تاريخ فلسطين في طوابع البريد عرض: أمير الغندور -العربي

تاريخ فلسطين في طوابع البريد

قضى المؤلف الفلسطيني الأصل نادر خيري الدين أبو الجبين، أكثر من أربعين سنة يجمع المادة الموجودة في هذا الكتاب، فقد عشق طوابع البريد، وتطورت لديه هواية جمعها فأصبح يجد أسعد لحظات حياته في ممارستها. وليس هذا بمستغرب على فلسطيني ولد عام 1950، خارج فلسطين، فكانت طوابع البريد الملصقة على الرسائل القادمة إلى والديه من الوطن البعيد تمثل بالنسبة إليه كطفل نصيبه الخاص المخول له امتلاكه من كامل أرض وطنه المغتصب.

إن صدور هذا الكتاب يبين كيف أن الهوايات، مهما كانت بسيطة، يمكن أن تلعب دورا مهما في حياة أصحابها، بل وفي حياة الشعوب أيضا. في ما يزيد عن 400 صفحة، ومجلد ضخم بصفحات ملونة، عن مؤسستي «الدراسات الفلسطينية» و«التعاون» في بيروت عام 2001، تحت عنوان: «تاريخ فلسطين في طوابع البريد»، وهو باللغتين العربية والإنجليزية.

تمثل طوابع البريد أيقونات زمنية، تثبت الزمن في بصمات ورقية ملونة، فطابع البريد هو في الوقت ذاته علامة على سيادة الدولة المصدرة له، وكذلك علامة على الخدمات المدنية التي تقدمها لرعاياها ، فضلا عن كونه علامة على علاقات الدولة مع الدول الأخرى والعالم. طابع البريد هو باختصار علامة تداولية - وفق مصطلحات الفلاسفة المعاصرين - وغالبا ما يشبه طابع البريد ويحاكي عقلة الأصبع. فهو من أصغر العلامات التداولية التي تنتجها الدولة، ولذا فهو أكثرها أيقونية ولفتا للأنظار. وفي هذا يكمن جزء من سر افتتان الصغار والفتيان والكبار به، فيكاد طابع البريد أن يكون أيقونة الدولة الأكثر ارتباطا بحياة الفرد العادي. فحتى علم الدولة بما له من جلال وتقدير قد تقتصر لحظات اقتراب رعايا الدولة منه بشكل حميم على مناسبات التمثيل الدولي كالمباريات الموسمية، بينما يظل في أغلب الأحوال يرفرف في مستويات تعلو على المواطنين العاديين هناك فوق أسطح البنايات أو في مقدمة السيارات وزوايا المكاتب. أما طوابع البريد فهي دوما هناك عند أطراف الأصابع، وفي أقرب الأماكن حميمية، وكثيرا ما تؤتمن على الأسرار المبثوثة في الرسائل. كما تمتاز الطوابع بميزة أخرى أشد أهمية وتفوقا على سائر علامات الدولة. فبالرغم من أن طوابع البريد علامة ومن طبيعة العلامة أن تظل ثابتة أو حتى جامدة في كثير من الأحيان، فإنه لا يثبت أو يجمد في طابع البريد سوى إطاره المربع المشرشر، بينما تتغير ألوانه ورسوماته، كما تتغير فصول الطبيعة وألوانها، لتعبر عن تطور أحداث الدولة وسيرورتها. فبينما لا تخبر ألوان العلم وكتله اللونية إلا عن نفسها، كما لا تعطي الناظر أي انطباع عما يدور في الدولة، فإن طوابع البريد تعبر عما يحدث في الدولة، وتعكس آمالها ومسارات حياتها من خلال الرسومات التي تختار وضعها داخل إطار الطابع.

هكذا يمكن اعتبار طوابع البريد أكثر علامات الدولة حيوية على الإطلاق. وفي هذا جزء مهم من فتنتها التي تبرر هوس الكثيرين بها.

تحتاج طوابع بريد فلسطين إلى درس وتعمق لما لها من تأثير وما تحمله وما ترسله من إشارات سيميائية، فطوابع البريد الفلسطينية تحكي بلغتها الإشارية قصصا كثيرة وسرديات عتيدة لا تقل قوة ولا تأثيرا ولا عظمة عن أجمل القصائد التي قرضت عن عدالة القضية الفلسطينية ولا عن أقوى القصص التي رويت لتؤكد إرادة الصمود الفلسطينية. فهذه النقطة بالذات لم يتم استيفاؤها أو الكتابة عنها، بل ولم يتم الشروع بها أصلا، في درس طوابع البريد.

ولكن الدرس الحقيقي هو ما يتعلمه المسافر عبر صفحات كتاب «تاريخ فلسطين في طوابع البريد». فخلاله يتعرض الناظر إلى لمحات سريعة وقبسات ملهمة من سيرة تاريخ فلسطين العزيزة.

تلك الدقائق التي يقضيها الناظر في السياحة عبر صفحات الكتاب قد ترسل الدموع مترقرقة إلى العيون، كما يحدث دوما عندما تكون الأشياء أقرب إلى قلوبنا مما تبدو في الصورة.

يقع الكتاب في خمسة أجزاء انقسم كل جزء منها إلى ثلاثة أو خمسة فصول، ويؤرخ لأهم الأحداث التاريخية الفلسطينية. وقد حوى رسومات لكل الطوابع الفلسطينية والعربية الخاصة بفلسطين بكل أشكالها وألوانها وأحجامها كما صدرت بالأصل، وكذلك صور الأختام التي استخدمت على الرسائل، حيث كان هناك ختم لكل مدينة من مدن فلسطين له شكله الخاص والمميز، ودام استخدام هذه الأختام حتى افتتاح عدد من مكاتب البريد في الفترة من 1865 إلى 1870، في كل من نابلس وغزة وحيفا ويافا وطبريا. ويعرض المؤلف طوابع البريد التي استخدمت في فلسطين إبان حقبة الوجود البريطاني بفلسطين، والتي امتدت من فترة الاحتلال العسكري منذ 1917 حتى نهاية الانتداب في 1948. كما قدم طوابع الأجرة والطوابع العربية والفلسطينية التي استخدمت داخل مدن فلسطين، وكذلك التي صدرت في فترة الحكمين الأردني والمصري. كما عرض المؤلف الطوابع التي صدرت عن المقاومة الفلسطينية والملصقات التي تتعلق بالقضية الفلسطينية والتي طبعت عليها ذكريات المقاومة كذكرى معركة الكرامة.

وقد دعا كثير من المهتمين بالشأن الفلسطيني إلى إعادة نشر هذا المجلد، مع طباعته على ورق أقل كلفة، حتى يصبح بمقدور القارئ العادي، وليس فقط الهاوي المختص، أن يحصل عليه ويقتنيه، ويقضي بين دفتيه تلك اللحظات الضرورية لإنعاش الذاكرة واستعادة الوعي، والتي صارت عزيزة في عالم كعالمنا المعاصر. ولذلك كانت هدية «العربي» لهذا الشهر إسهامًا في نقل هذا الجهد وتحية له، سنشارك قراء ربع مليون نسخة في توجيه الشكر إلى مؤلف الكتاب.

 

عرض: أمير الغندور -العربي