذا ما يعرف بالرنين Resonance، أي يتم تخليص الأنوية من هذه الطاقة عن طريق موجات راديوية مميزة يطلق عليها تردد لارمر Larmor Frequency، ثم تلتقط هذه الموجات بواسطة جهاز استقبال خاص، وتعتمد خصائص هذه الموجات على العدد المتاح من أنوية ذرات الهيدروجين أو غيرها. ثم تغذى البيانات التي تخرج من جهاز الاستقبال إلى كمبيوتر يقوم برسم لتوزيع الأنوية المسئولة عن إصدار الموجات الراديوية المميزة. وهذه الموجات الراديوية تخبر جهاز الفحص بالكثير من المعلومات، فقوة الموجة توضح مقدار الهيدورجين المتوافر، وغالبا ما يعني ذلك من الناحية العملية مقدار الماء الموجود في الجسم، إلا أن هناك أيضا هيدروجينا موجودا في الدهون وغيرها من الجزيئات. والموجات التي تعطيها بروتونات الهيدروجين الموجود في الماء، تختلف عن موجات بروتونات الهيدروجين في غير الماء، وهذه درجة أخرى مختلفة من المعلومات. ووظيفة الكمبيوتر هنا، السيطرة على جهاز الرنين المغناطيسي النووي وتخزين المعلومات ثم استرجاعها بالشكل المطلوب، وتقديم صور ملونة لداخل الجسم البشري على شاشته.

والزمن الذي تستغرقه نواة الهيدروجين، بعد توقف. الموجات الراديوية المسلطة عليها، وقبل إعادة إشعاعها للطاقة التى امتصتها، عامل مهم جدا، لأنه يحدد نوع الجزىء الذي يحتوي على الهيدروجين، كما أن هناك المزيد من المعلومات التي تتكشف من قياس معدل رجوع النواة إلى حالتها العادية. ويطلق مصطلح زمن الاسترجاء Relaxation Time على الوقت اللازم لاسترخاء النواة، ورجوعها إلى التوزيع المتوازن لها.

مزايا الرنيئ المغناطيسي

إحدى مزايا طريقة الرنين المغناطيسي النووي، أنها لا تتضمن أي إشعاع ضار- كما في حالة الاستخدام الطويل لأشعة إكس- بالإضافة إلى أنه لا يوجد أي أثر سييء معروف لتعريض جسم الإنسان لهذا النوع من المجالات المغناطيسية. أما الموجات الراديوية التي تستخدم في أجهزة الرنين المغناطيسي، فتكون بترددات الموجات القصيرة نفسها التي تستعمل كثيرا في الاتصالات اليومية المعتادة، وهي تخترق أجسامنا طوال الوقت ولا تحدث أي ضرر. أي أن طريقة الرنين المغناطيسي النووي مأمونة بالنسبة للمريض، إلا أن قدرة المجال المغناطيسي للجهاز ضخمة جدا لدرجة أنه من الخطورة أخذ أي جسم حديدي إلى داخل غرفة الفحص، فمثلا مسمار متوسط الحجم قد يتحول إلى قذيفة قاتلة إذا أثر عليه المجال المغناطيسي.

وتتميز أيضا طريقة الرنين المغناطيسي النووي، بأنها الوسيلة الوحيدة المعروفة حتى الآن لإنتاج صور تبين اضطرابات المخ والأعصاب، كما يمكن استخدامها ليس فقط في تشخيص المرض، وإنما أيضا في إعطاء معلوات عن مدى ملاءمة العلاج. ولا يستخدم الرنين المغناطيسي النووي في المجالات الطبية وحسب، ولكن حدث توسع كبير في استخداماته في دراسة البنية الكيميائية والأشكال الجزيئية للمركبات العضوية عموما، وكذلك في دراسة تراكيب ووظائف البروتينات والدهون والتفاعلات الجزيئية في الصناعات النفطية وصناعات اللدائن.

آفاق المستقبل

لا تزال الأبحاث جارية بشأن استخدام عناصر أخرى مثل الصوديوم والفوسفور التي تعطي تغيير خواصها إنذاراً، مبكرا بحدوث جلطة المخ أو السكتة القلبية، كذلك معرفة حدوث أي تغيير في درجة الحموضة داخل الخلية، ومنها يمكن معرفة أن خلايا القلب قد تحولت إلى التمثيل غير الأكسوجيني، ومن كل هذه المعلومات سوف يدرك الطبيب بأن المريض يوشك على الإصابة بجلطة قلبية، فيمكنه تلافيها. كذلك يمكن تصوير الأجسام المضادة المرتعشة داخل الجسم، مما يوفر لطبيب المستقبل أداة قوية لدراسة أمراض مثل البول السكري والحساسية والعقم، كما أنه من المتوقع أن يساعد التصوير بالرنين المغناطيسي النووي في إعطاء معلومات عن عضلة القلب، وتدفق الدماء بالقلب، كما أن قدرة الرنين المغناطيسي على التمييز بين أنواع الأنسجة تعني أنه ربما يمكن استخدامه ليخبرنا، هل الورم الذي تحت الفحص سرطاني أم لا، إضافة إلى أنه بإمكان أجهزة الرنين المغناطيسي النووي دراسة أنوية أخرى مثل الكربون والحديد.

لقد بدأ الكثي من. مستشفيات العالم- ومنها مستشفيات في بعض الدول العربية مثل مصر استخدام أجهزة الرنين المغناطيسي النووي لفتح نافذة على داخل الجسم البشري الحي، لما تتميز به من دقة تامة في تشخيص الأمراض. لهذا أطلق الأطباء على الرنن المغناطيسي النووي.. الأمل الجديد للمرضى.