«كي لاننسى» قرى فلسطين التي دمرتها إسرائيل في 1948 وليد الخالدي عرض: أسامة الرحيمي

«كي لاننسى» قرى فلسطين التي دمرتها إسرائيل في 1948

«إلى كل الذين شُرّدوا من قراهم فهاموا في الأرض. إلى ذرياتهم جميعا.. كي لاينسوا». بهذه الجملة اللافتة استهلت «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» كتابها التوثيقي الوافي «كي لاننسى» بعنوانه التفصيلي «قرى فلسطين التي دمرتها إسرائيل سنة 1948 وأسماء شهدائها» .

وبالرغم من أن الطبعة الأولى من هذا الكتاب صدرت في 1997 والثانية في 1998 لم يتقادم عليه العهد بعد مرور عقد وزيادة، فهذا النوع من الكتب الوثائقية يضمن تجدده الذاتي بما يحويه بين دفتيه من حقوق تاريخية جليّة، ستظل حيّة إلى أن يستعيدها أصحابها، وهو ما يفسر إصرار الفلسطينيين علي الاحتفاظ بمفاتيح دورهم القديمة التي سوّاها المغتصبون بالأرض، وحرصهم على أوراق الملكية القديمة التي يعود أغلبها لعهد الدولة العثمانية.

وفي التعريف بالكتاب قالوا إنه: وصف تفصيلي وموثق للقرى الفلسطينية الأربعمئة ونيّف التي هَجّرت دولة الاحتلال الإسرائىلي أهاليها في سنة 1948 ، ثم دمرتها ومحت معالمها، ووزعت أراضيها ومزارعها على سكانها الجدد من اليهود، وأقامت عليها مستعمرات بأسماء عبرية مستحدثة حلّت محل أسمائها التاريخية الأصيلة، وذلك إمعانا في إزالة الصبغة العربية لاعن التراب الفلسطيني فحسب بل عن خرائط فلسطين وذاكرة العرب والعالم أيضًا.

والمؤلم أن بعض الدول العربية غيّرت المناهج الدراسية في الجغرافيا والتاريخ تحت الضغط الصهيوأمريكي الذي يحاول تشكيل المنطقة وفق أطماعه، وهو ما شجع بعض الأصوات المجاهرة أخيرًا بإسقاط حق العودة عن الفلسطينيين، وهو أقصي أحلام الصهاينة، وأقل حقوق الفلسطينيين التاريخية التي بادر هذا الكتاب بحفظها لهم، وهذا الجهد الجبار هو ثمرة تعاون جامعة بير زيت، ومركز الجليل للأبحاث الاجتماعية في الداخل، ومؤسسة الدراسات الفلسطينية في واشنطن المشرفة في الخارج، وساهم فيه أكثر من ثلاثين باحثا، واستغرق نحو ستة أعوام. واستند هذا العمل الضخم إلى وفرة من المصادر العربية والأجنبية ( أعمال المؤرخين القدماء والجغرافيين والرحّالة) كما استند إلى البحث الميداني من أجل تحديد مواقع القرى تحديدا دقيقا بالرجوع إلى شهادات الساكنين السابقين والأدلاء المحليين.

والكتاب يذكر أسماء وأماكن القرى الفلسطينية، مرتبة وفق حروف الهجاء تبعا لكل قضاء. ويشتمل نصُ كل مدخل على بيانات إحصائية (إحداثيات الموقع، وعدد السكان وتركيبهم، وعدد المنازل، وملكية الأرض ووجه استعمالها) وعلى مقاطع تُجمل تاريخ القرية قبل سنة 1948 وتنسّق المعلومات عن طبوغرافية القرية، وهندستها، ومؤسساتها، ونشاطها الاقتصادي، ويحتوي المدخل المخصّص لكل قرية على مقطع يستند إلى روايات إسرائيلية وعربية عن العمليات العسكرية التي أفضت إلى سقوط القرية بيد القوات الإسرائيلية.

وهذا يُحبط الوحش الصهيوني الذي غَصّ بما ابتلعه من أرض فلسطين التاريخية، معتقدا أن أصحاب الحق سينسون بيوتهم وزيتونهم، وأرواح أسلافهم التي مازالت تُحوّم فوق البساتين والبيادر، تنعي المساجد والكنائس المدمرة والمسكونة برجع الأذان وصدى الأجراس، ورائحة الزعتر التي تغالب عفن البارود.

وصدّر معدو الكتاب المقدمة بمقولة لـ «موشيه دايان» أهم وزراء حرب دولة الاحتلال الإسرائيلي مأخوذة من كلمة ألقاها في معهد التكنولوجيا بحيفا في الرابع من أبريل 1969، ونصها حسب صحيفة هآرتس هو: «لقد أقيمت القرى اليهودية مكان القرى العربية. أنتم لا تعرفون حتى أسماء هذه القرى العربية وأنا لا ألومكم لأن كتب الجغرافيا لم تعد موجودة، ولكن ليس كتب الجغرافيا وحدها التي لم تعد موجودة . بل القرى العربية نفسها زالت أيضا. فقد قامت نهلال في موضع معلول، وكيبوتس غفات في موقع جباتا، وكيبوتس ساريد في موضع خنيفس، وكفار يهوشوّع في موضع تل الشومان. وما من موضع بني في هذا البلد إلا وكان فيه أصلا سكان عرب».

واللصوص ظنّوا أنهم يستطيعون تغيير الجغرافيا كما زوروا التاريخ، وزعموا منذ القدم أن الله فضّلهم واختصهم بأرض فلسطين، وبرعوا في تلفيق كل شيء من الافتئات على الله تعالى وتأويل التوراة وفق جشعهم، إلى تزوير أوراق ملكية البيوت والأشجار من دون أن يرف لهم جفن.

وجاء في المقدمة: «لا جدال أن عملية الاستعمار الصهيوني لفلسطين التي بدأت أوائل الثمانينيات من القرن التاسع عشر، ومازالت مستمرة حتى اليوم، إنما هي من أكثر المشاريع الاستعمارية لفتا للنظر على مدى العصور، ففي غضون عمر من الزمن جرى ما يشبه الانقلاب الشامل في الأوضاع السكانية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي كانت قائمة في فلسطين عند بداية القرن العشرين».

ويرصد الكتاب مصير 418 قرية فلسطينية دمرها الصهاينة وهجّروا سكانها في حرب 1948، بالإضافة لسقوط أكثر من عشر مدن فلسطينية، منها مدن كانت آهلة بالفلسطينيين حصرا ( عكا، وبئر سبع، وبيسان، واللد، والمجدل، والناصرة، والرملة)، ومنها مدن كان الفلسطينيون يمثلون نسبة كبيرة من سكانها (طبرية، وحيفا، والقدس الغربية) فضلاً عن يافا - المرفأ البحري القديم - التي كانوا يشكلون الأكثرية العظمي من سكانها، وقد أخليت هذه المدن والبلدات، مع استثناءات قليلة أهمها الناصرة من سكانها الفلسطينيين وانتقلت أموالهم غير المنقولة، والمراكز التجارية، والأحياء السكنية، والمدارس، والمصارف، والمستشفيات، والعيادات، والمساجد، والكنائس وغيرها من المباني العامة والحدائق والمرافق ـ جملة واحدة إلى مواطني دولة الاحتلال الإسرائيلي ـ كما استولى الإسرائيليون على ما سَلِم من المنقولات مثل: الأثاث، والأواني الفضية، والصور، والسجاد، والمكتبات، وسواها من المتاع التليد، وسائر ممتلكات الطبقة الوسطي من سكان تلك المدن الفلسطينيين.

اللاجئون بين الريف والمدن

ولم يبق من الـ 418 قرية التي دمرتها دولة الاحتلال الإسرائيلي إبان النكبة إلا بضع عشرة قرية سلمت أو أصيبت بأضرار طفيفة، أما ما سوى هذه فقد دُمر تدميرًا تامًا أو أنه في حكم المُدمر عمليًا، إذ مُحيّ في الواقع من على وجه الأرض. فمواضع المنازل والمقابر المدمرة، ومثلها مواضع البساتين والبيادر والآبار وحظائر المواشي والمراعي، قسّمت ووزّعت على المستعمرات اليهودية التي كانت تجاورها، أو تشاطرتها المستعمرات الجديدة التي أُنشئت لاحقًا على أراضي تلك القرى، وحلّت الأسماء العبرية التي سميت بها المستعمرات محل الأسماء العربية ، وربما استُبقي في هذه الأسماء الحديثة صدى خافت أو ساخر من أصداء الاسم العربي. أما ورثة هذه القري فقد جاءوا من كل الحركات الصهيونية الإسرائيلية الكبرى: الجماعية، أو التعاونية، أو الزراعية ذات الملكيات الصغيرة ( كيبوتسيم وموشافيم) وتنتسب هذه الحركات إلى أحزاب إسرائيلية تنتشر على ألوان الطيف السياسي كلها، من أكثرها ليبرالية إلى أكثرها تشددًا.

وبقي نحو 100 قرية فلسطينية داخل المناطق التي استولت عليها دولة الاحتلال الإسرائىلي في حرب 1948 من دون تدمير أو تهجير للسكان، وهي لاتزال قائمة حتى اليوم داخل حدود دولة الاحتلال الاسرائيلي ما قبل 1967، وقد صودر أكثر من 80% من أراضي عرب 48 الذين لم يغادروا منازلهم قط، ووضعت تحت تصرف مواطني دولة الاحتلال الإسرائىلي من اليهود حصرا. ومع ذلك فإن القرى الـ 418 التي يرصدها هذا الكتاب كانت تشكل قرابة نصف عدد القرى الفلسطينية التي كانت قائمة داخل حدود فلسطين الانتدابية عشية التوصية التي اتخذتها الأمم المتحدة في نوفمبر (تشرين ثاني ) 1947 بتقسيم فلسطين. وقد تفرق من هذه القرى نحو 390,000 لاجئ ريفي إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، أو تدفقوا برًا أو بحرًا إلى الدول العربية المجاورة.

وشكل لاجئو الريف هؤلاء أكثرمن نصف اللاجئين الذين شردتهم حرب 1948، أما الباقي فهم من لاجئي المدن والبلدات السابق ذكرها (254,000 تقريبا) فضلاً عن 70,000 إلى100,000 بدوي شبه متوطن . كما بلغ مجموع اللاجئين جرّاء الحرب من الريف والمدن 54% من مجموع سكان فلسطين العرب أيام الانتداب. كما بلغت مساحة أراضي القرى الفلسطينية التي تم تقاسمها سريعا بين المستعمرات اليهودية، قديمها وحديثها، ستة ملايين دونم تقريبًا.

وهذه الأرقام تبين مدى الكارثة التي حلّت بسكان الريف الفلسطيني الواقع داخل الحدود التي أنشأتها دولة الاحتلال الإسرائيلي في سنة 1948.

وكثير من هذه القرى لاذكر لها في التاريخ، لكن قرى كثيرة أخرى شهدت معارك كبرى، أو مرت بها جيوش عظيمة، أو زارها أحد الخلفاء أو السلاطين وسخا عليها ببعض المباني أو المنشآت. كما برز من بعضها الآخر نفر من أهل العلم، أو أرباب الحكم، أو أصحاب الطرق من المتصوفة، وزار عددًا غير قليل منها خلال العصور الوسطي وما بعدها رحالةُ، من البلاد العربية القريبة أو من البلاد الإسلامية القصية في طريقهم إلى القدس أو دمشق أو القاهرة. وترك بعضهم لنا انطباعات عن تلك الرحلات باللغة العربية أو التركية أو الفارسية. ويفصّل سجل ضرائب عثماني دُوّن في أواخر القرن السادس عشر المنتوجات الخاضعة للضريبة في 145 قرية من القرى الـ 418، ويتبين من هذا، ومن غيره من القرائن المكتوبة، أن هذه القرى كانت في معظمها قائمة، ومعروفة بأسمائها العربية أو المعربة منذ قرون عدة قبل سنة 1948. كما تشهد البقايا الأثرية على أن هذه المواضع استمرت آهلة منذ أقدم العصور.

واغتصاب ممتلكات سكان هذه القرى لم ينزل بسكان عابرين أو رُحّل، وإنما بمجتمع زراعي أصيل عميق الجذور كأي مجتمع آخر في حوض البحر الأبيض المتوسط.

وجدير بالملاحظة أن الكتاب استند في تعداد أسماء القرى الـ 418 على «معجم فلسطين الجغرافي المفهرس» وهو أشمل المصادر المتاحة، ولم يستخدم إلا قليلا جدا، ويحوي هذا المعجم الذي أعدته إدارة المساحة في حكومة فلسطين 1945 عشرة آلاف ونيّفا من أسماء المواضع، مرتبة وفق أحرف الهجاء، ومصنفة إلى نحو36 فئة منها «القرية، والمزرعة، والمنزل، والوادي، والجسر، والكهف، والموقع الأثري، والمستنقع».

وطوبقت القائمة النهائية لأسماء القرى والمزارع على أسماء القرى المدرجة في «الإحصاءات القروية 1945»، وهو آخر إحصاء للسكان وملكية الأرض قامت به سلطة الانتداب البريطاني.

وجرت المقارنة أيضًا بكتاب «إحصاء سكان فلسطين 1931» وهو آخر إحصاء للسكان تم في فلسطين أيام الانتداب، وتمت الاستعانة ببعض الكتب الأخرى لاستكمال الموضوع.

صور حميمة للبيوت وأهلها

ولم يهمل الكتاب شيئا من تفاصيل القرى مما يشجع المخيلات على تجسيدها في مشاهد تضيء وجه فلسطين الباهي في أطهر نقطة من وجداننا، لما يحفل به من صور حميمة للأماكن، والبشر الذين عمّروا البساتين بكدّهم، وملأوا البيادر بالمحاصيل، ولونوا بيوتهم بالأحلام.

وفي نهايته ستة ملاحق لشرح المصطلحات، وضبط التسلسل الزمني لأهم الأحداث في التاريخ الفلسطيني منذ أقدم العصور حتى سنة 1949، والعدد الإجمالي للاجئين من المدن والريف، والقرى الفلسطينية التي هُجّر سكانها سنة 1948 (مقارنة بين المصادر)، وخامسها للمستعمرات الإسرائيلية التي أقيمت على أراضي القرى الفلسطينية وانتماءاتها السياسية، أما الملحق السادس والأخير فخصص لشهداء وجرحى حرب 1947/1948، إضافة لمصادر الصور، وقائمة بالمصادر والمراجع، وفهرس تذيله خريطة بأماكن وأسماء القرى.

وهذا كتاب ليس كغيره من الكتب الوثائقية، فهو لايحيي الحقائق فقط، بل يحفظها ويغلق عليها القلوب لتستدفئ برائحة الوطن، الذي قيّض له الله هؤلاء الباحثين المخلصين ليحفظوه من الضياع، كما نثق أن ثمة من سيعيد بناء هذه القرى والمدن مرة أخرى على أنقاض المستعمرات الصهيونية إن شاء الله، وليعلم من يقبل بإسقاط حق عودة اللاجئين إلى أراضيهم أن الحقوق ستعود لأصحابها مهما طال الزمن، والتنازلات لن تغير الحقائق، فالأوطان لا تسقط بالتقادم.

 

وليد الخالدي 





 





مسجد عمقا (عكا) (يونيو 1987)





فلسطيني وزوجته امام بيتهما (بيت لحم، قضاء القدس) (سنة 1930)





قرية أبو غوش التي تبعد عن القدس 41 كم على الطريق إلى يافا (سنة 1930)





قطف الزيتون قبل (سنة 1935)