صراع العلم والمال وأهل الثقافة البؤساء هالة فؤاد

صراع العلم والمال وأهل الثقافة البؤساء

لا يمكننا تجاهل مرارات العلاقة المحبطة بين المثقف أو أهل العلم والمعرفة، والسلطة السياسية فى العصر الوسيط، خاصة فيما يتعلق بمسألة المنح والجود بالعطايا، أو ذلك الجانب المرتبط بالعلاقة المادية بين المثقف وصاحب السلطان، فى زمن انعدمت فيه المؤسسات التى تحمى المثقف، وتضمن له حياة إنسانية كريمة، فهو إذا لم يجد من يتولاه من أهل النخب الاجتماعية، قد يموت جوعا.

وصف أبو حيان التوحيدى نفسه فى رسالته للقاضى أبى سهل بعد حادثة حرقه للكتب فى نهاية حياته، قائلاً : «إنى جمعت الكتب أكثرها للناس، وطلب المثالة منهم، ولعقد الرياسة بينهم، ولمد الجاه عندهم، فحرمت ذلك كله...ولقد اضطررت بينهم بعد العشرة والمعرفة فى أوقات كثيرة إلى أكل الخضر فى الصحراء وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، إلى بيع الدين والمروءة، وإلى تعاطـى الرياء بالسمعة والنفاق، وإلى مالا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم، ويطرح فى قلبه الألـم».

وهكذا لم يكن لدى أهل العلم والمثقفين أى خيار أو بديل بعيدا عن دوائر النخب، وعطاياهم، اللهم إلا ارتضاء العمل فى مهن ذات سمعة سيئة مثل مهنة الوراقة مثلا، والتى كانت قدر أبى حيان البائس، حيث أسماها(حرفة الشؤم). وبالطبع لم تكن حرفة الوراقة مأمول التوحيدى؛ حيث كان أكثر طموحا من ذلك، فضلا عن كونها حرفة مضطربة، ودخلها متفاوت ولاتعد موردا للرزق الوفير، بل إنها لا تضعه بين المتقدمين من مثقفى عصره، بل تدرجه فى طبقة ينظر إليها كثير من الناس باحتقار، وحادثته الشهيرة مع ابن عباد خير دليل على ذلك، حيث قام التوحيدى ليحييه، فنهره قائلا: اقعد فالوراقون أخس من أن يقوموا لنا. بل إنه يروى فيما يروى، أنه لقى زيد بن رفاعة ذات مرة فى الوراقين فاستثاره للحديث فى إحدى المشكلات، فما هش له ولااكترث به، فقال التوحيدى، معللا هذا : وما رآنى أهلا للجواب!!

ومن اللافت حقا أن يشتغل بالوراقة، وهذا حالها بعض الكبار من مثقفى عصر التوحيدى مثل يحيى بن عدى والسيرافى وهو أمر له دلالته الواضحة حول وضعية المثقف المؤسية، فى ذلك الزمان، إن لم يجد الزمان عليه بمن يتولاه ويضمن له رغد العيش الكريم.

ومن النصوص اللافتة، بل الموجعة فى هذا الصدد، ما أورده التوحيدى عن أبى بكر القومسى الفيلسوف، الذى كان بحرا عجاجا، وسراجا وهاجا، وكان من الضر والفاقة ومقاساة الشدة والإضافة بمنزلة عظيمة، عظيم القدر عند ذوى الأخطار، منحوس الحظ منهم، متهمًا فى دينه عند العوام، مقصودًا من جهتهم - فقال لى يوما: «ما ظننت أن الدنيا ونكدها تبلغ من إنسان ما بلغت منى ! إن قصدت دجلة لأغتسل منها، نضب ماؤها، وإن خرجت إلى القفار لأتيمم بالصعيد عاد صلدا أملس... قلت له: لو قصدت ابن العميد، وابن عباد عسى تكون من جملة من ينفقان عليهم، وتحظى لديهما، فأجابنى بكلام منه: معاناة الضر والبؤس أولى من مقاساة الجهال والتيوس، والصبر على الوخم الوبيل، أولى من النظر إلى محيا كل ثقيل... فقلت له : ما أعرف لك شريكا فيما أنت عليه، وتتقلب فيه، وتقاسيه سواى... لقد تمكن منى نكد الزمان !!»

ولعلنا لسنا فى حاجة إلى التعليق على هذا النص الجلى المسكون بقسوة المفارقة الكامنة فيه، والمبرزة لمأزق المثقف الكبير المطرود قسرا من فضاءات النخب الغنية وأصحاب السلطان، والذى بلغ به اليأس والتشاؤم أقصاه، حتى أصبح يستوحش كل ما سواه، بل يراه قد وجه عدوانه إزاءه، حتى الطبيعة لم تعد محايدة إزاءه أو متناغمة معه لكنها تكايده بدورها وتمارس عليه قمعا كأنما هو مستهدف فى مؤامرة كونية تحاك ضده من الكافة، وقد حكم عليه بسوء الحظ، ومعاناة الضر والبؤس رغم كرامته العلمية، ومواهبه الراقية الفائقة. ومن الملاحظ عمق معاناة هذا المثقف الكبير الذى يحتمل قسوة العيش على سؤال اللئام الجهال التيوس الثقال!! وبالطبع، يستدعى التوحيدى دائما موجدته الذاتية عبر أقرانه وشبهائه، ويتجلى حضوره المؤسى عبر مراياهم الكاشفة الموجعة!! ولعلها الصيغة الممكنة لمعاناة الحظ النكد من خلال صياغة مساحة التشابه الحميمة كمساحات للمواساة ومشاركة الأسى مما يخفف وطأتها على الذات !! ومن المثير للانتباه هنا تلك الجملة العارضة عن علاقة المثقف بالعامة الذين يستهدفونه بهجومهم واتهامهم فى دينه وعقيدته وهى إحدى مآسى مثقف العصر الوسيط!!

التقتير على أهل العلم

ولعلنا نلاحظ كيف ينطوى موقف المثقف العقلانى على تناقضه اللافت، فبينما يعبر عن معاناته، ومثقفى عصره الكبار من طغيان هؤلاء الأغنياء والحكام المستلبين تماما فى شراك الغنى والبذخ الدنيوى الفاحش، ومباهج السلطة وغواياتها بينما يقترون على أهل العلم والجدارة والاستحقاق، ويدينهم ويفضح سوآتهم، فإنه لا يكاد يختلف جذريا عنهم !! ذلك أن وعى التوحيدى المؤسى بغفلة الاستبداد السلطوى ينطوى على وعيه بمأزقه الخاص، مأزق طموحاته الدنيوية التى دفعته نحو هذه السلطة محتملا غرورها الزائف، ساقطا بدوره فى غفلة مشابهة، لا تخلو من حضور نرجسى متضخم للأنا المعرفية حائلا دوما دونه، ودون تحقيق طموحاته الواسعة؛ حيث كان يصطدم دوما بالآخر السلطوى!!

وبالطبع، فإن ما يعنينا فى هذا السياق هو كيف عاش المثقف العربى الوسيط، مثقف القرن الرابع الهجري، صراعه المأساوى والمفروض عليه ما بين كرامة العلم، ووطأة الحاجة إلى المال تطلعا للعيش الكريم، وسعيا وراء الأمان والحماية من غدر الزمان وأهله، فضلا عن الطموح لنيل الوفرة ومباهج الدنيا وملذاتها . إنه الأمر الذى سيدفع المثقف لممارسة دفاعية إزاء أهل النفوذ والمال والجاه، إزاء النخبة السياسية الاجتماعية، وأهل الثراء الجديد؛ حيث يوضع العلم وقيمته وسطوته إزاء المال ومعاييره ومباهجه، خالقا تعارضا حادا بينهما، يسعى فى نهاية الأمر لقلب التراتب، وإعلاء قيمة العلم على المال، بل إبراز احتياج النخب لأهل العلم، لا لمدحهم وستر عيوبهم والدفاع عنهم فحسب بل لمنحهم مشروعية الوجود وتأسيس صورتهم وحضورهم الاجتماعى الفعال.

يقول التوحيدى فى مقابساته: «متى وجدت عالما وجدته خفيف المال، ومتى وجدت موسرا وجدته خفيف البصيرة».

كما يتساءل فى «الهوامل والشوامل» عن الفرق بين الرزق والملك؟ ثم يقول: فقد قال لى الشيخ من الفلاسفة، وقد سمعنى أشكو الحال ـ ياهذا: أنت قليل الملك كثير الرزق، وكم من كثير الملك قليل الرزق، احمد الله عز وجل. وبالطبع فهو يعنى بالملك هنا(المال أو ما يتملك به من ممتلكات دنيوية)أما الرزق، رزق الخالق للمخلوق، فيعنى به المعرفة والعلم والحكمة التى هى وراثة النبوة بصورة ما.

أما فى «الإمتاع والمؤانسة»، فيستشهد بأفلاطون إذ يقول : «إن الله تعالى بقدر ما يعطى من الحكمة يمنع الرزق».

فضلا عن أفلاطون المسلم، قناع التوحيدى أو قراءته الخاصة، فإننا لو رجعنا لمحاورة الجمهورية لوجدنا هذا الصراع، صراع العلم/المال، مطروحا فى أكثر من سياق. وإن كان يركز عليه حين يدور الحديث عن طموح الفيلسوف للحكم، ومن هو الفيلسوف الحق المثالى المؤهل لممارسة هذا الدور، كمرآة عاكسة كاشفة للمثال النقيض فى كل ملامحه، لا للأغنياء والحكام وأصحاب النفوذ والقوة، فحسب، بل لمن يزيفون الفلسفة، ويتاجرون بالعلم، والذين يدعوهم الجمهور بالسوفسطائيين، دعاة ديمقراطية الثقافة، ونسبية المعرفة والقيم، مفسدى الشباب والجمهور، أعداء أفلاطون البارزين.ويحذر أفلاطون مما يفسد الطبيعة الفلسفية الراقية، خاصة مباهج الحياة والترف الدنيوي، وأهمها المال والسلطان. ولهذا، يؤكد أفلاطون أن الحكومة المثلى، حكومة الفلاسفة هى حكومة الأغنياء بحق، لا أغنياء الذهب، بل أغنياء الفضيلة والحكمة وهما سبيلا تحقيق السعادة المأمولة لأهل المدينة. وبالطبع، تستكن نصوص أفلاطون المثالية بتجربته الواقعية المعقدة والمريرة فى ظل الصراع المحتدم بين الحزبين الديمقراطى والارستقراطى بعد وفاة بركليس أثينا العظيم، ثم فترة الحكم الارستقراطى أو حكم الطغاة بعد هزيمة أثينا على يد أسبرطة، وانهيار حلم أفلاطون الذى ظن الارستقراطية قادمة بحلم العدل، والخلاص من غوغائية الجمهور ثم عودة الديمقراطيين ثانية، وإعدام سقراط على يد الديمقراطية الإثينية. فضلا عن محاولات أفلاطون بعد ذلك لتحقيق مشروعه السياسى حين سعى لدى ديونيسيوس ملك سيراقوصة، والذى انتهى باعتقاله وبيعه رقيقا لولا أن افتداه رجل ثرى، فرجع إلى أثينا وأنشأ أكاديميته، إلخ، من هذه المعلومات المعروفة عن حياته. وربما كانت معالجة الفلاسفة والمفكرين المسلمين لهذا الصراع الأزلى ما بين العلم والمال، سواء فى إطاره الأخلاقى أو السياسي، واستدعاؤهم أفلاطون فى هذا السياق، ليس محض علاقات معرفية، ونصية ثقافية بل يمكننا القول، بأنها تشابهات تاريخية، وعصور متقاربة الملامح والصراعات، رغم كل الاختلافات الأساسية، خاصة فى القرن الرابع الهجرى مع ازدهار نموذج المدينة البويهية بكل تناقضاتها المؤسية والحادة، وما انطوى عليه فضاؤها من صراعات معقدة متعددة المستويات، وتجليات متنوعة للفساد والازدهار فى آن... إلخ.

جرعة الحرمان

ولعل التوحيدى لم يصل طموحه إلى حد طموح أفلاطون، ولا حتى سلفه الإسلامى الفارابى، لكنه على الأقل، طمح لحياة إنسانية كريمة، ودور يتناسب مع قدراته، وقيمته وجدارته المعرفية، وإلى راع تنطبق عليه الصورة المثالية للراعى الكريم، ويحقق نموذج السيادة الحقة الكاملة.

يقول التوحيدى فى مثالبه: «إن جرعة الحرمان أمر من جرعة الثكل، وضياع التأميل أمضى من الموت، وخدمة من لم يجعله الله لها أهلا أشد من الفقر، وإنما يخدم من انتصب خليفة لله بين عباده بالكرم والرحمة والتجاوز والصفح والجود والنائل، وصلة العيش، وبذل مادة الحياة، وما يصاب به روح الكفاية، وحرمان المؤمل من الرئيس ككفران النعمة من التابع... رأيت الجرجرائى، وكان فى عدد الوزراء وجلة الرؤساء... ... يقول للحاتمى... وهو من أدهياء الناس: إنما تحرم لأنك تشتم، فقال الحاتمى: إنما أشتم لأنى أحرم ... وإن شئت عملناها على الواضحة... قال: قل .قال الحاتمى: يقطع هذا أن لا يسمعوا مدائحهم، ولايكترثوا بمراتبهم، وأن يعترفوا لنا بمزية الأدب، وفضل العلم وشرف الحكمة، كما خذينا لهم بعظمة الولاية، وفضل العمل، وبسط اليد، وعرض الجاه، والاستبداد بالتنعم والطاق والرواق والأمر والنهى والحجاب والبواب، وإن يكتبوا على أبواب دورهم وقصورهم:يا بنى الرجاء أبعدوا عنا، ويا أصحاب الأمل اقطعوا أطماعكم عن خيرنا وميرنا، وأحمرنا وأصفرنا ووفروا علينا أموالنا، فلسنا نرتاح لنثركم ولا لنظمكم، ولا نعتد بملازمتكم لمجالسنا، وترددكم على أبوابنا، ولانهش لمدحكم وثنائكم، ومن فعل ما زجرناه عنه، ثم ندم، فلا يلومن إلا نفسه... وإن منكم من طمع فى موائدنا، يجب أن يصبر على أوابدنا، ومن رغب فى فوائدنا نشب فى مكايدنا فأما إذا استخدمونا فى مجالسهم بوصف محاسنهم، وستر مساويهم...فإن فى توفية العمال أجورهم قوام الدنيا...فإن العطاء أولى من المنع والتنويل أولى من الحرمان».

ومن اللافت حقا، تلك النبرة الساخرة المريرة المهيمنة على النص، والتى تنطوى على تهديد واضح لرموز السلطة، إنه تهديد اليائس اللامبالى الذى يصل إلى حافة الوعى التراجيدى بذاته فيغدو حاله مقارنا لحال الموت أو الثكل والفقر المدقع. أو بعبارة أخرى، حالة الضياع وفقد الاتزان الوجودى والمعرفى والقيمى. إن هذا الوعى المحبط اليائس، الذى لم يعد يخشى من الفقد أو الخسارة، يمتلك شجاعة المواجهة، مواجهة السلطة الشحيحة بفضيحتها، رغم كونه يمتلك فى الوقت نفسه إمكان المراوغة والتحايل، فالحاتمى من أدهياء الناس، إنه يقابلها بنديته لها، ندية المعرفة فى مقابل السلطة ومزاياها، الاعتراف السلطوى بقيمة المثقف وأهميته لها فى المقابل خضوعه وانقياده لسطوتها.إنها مقابلة لاتعنى الندية فحسب، بل تعنى الاحتياج المتبادل، الذى تحكمه المقايضة الواضحة مابين الوعد والوعيد لكلا الطرفين. أو بعبارة أخرى إن فضاء التقابل النِّدى هنا بين المعرفة والسلطة، فضاء للتورط المتبادل، فكلا الطرفين واقع فى شباك الآخر، فالسلطة وأصحابها يحتاجون إلى أهل المعرفة لصناعة صورتهم لدى رعاياهم، وتجميلها، وترويج أيديولوجيتهم وتمكين عروشهم، وأهل المعرفة يعتمدون على مال السلطة ونفوذها لتحقيق المكانة كريم العيش. غير أن من دخل عش الدبابير تحمل لدغها، وإذ كانت السلطة، للوهلة الأولى، تبدو مكمن الخطر أو كما يقول ابن المقفع:

«إن ابتليت بصحبة السلطان.... لا يحدثن لك الاستئناس به غفلة، ولا تهاونًا... فإنك لا تدرى متى ترى أدنى جفوة». فكذا أهل المعرفة لا يقلون خطرا، فمن يملك صناعة الصورة وتجميلها، يملك القدرة على تحطيمها وتشويهها، وسوء السمعة فى هذه الحالة، وفى ذلك المناخ الوسيط ذى الطابع الدينى الأخلاقى، أكثر خطورة مما قد يتصور أنها مسألة تمس جوهر السلطة نفسها، بل إنها سعى خفى تدريجى لاستلابها حضورها ومشروعيتها.

المثقف ورموز السلطة

وإذا كانت نغمة التحدى والمواجهة سارية فى النص، فإنه يعبر بصورة ما عن استعلاء حاد تنطوى عليه النخبة المثقفة فى مقابل رموز السلطة فى هذا العصر، وهو استعلاء يسعى إلى قلب التراتب، وإعادة إنتاج القمع. بل لعلنا نلاحظ إعلان الإستغناء المضمر، استغناء المثقف عن السلطة إن حرمته، وهو إعلان استعراضى الطابع، لا أظنه يمس جوهر العلاقة بينهما فى هذه المرحلة التاريخية المعقدة.

يقول التوحيدى: «والعامة تقول: من جعل نفسه شاة دق عنقه الذئب...ولعمرى لو انقلبت عن ابن عباد بعد قصدى له من مدينة السلام، وإناختى بفنائه مع شدة العدم والحاجة المزعجة عن الوطن، وصفر الكف عما يصان به الوجه، وبعد ترددى إلى بابه فى غمار...الطامعين الراجين... وطلبا للجدوى منه، والجاه عنده الضرع والتملق... ببعض ما فارقت من أجله الأعزة، وهجرت بسببه الإخوان وطويت له المهام والبلاد...وعلى جزء مما كان الطمع يدندن حوله...لكنت لإحسانه من الشاكرين، ولإساءته من الساترين...لكننى ابتليت به...وابتلى بى ...حرمنى فازدريته، وحقرنى فأخزيته... ولئن كان منعنى ماله الذى لم يبق له، فما حظر على عرضه الذى بقى بعده... ولئن كان ظن أن ما يصير إلى من ماله ضائع، إنى لأتيقن الآن أن ما يصل بعرضه من قولى شائع... والشاعر يقول:

فإن تمنعوا ما بأيديكم فلن تمنعونا إذن أن نقولا

...... وأجهل الناس فى ارتفاع منزلته، من ظن أن عرضه فى خفارة قدرته، وأن المقدم عليه متعرض لنكيره، وخير من هذا الظن أن يحتمل ألم مفارقة المال ببعض الميسور، حتى لايقرف بشىء لا غاسل له، ولا نافح عنه... ... ولهذا بكت العرب من وقع الهجاء كما تبكى الثكلى من النساء وذلك لشرف نفوسها ونزاهتها عن كل ما يتخون جمالها، ويعيب فعالها».

وهكذا، تساوت الأقدار، فالمانع للعطاء، كمن حرم ومنع عنه الهبات، كلاهما كالثكلى، فاقد لاستمرارية الوجود والحضور المتوازن على مختلف المستويات.إن الفضاء الجامع بينهما ليس فضاء التورط والاحتياج المتبادل فحسب، بل هو فضاء الانتهاك المتبادل، أو لنقل بلغة التوحيدي، فضاء الابتلاء الذى لا يخلو من طابع قدرى حتمى إلى حد ما.غير أن المثقف المحروم يمتلك سلاحا خالدا تفوق سطوته سطوة المال الزائل بطبيعته، إنه سلاح اللغة وإمكانات النص المكتوب، والمتداول حيث الشيوع والاستمرارية والتثبيت للصورة تاريخيا، وفى إطار الذاكرة الجمعية.إنها مسألة مقترنة بالذكرى الخالدة، والشرف وفقا لمعايير الجماعة الدينية والأخلاقية، وليس كمعيار الجود والكرم والإحسان والبذل فى موضعه حضورا داخل قيم الجماعة العربية الإسلامية بشقيها العرقى والديني، وليس كبكاء الرجال كالنساء الثكلى حين الهجاء وثلب الشرف، فى حضارة ذكورية بجدارة. بل وليس كتهديد الكلمة، منطوقة متوارثة أم مكتوبة فى حضارة نصية، تؤمن بالقدرة الخالقة للكلمة حيث فتق الله أسماع الكائنات بقوله كن فيكون، وكانت معجزة نبيه الكلمة أو النص القرآنى، وكانت الكلمة الشعرية ثم النثرية لسان حال الأمة وفخارها سواء فى الجاهلية أو فى الإسلام، ومن ثم فالكلمة مؤسسة لمشروعية الوجود بكل تجلياته داخل الحضارة العربية الإسلامية؛ أى أنها قد تغدو جرح الذات وأداة انتهاكها أو العكس. ولعل تساؤلات التوحيدى المتكررة فى الهوامل حول ميل الإنسان بل ولعه بطيب ذكراه، وفرحه الشديد بما ينسب إليه من خير وصفات جميلة حتى لو لم تكن متحققة فيه فعلا، بل غضبه الجم بما ينسب إليه من صفات قبيحة سيئة، حتى لو كانت ماثلة فيه فعلا، هى كلها تساؤلات تمس موضوع هذا الجرح، جرح الكلمة القابضة على حضور الذات، المؤسسة لوجودها فى فضاءات الآخرين. إنه جرح الذات المخترقة دوما بحضور الآخرين، حتى لو كانوا فى وضع أدنى، وقيد هيمنتها وسطوتها. ذلك أن الذات الوسيطة لم تكن قد شكلت بعد معالم خصوصيتها الإنسانية الفردية المستقلة بالمعنى المعاصر، حتى من يعيشون فى فضاء الهامش، ظلوا يتحركون فى حمى إطارات مرجعية صغيرة لكنها جمعية معيارية بصورة ما. ناهيك عن سعيهم الدءوب لنيل الاعتراف الاجتماعى، ولو بشكل عدوانى ومناوئ، وبالطبع فكلما زاد الحضور الطاغى، والسلطوى للذات، على أى مستوى، كانت عرضة للنظرة المتفرسة المراقبة من قبل الآخرين، خاصة وأننا نواجه مجتمعات ذات طابع أخلاقى دينى معيارى تسعى دوما لصياغة المثال المأمول اللإنسان الفاضل، أو الحاكم الصالح...إلخ. ولعل مسكويه يلتقط هذه المسألة فى رده على تساؤلات التوحيدي؛ إذ يرجع الأمر برمته إلى محبة الإنسان لنفسه، ووعيه بموضوع الفضيلة، ورغبته فى حيازة الصورة الفاضلة الخيرة.

تهديد المثقف.. تهديد الكلمة

ويغدو تهديد المثقفين، تهديد الكلمة المكتوبة الثابتة، وكتابة الثلب التى تبقى فضاء للذكرى على مر العصور فى هذه الحالة كوصمة عار لا خلاص منها. فضلا عن كونها تدمر التراتب وفقا لمعيارية أخلاقية تنفى صفة الإنسانية والعدالة عن السلطوى الظالم المستبد الجاهل فى مقابل المثقف المضطهد المظلوم الذى لم يقدر حق قدره من قبل السلطة الغاشمة، وها هو التوحيدى يتساءل مرة أخرى فى هوامله، قائلا: «ماسبب الصيت الذى يتفق لبعضهم بعد موته، وأنه يعيش خاملا، ويشتهر ميتا، كمعروف الكرخى؟».

ودلالة السؤال واضحة لافتة بل إن الاستشهاد بمعروف الكرخى الزاهد العابد، لا يخلو من دلالة، إذا ما استدعينا كل ما سبق، حيث لا يبقى خالد الذكر والحضور، سوى هؤلاء الذين زهدوا مباهج الدنيا ومتعها، وارتقوا نحو المثال الأخروى، فنالوا السعادة الحقة، والصيت الخالد!! إنها نغمة تعويضية ساخرة مريرة، لكنها مهددة للآخر المستبد المختال بما لديه من كل عارض وزائل. ومن اللافت فى هذا السياق أن يرد مسكويه ردا يبدو أخلاقيا ساذجا، لكنه قد يضمر الكثير؛ إذ يقول «معظم السبب فى ذلك الحسد الذى يعترى أكثر الناس» ويتضح لنا عبر هذا كله المعنى الحقيقى لكلمات الحاتمى فى حواره سالف الذكر مع الجرجرائى الوزير فلم يكن هذا حديثا خاليا من المعنى، بل كان ماسا بعمق الجرح الهاتك فضاء العلاقة بين المثقف والسلطة الشحيحة الظالمة ذات المعايير العبثية!!

وبالطبع، فقد مارس التوحيدى محاولته الثأرية عبر فضاء الكتابة، فضاء الذكرى، فى كتابه «مثالب الوزيرين» خير شاهد على ما ذكرناه ورغم كل محاولات التشكيك فيما ورد فى الكتاب من حكايات، فإنه أوقعنا فى مناطق الالتباس حول الوزيرين، أو كما يقول التوحيدى «الشك إذا عرض أرسى وربض» وذلك أن ما أصاب التوحيدى من إحباط حاد سواء فى بلاط الصاحب ابن عباد أو ابن العميد بعد أن خرج خالى الوفاض من حضرة كليهما، كان بمنزلة معايشة فعلية لمأزق المثقف إزاء سلطة بخيلة فاسدة المعايير، باغية طاغية، لا تقدر أهل الجدارة حق قدرهم، ولاتمتلك أبسط مقومات السيادة الحقة. بل يمكننا القول، إن أبا حيان اعتبر الوزيرين نموذجا فاقعًا لأغنياء عصره والبخلاء النرجسيين محدثى النعمة، حيث لاأصول أنساب راقية ينتسبون إليها، ولا طباع أو سجايا كريمة، أو لا ميل إلى عدل أو قدرة على عطاء وبذل، ولا حكمة حقة، ولا ديانة قوية، ولا جود وكرم أو حسن معاشرة وضيافة، ولا صفح ورحمة ومغفرة.إنها مرايا زمن الخساسة والجهل والظلم والتجديف والبخل وقلة الدين والمروءة وحب الفساد، والمعايير الشكلية الزائفة. ويبدو أن استحالة تحقيق النموذج المتكامل للمثقف الجامع بين العلم والمال وكرامة الحضور لدى السلطة، سيدفع هؤلاء المثقفين المحرومين لا لإقامة التعارض الحاد بين المال والعلم وكرامته أو إعلاء شرف العلم على المال فحسب، بل سيواجهون هذه الاستحالة بتأكيدها.

يقول أبو سليمان فى الإمتاع:

«إن العلم والمال كضرتين قلما يجتمعان ويصطلحان؛ لأن حظ الإنسان من المال، إنما هو من قبيل النفس الشهوية والسبعية، وحظه من العلم، إنما هو من قبيل النفس العاقلة، وهذان الحظان كالمتعاندين والضدين... ويجب على الحصيف والمميز أن يعلم بأن العالم أشرف فى سنخه وعنصره، وأوله وآخره، وشهادته ومغيبه من ذى المال، فإذا وهب له العلم فلا يأس على المال... ولايلهب نفسه على قوته حسرة وأسفا، فالعلم مدبر، والمال مدبر، والعلم نفسى، والمال جسدى، والعلم أكثر خصوصية بالإنسان من المال، وآفات صاحب المال كثيرة وسريعة؛ لأنك لاترى عالما سرق علمه وترك فقيرا منه... والعلم يصحب صاحبه على الإملاق، ويهدى إلى القناعة، ويسبل الستر على الفاقة، وما هكذا المال». ومن المثير للانتباه فى هذا السياق إرجاع التعارض بين العلم والمال لازدواجية الطبيعة الإنسانية، وانقسامها ما بين الجانب الطبيعى البهيمى بشقيه الشهوى والسبعى من ناحية، والجانب الخالد الإنسانى، المفتوح نحو الألوهية، النفس العاقلة موطن التميز الإنسانى، من ناحية ثانية.

يقول إخوان الصفا:

«اعلم أن العلم قنية للنفس، كما أن المال قنية للجسد؛ لأن المال يراد لصلاح أمر الجسد والعلم يراد لصلاح أمر النفس». وهو الأمر الذى يؤدى إلى تأكيد الطابع الصراعى بين المتعارضين، وجموح شهوة المال ومن ثم ضرورة قمعها وتدميرها بسطوة النفس العاقلة وهيمنتها، وهو ما يلفتنا لحدة الصراع وعنفه داخل المثقف المحروم، غير أن تأكيد ارتباط العلم بالشرف والعلو، وبإنسانية الإنسان، وبعدم الزوال وأحقية الامتلاك التى لا تخضع أبدا لإمكان الفقد، أو ما يمكن تسميته بأمان العلم والمعرفة، سيلعب دورا مهما، بل دعما قويا للإرادة الذاتية كى يحسم الصراع لحساب الإنسان الحق وخصوصيته الراقية، إنسان المعرفة، أو بعبارة أخرى، ترجيح كرامة المثقف وشرف العلم وأمانه على شهوة المال وتهديده والاحتياج له احتياج بهيمى منحط وذلك على المستوى النصوص ربما أكثر من الممارسة الواقعية.

بعبارة أخرى ستواجه شهوة المال الملحة, واستحالة تلبيتها، بالتعالى عليها، وإعلان التحلى بالقناعة والزهد والاستغناء الذاتى بالعلم فى مواجهة مالك المال السلطوى الشحيح الذى أصبح الأدنى فى ظل قلب التراتب وفقا لمعيارية العقل وسلطة النفس الناطقة على الشهوية والسبعية، بل كاد صاحب المال السلطوى الشحيح يقارب البهائم والضوارى ويفارق فضاء الإنسانية الحقة!! فضلا عن مفارقته فضاء الإيمان لأنه عبد للمال لا لخالق المال، مناوئ للإحسان والصدقة وإتيان الخير، بينما العالم وارث النبوة، محقق القصد الإلهى من الخلق، المعرفة والعبادة الحقة، بل معلم الآخرين؛ أى يمارس زكاة العلم وصدقته، وهى الأنقى والأكرم من زكاة المال.أضف إلى هذا أن العلم لا يمتلكه المرء إلا عبر الجهد المضنى والشاق، رغم الموهبة أو المنحة الإلهية، ولذا فهو خالد محقق لهوية الذات، وحراكها الاجتماعى فى فضاء المدينة الوسيطة، أما المال فقد يرثه المرء دون بذل جهد، كما يرث الشرف والمكانة، وقد يكون غير جدير به على عكس العلم الذى هو بالضرورة، مسألة قدرة وجدارة. ولعلنا نتذكر فى هذا الصدد أن التوحيدى لم يكن شديد الاحترام للطبقة الجديدة من الأثرياء، الذين اكتسبوا أموالهم عبر التجارة أو غيرها من الأنشطة الاقتصادية، ولم يرثوها عن أسلافهم؛ حيث اتهمهم بالغش والمناورة وقلة الدين.إلخ ولعل هذا النموذج كان لم يزل موضع الشك والتوجس فى ظل منظومة القيم السائدة فى تلك الفترة، ولعله الصراع الحاد بين أهل العلم والمعرفة الفقراء، وأهل المال الدنيويين البخلاء المحرومين من نعمة العقل وفضيلة الحكمة.

 

هالة فؤاد