أمل دنقل: الشاعر العمودى

... لو أن كريمة...

الصمت والخلاء وغفوة القيلولة كانت جدار الأمان المستوي الذي علق عليه أهل "غبة البوص" المنسيون بين البحر والجبل احتمال حدث يهبط من حيث لايدرون، ويضرب قدرات تخيلهم عن الممكن والمجازي.

مومياء بركانية مقمطة بشهوة الاحتراق تندلع نحو البحر، تطلق صراخاً ممتداً لاحد له يسد فوهات فراغ العصاري، يطلق دموع وآهات المبلدين جامدي الملامح، ويطير ببطاطين صوفية سوداء تخلفت عن جيش قديم تولى إثر ثغرة صنعها بيديه لقدميه... فأعاقهما.

كتلة نارية شهابية كانت كريمة القاهرية حلم العيون المغلقة، تحملها النيران تسقطها في البحر كطعم خالص خاص لصيد نادر، يتصارع البحر والنيران التي تأكل كريمة مع المتفرجين الصامتين الصاخبين، كل راغبها، ينتصر البحر ويضم كريمة بعينيها السوداوين وشفتيها الطليتين وجسدها المتمرد، إلى مجموعته المنتقاة.

يخرج "عم" كريمة حاملا جالون جاز وبعض نار وكل وجهه عينان كبيرتان محايدتان.

تحول القبضات السمراء الجافة بين الرجل وكريمته.

اللحظة الداهمة الرعناء ابتلعت كل ما لقيها، كالولد المباغت في نهاية اللعبة كريمة

أسرار سيدة التي لاتعرفها غير كريمة

عقل عمها

حلم عبدالناصر بإتمام نبت شاربة لعلّ إلى عشقه تلتفت كريمة

ثورة إسماعيل التي تفجرت حين رآها مع تشارلز الأمريكاني بداخل سيارة قوات حفظ السلام الجيب، فركض خلفها يختنق ويتعثر، يرجم سطح السيارة المارقة بقطع الصخر المتساقط من الجبل، يسب ويزبد كبحر مهتاج.

ـ لاحول ولاقوة إلا بالله.

ـ لاحول ولاقوة إلا بالله.

ـ لاحول ولاقوة إلا بالله.

اللحظة أيضا كشفت عن عته مفاجئ فردي أصاب المتفرجين ثم دهاء أكثر حسماً في ذبح الغباء المنحوت على سمرة وجوههم.

ـ البنت لحست عقله ببياضها.

ـ مصراوية على كيفك.

ـ الراجل انتقم لشرفه، كريمة كانت خائبة.

ـ كانت بتزور الأجانب بتوع الـ يو. إن رجل واحد استطاع أن يميل بعصا النهاية ويصفع بها ألسنة المتطفلين المتحذلقين.

ـ ياللا يا إخوانا.. المولد انفض.. سيبوا الراجل لحاله، وهموا بينا نطلع جثة البنية وندفنها.

انسلتت "سيدة" تندفع نحو السلك الشائك الفاصل بين مستعمرة شركة البترول وبيوت الكابنون القليلة المطلة على الخليج الساكن، تنزلق داخل القارب القديم المنحشرة عن صدئه مياه الغروب الموشح بالعزاء، عرش مغامراتها وكريمة الذي سيثير شجناً أبدياً.

يصعد عبدالناصر إلى كنبته الصغيرة المركونة تحت النافذة المطلة على نافذة حجرة عم كريمة، يجذب شحمة أذنه المثقوبة التي لن تسمع بعد اليوم غناء كريمة المتساقط كحبات توت ناضجة، ولاصرير زحزحتها للأثاثاث الثقيلة، غناء كان يشبه صوت باخرة بعيدة تنادي على شاطئ انمحى رصيفه، يدفن وجهه في وسادته القصيرة المبقعة بزيت شعره ودهانات بثور بشرته.

يبتلع إسماعيل ثوراته المقبلة وعشقه المهدور كقرض من مرابٍ عتيد، يغني "شابة يا أم الشعر ليلي والجبين شق النهار"، فينطفئ ويعود للكلمات التي يبيعها ويشتريها مع مخلفات السفن التي تعبر القنال.

يدخل عم كريمة الحمام ليستحم من ظل كريمة وأثرها، مصحوباً بوعود الجيرة

ـ ما تخافش ياخضر، حنقول كريمة حرقت نفسها، حرام تروح فيها.

يجد شعرات كريمة ملتصقة ثعبانية في الحوض الأبيض لم تنزلق بعد فيعوي خارجاً من البيت ويظل سائراً بين البحر والجبل وإن سكن فإلى كشك عم عبيد الخشبي يحك ظهره في أخشابه الطرية وفي أنفه رائحة احتراق كريمة التي لايقول عنها أحد سوى...

ـ لو كانت كريمة...؟

 

 

أمينة زيدان

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات