شاعرة والمناضلة فدوى طوقان 1917 - 2003

الشاعرة والمناضلة فدوى طوقان 1917 - 2003

عندما نذكر الشعراء المبدعين الذين يعتز تاريخ القرن العشرين بأعمالهم، والفلسطينيين خاصة، يبرز اسم فدوى طوقان، التي وُلدت في نابلس عام 1917 وتوفيت فيها نهاية عام 2003 في أسرة محافظة وشديدة التمسك بالتقاليد القديمة، مؤلفة من عشرة أولاد، ستة ذكور، وثلاث إناث، كانت السابعة بينهم، وعوملت بقسوة جعلتها تشعر بأنها غير مرغوب بها. عندما بلغت عامها الثامن، فرض أبوها عليها الحجاب، وسجّلها في مدرسة للبنات حيث تلقت العلوم الابتدائية والدينية، وقرأت القرآن الكريم وحفظت العديد من آياته، ولما وصلت إلى المرحلة الثانوية، وبلغت السنة الخامسة عشرة من عمرها، لمح والدها شابًا يافعًا اعترض طريقها وهي عائدة من المدرسة إلى البيت، وقدّم لها زهرة فلّ وانصرف، فمنعها من الخروج من البيت، بل سجنها فيه مكرهةً ومتألمةً للظلم الذي أحاق بها. في تلك المرحلة، عطف عليها أخوها الشاعر إبراهيم طوقان، الذي كان أكبر منها باثنتي عشرة سنة، وأرشدها لمطالعة كتب التراث الموجودة في مكتبته، فالتهمتها، وآثرت عليها دواوين الشعر العربي، التي أضحت ملاذها الوحيد. بعد نحو سنة، أطلعته على قصائد كتبتها فنصحها بحفظ أشعار المجيدين وشجعها على الاستمرار بكتابته، مما دفعها لإرسال قصيدتين إلى مجلة «الأمالي»، التي كان يصدرها في بيروت الدكتور عمر فروخ فنشرهما لها وقرظهما الشاعر «أبو سلمى» عبدالكريم الكرمي، وقد وقعت إحداها باسم «فدوى»، والثانية باسم مستعار هو «دنانير». في عام 1941، فُجعت فدوى بوفاة أخيها وصديقها إبراهيم طوقان، فرثته بقصيدة هذا بعض مما جاء فيها:

(حياتي دموع
وقلب ولوع
وشوق وديوان شعرٍ وعود
وفي ليلِ سُهدي
يُحرِّكُ وَجْدي
أخٌ كان نَبْعَ حنانٍ وحبّ
وكان الضياءَ لعيني وقلبي
فهبَّتْ رياحُ الردى العاتية
وأطفأت الشعلةَ الغاليةْ)

توفي والدها بعد ذلك، فتحررت من القيود التي كانت مفروضة عليها، وأرسلت لمجلة «الرسالة» في القاهرة قصائدها، فأعجب صاحبها الكاتب الكبير الأستاذ أحمد حسن الزيات بموهبتها، وشاطره الإعجاب بها الشاعر المرموق علي محمود طه، وأهدى إليها ديوانه: «ليالي الملاح التائه»، وسجّل عليه عبارات التقدير لشعرها. في عام 1946، نشرت دراسة لشعر أخيها إبراهيم، وملخصًا لسيرة حياته القصيرة، ثم بضعة دواوين كان أولها: «وحدي مع الأيام»، عام 1952، و«وجدتها» عام 1956 و«أعطنا حبا» عام 1960، جُلُّ قصائدها عاطفية وإنسانية، كان بعضها من الشعر العمودي، وأكثرها ملتزم بالتفعيلة أسوة بشعراء عصرها. كان لفدوى ابن عمّ يدرس في جامعة أكسفورد ويراسلها معربًا عن إعجابه بشعرها فدعاها لزيارته وسافرت إلى إنجلترا في أوائل عام 1963 وبعدما قضت معه أسبوعًا، وقدمت له الدواوين التي نشرتها، ذهبت إلى لندن وأقامت فيها عشرة أشهر، درست خلالها اللغة الإنجليزية وزارت مقاصفها ومكتباتها وحدائقها. في لندن، خفق قلب فدوى للحب لأول مرة فروت قصة ذلك الحب العفّ في قصيدة عنوانها: «هل تذكر?» مؤثرة للغاية هذه مقاطع منها:

(لقاؤنا، ودربُنا الأرْحَبْ
وشاطئُ النهر
والعيشُ في حديقة الزَّهْر»
وحارسُ الحديقة الطَيٍّبُ
والمقعدُ الأخْضَرُ
هل تذكرُ؟
لقاؤُنا، إذ تَسْبِقُ الموعِدا
خُطايَ، تستهدفُ عَبْرُ المدى
رُكنًا هناك
على رصيف الشارِعِ الصاخِبِ
حيثُ ألقاكَ،
سَبَقْتَ مثلي ساعة الموعدِ
هناكَ تَغْدو فَرْحتي فرحتين
وأقْطَعُ الشارِعَ في لَمْحَتينْ
كأن في خطوي جناحَيْن
هناكَ ألقاكَ
في قَلقِ الانتظار
مُنْفَعِلاً، مُسْتثار،
تهتفُ: أبْطأْتِ! وفي لحظةٍ
يفقدنا الرصيفُ روحَيْنِ
مع الهوى طائرين
وننثني نَحْوَ المدى الأَبْعَدِ
قلبًا إلى قلبٍ، يدًا في يَدِ
هل تذكُرُ؟)

ولكن قدرها القاسي كان لها بالمرصاد إذ بلغها نبأ وفاة أخيها الدكتور نمر طوقان، الأستاذ في الجامعة الأمريكية ببيروت إبان انفجار الطائرة، التي كانت تقلّه بصحبة رجل الأعمال اللبناني السيد إميل بستاني فعادت إلى نابلس لتشهد تفاقم الأحداث المروعة الجارية في فلسطين بين سكانها وقوات الاحتلال الصهيوني. آنذاك، جرى تحوّل ملحوظ في شعرها الذي نذرته للمقاومة، وعبّرت فيه عن معاناة بني قومها، لاسيما الأطفال الأبرياء منهم، فهي، وإن لم تتزوج ولم تنجب كانت أمًا لجميع الأطفال، ترجمت حبّها لهم بأجمل القصيد.

لقد أضحى شعرها السياسي سلاحها الوحيد في معركة النضال الطويلة، فاتصلت بشعراء المقاومة: محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، وعقدت معهم اجتماعات عدة، مع أنها كانت مراقبة، وترجمت رفضها للاحتلال بقصائد لاهبة نشرتها في دواوين عدة صدر أولها: «أمام الباب المغلق» عام 1968، والثاني بعنوان: «الليل والفرسان» عام 1969، والثالث بعنوان: «على قمة الدنيا وحيدًا» عام 1973، والرابع بعنوان: «كابوس الليل والنهار» عام 1974. وفي عام 1975 نشرت فدوى كتابًا عن حياة الشاعر الشهيد وائل زعيتر ونضاله. ثم نشرت بعد عشر سنوات سيرتها الذاتية تحت عنوان: «رحلة جبلية، رحلة صعبة»، وينبغي أن أذكر كذلك كتابًا نشره الدكتور والباحث الأردني يوسف بكار بموافقتها، وما جمع مقالات وقصائد لها وأصدره في عمان عام 1993 تحت عنوان: «الرحلة المنسيّة».

إن ما يلفت الانتباه في حياة هذه الشاعرة المبدعة، تفاؤلها وأملها بظفر شباب المقاومة وشاباتها الذي عبرت عنه بالأبيات التالية:

ستنجلي القمرةُ يا موطني ويمسحُ الفجرُ غواشي الظُّلَمْ
والأمل الظامئُ مهما ذوى لَسَوْفَ يُروى بلهيبٍ وَدَمْ
هو الشباب الحُرُّ ذخر الحِمى اليَقِظ المُستنْفَرُ المنتقِمُ


وعلى الرغم من ذلك التفاؤل النابع من إيمانها، كانت فدوى في حيرة أمام لعبة القدر، فترجمتها بما يلي:

نفسي مُوزَّعةٌ معذّبة بحنينِها بغموضِ لَهْفَتِها
شوقٌ إلى المجهولِ يدفَعُها مُقْتَحِمًا جدرانَ عُزْلتها
شوقٌ إلى ما لَسْتُ أفْهَمُهُ يدعو بها في صَمْتِ وِحْدَتها
أَهيَ الطبيعةُ؟ صاحَ هاتِفُها، أَهِيَ الحياةُ تهيبُ بابنتها؟
ماذا أُحِسُّ؟ شعورُ تائهةٍ عن نَفْسِها تَشقى بِحيرَتها


لقد وافت المنية فدوى في بيتها بنابلس في أواخر شهر ديسمبر عام 2003 ، ولكن ذكراها العطرة خالدة في نفوسنا بفضل أعمالها الشعرية المتميزة بجمالها وصدقها، إلى جانب دورها المشرّف في المقاومة الفلسطينية الباسلة. لقد أسفت كثيرًا على ضياع الفرصة للقائها شخصيًا الذي كنت أتوقعه أن يحصل في أبوظبي بمنزل الشيخة موزة بنت حامد حرم الشيخ هزاع آل نهيان عام 1997، أيام لبيت دعوة «المجمع الثقافي» لإلقاء محاضرة عن «مي زيادة وجبران خليل جبران»، لأن ظروفًا طارئة منعتها من مغادرة نابلس، غير أنني تلقيت من فدوى رسالةً مؤرخة في 20 / 9 / 1998 مرفقة بقصيدة رثت فيها مي زيادة، كانت قد نشرتها بمجلة «الرسالة» عام 1941 وهذه صورة عنهما:

نابلس 20 سبتمبر 98

«أديبتنا الكبيرة، الصديقة الغالية سلمى:

تحية خالصة من قلب يحبك كل الحب، وبعد، فيسعدني أن أوافيك بمرثاتي لنابغة العربية مي. لا أذكر عدد مجلة الرسالة الذي نُشرت فيه القصيدة، ولكن المؤكد أنه أحد أعداد سنة 1941، عام وفاتها، وعام وفاة شقيقي إبراهيم (2 مايو 1941). لن أنسى الحزن الذي غمر قلبي يوم نعتها الصحف، كانت فجيعتي بفقد إبراهيم تحرق كياني الروحي والجسدي، وكنت أشتهي الموت واللحاق به في أسرع وقت، وحين قلت في رثائي لمي:

وأنظر في إثره العابرين فأشتاق لو كنت فيمن عبر


كنت أعني ما أقول حقًا وصدقًا.
صديقتي الحبيبة أودعك على أمل أن تتاح الظروف فنلتقي بإذن الله».
بكل المودة والإعزاز
فدوى طوقان

«رثاء مي»

طرحت الحياة وعبء الحياة يا سيرة من كبار السيرْ
نعاك النعيُّ إلى الخافقين فعلمني كيف يهوي القمر
مضيت كأن لم تكوني ضياءً ينير القلوب ويجلو الفكر
لعمرك لو قام قبل النشور رفات تلاشى وعظمٌ نخر
لقامت «سكينة»1في اثر «عُمرة»2 تستقبلانك دون الحفر
نهار الثلاثاء يا ميّ حال محيّاه فهو شج مكفهر
لأقسم بعدك ما أن يرق نسيم أصائله والبُكَر
تفقد مجلسك المستطاب وحلو الحديث وأُنس السمر
وفكرًا يفيض على السامرين جمال خيالاته والصور
وإذ يتنثّر طل الحديث على المنصتين نثارَ الزهر
فتعبق حولك دنيا القلوب ودنيا العقول بنشْر عطر
وتهفو النفوس ويعنو لسحر بيانك كل بيانٍ سحر
مآثرك الغرُّ تنبئ كيف يُخلَّد كل عظيم الأثر
كأني بها قبست من طَهور سيناء يا ميّ تلك الغرر
أهذي (صحائفك) المشرقات أم الذهن ضاء خلال السّطر
وهاتيكِ اهي (سوانح) أم ثاقب الفكر جلَّى طباع البشر
خبرت الحياة وحالاتها فبينت أحكامها والعبر
تغلغل روحك في سرها وكشّف من كنهه ما استتر
وإذ جزت يا مي أسفارها وما هي إلا سبيل وَعر
إلى عالم دقَّ تفسيره وليس لوارده من صَدَر
فكيف وحدت لديه المقام وكيف يُصرّف فيه العمر؟
بربك هل تستريح إليه القلوب وتنعم بالمستقر؟
بنفسي نزوعٌ إلى خُبْره فهاتي حديثك واروي الخبر
هنالك أودعت نفسًا صفت إذا نغلت أنفسٌ من كدر
أخ(3) إن عثرت أقال عثاري وكان ملاذيَ والمدَّخر
أحنّ وأذكر آلاءه فيصدع قلبي عذاب الذِّكَر
وانظر في إثْره العابرين فأشتاق لو كنت فيمن عبر
هنا ضقت بالعيش ذرعًا فقرّي هنالك عينًا بطيب المقر
تُظلّلك من سدرة المنتهى غصون دنا ظلُّها وانتشر
فلا النفس توهن من شقوةٍ ولا الروح يا مي تشكو الضجر


------------------------------------
* في الحادي عشر من أغسطس 2006، وتحت أتون قصف دولة الاحتلال الاسرائيلي لبيروت، رحلت الكاتبة السورية سلمى الحفار الكزبري التي ارسلت هذا المقال للعربي، وننشره تحية للشعر والنضال، باعتباره وثيقة حية
(1) سكينة بنت الحسين: عرفت بمجالسها الأدبية.
(2) عُمرة زوجة الشاعر دعبل من أشهر نساء العرب في الشعر والأدب. كان الرجال يجتمعون حولها للمحادثة وإنشاد الشعر.
(3) شقيقي إبراهيم توفي في 2 مايو 1941.

 

سلمى الحفار الكزبري *