بين الفطرة ولغة الفن الحديث عز الدين نجيب

حلمي التوني

إحساس غامر بالفرح يشعر به كل من يتأمل لوحات الفنان حلمي التوني.
إحساس ليس مبعثه نظرته المتفائلة للحياة فقط ولكن لمحاولته تجسيد أحاسيس
البراءة التي تكمن خلف الحس الفطري للإنسان.

تتعدد المشارب والمنطلقات والرؤى الإبداعية في الفن إلى ما لا نهاية، وهذا سر الخصوبة والثراء في حدائق الفن الجميلة.. إن الفن وليد الحرية وتوأمها، فإذا كانت ضرورية للفنان كي يختار ما يحلو له من رؤى وأساليب ويحقق ذلك من خلال اختياره الحر، فإنها أكثر ضرورة للمتلقي، لأنه يستطيع عن طريقها أن يجمع شتى الزهور والألوان من أقصى البساتين، ولن يتم ذلك بتعليب الذوق في معلبات جاهزة حسب الطلب أو حسب ما يستورد من الخارج وفق آخر موضة، بل من خلال انفتاح المتلقي على كل الألوان، ومعايشته الحميمة لعوالم الفن والفنانين، وقبوله مبدأ التنوع والنسبية في القيم والمعايير، وحتى الأهداف العليا.

إحساس هائل بالحرية

والفنان المصري حلمي التوني يؤمن بهذا المعنى (حول التعددية، ويؤكد عليه في دليل معرضه الأخير، لكن ما لم يشر إليه- تاركا إياء للنقاد- هو أنه ينطلق من خلال عمله الإبداعي من إحساس هائل بالحرية. حرية تعادل حرية الطفل في اللعب، وهذه الحرية جعلته يواصل تجربته بغير مسلمات جاهزة أو أطر ثابتة، ويستقي من كل اتجاه تعبيري أو جمالي ما يثري تجربته ورؤاه، دون أن يكون قابلاً للتصنيف في هذا الاتجاه أو ذاك، اللهم إلا في اتجاه واحد هو: الشخصية الشعبية المصرية بخصائصها التراثية والمعاصرة.

الرحلة الإبداعية لحلمي التوني تؤكد أيضاً هذا القدر من الحرية، التي تعني تعدد المنابع والانفتاح على كل البساتين، كما تعني القدرة على رفض الانخراط في آليات المجتمع الفني (مجتمع المحترفين) لمجرد إثبات الوجود، بالحرص على إقامة معارض خاصة بين وقت وآخر داخل أطر برجوازية حتى لو لم يكن الفنان مهيأ لذلك، أو حتى لو لم يكن المناخ الثقافي والاجتماعي مستعداً لقبوله، فتكون النتيجة هي وقوعه في أسر الدائرة المأزومة " لأبناء الحرفة " بصراعاتها ومشاكلها المهنية وليست الإبداعية، بغير متفرجين تقريباً، وينتهي الأمر بأن يخاطبوا بعضهم البعض بعيداً عن المجتمع، أو بأن يتنافسوا على المعارض الدولية والجوائز والمقتنيات!

من هنا كان التوني صادقا مع نفسه بابتعاده عن إقامة معارض خاصة حتى أواسط الثمانينيات بالرغم مما لديه من رصيد فني، مكتفيا بتحقيق تواصله مع الجمهور من خلال وسيط جمالي آخر هو أغلفة الكتب التي تطبع في آلاف النسخ وتصل إلى القراء، وقد تخصص في هذا المجال حتى صار واحدا من ألمع المعدودين فيه على نطاق الوطن العربي.

وبالدرجة نفسها غذَّت لديه تلك الحرية القدرة على إطلاق الخيال حتى وسط حصار الظروف والضرورة، فقد استطاع بهذا الخيال أن يجعل من أغلفة الكتب لوحات جرافيكية ذات حجم صغير، تنبع من عالمه الخاص، إلى جانب تعبيرها عن عالم الكتاب الذي تتصدره، بل استطاع - بتلك الحرية- أن يواصل إبداعه اختياريا في جو الحرب اللبنانية سنوات عديدة، في الوقت الذي كان بمقدوره الخروج مع من خرجوا، لكن اختياره النابع من الحرية والالتزام معا، يسر عليه مهمة البقاء وسط جو الحرب دون شعور بالقهر أو بالتضحية.

التوني والفن الفطري

أعمال التوني تتلاقى، إلى حد كبير- مع منطق الفنون الفطرية، ابتداء من فنون الأطفال حتى الفنون البدائية والشعبية بطقوسها السحرية وتقاليدها الاجتماعية، وبعض الفنانين يسعون إلى محاكاة هذه الفنون لاكتساب طابع الفطرة الساذجة التي تتمثل في فن " الناييف"، وقد أصبح لهذا الفن مكانه المعترف به في المتاحف وموسوعات الفن العالمية ويحظى باحترام كبير، إلى جانب سرعة تأثيره وسريانه إلى وجدان وأذواق المواطنين العاديين بما يحققه من تواصل مع منابعهم الشعبية والتراثية... أما التوني فهو لا يسعى إلى محاكاة هذا الفن، إذ يبدو وكأنه يستجيب ببساطة لفطرته الشخصية الأقرب إلى فطرة الطفل النزق، ولعل هذه الفطرة هي التي قادته لتقضي رؤى وتجليات الفنون الشعبية المصرية والعربية في رسوم الحجاج على الجدران ورسوم الوشم على الأذرع والأيدي والأصداغ، وزخارف السجاد البلدي في المناطق الصحراوية، ووحدات التطريز على مفارش الأسرًّة وملابس البدويات والريفيات، ولعب الأطفال بأشكالها القديمة،... وإذ سار في هذا الطريق قدما كان ولابد أن يتلاقى مع الرسوم الإيضاحية للملاحم الشعبية الشهيرة: الزناتي وأبو زيد والزير وعنتر وعبلة... إلخ، وأن يحلل لغتها الجمالية ويستوعبها كواحد من مريدي هذا السبيل!

ولأن وظيفة هذه الفنون الفطرية مزدوجة، تجمع بين الزينة والطقس الاجتماعي وربما الديني، فإن ذلك انعكس على المسار والهدف الذي اتخذته لوحات التوني فهي لوحات تسعى إلى تحقيق البهجة والانطلاق والتحرر، إلى جانب وظيفتها التزيينية للمكان الذى توضع فيه، مكتسية بألوان بهيجة غنائية صداحة، وعناصر زخرفية أقرب إلى الدندنة الموسيقية على آلة عربية، لا تسعى إلى الصدمة أو إلى ما يثير القلق، بل تسعى إلى الانسجام والتوافق النفسي والاجتماعي في عالم خاص يصنعه الفنان موازيا لعالم الواقع متساميا به..

لكن الطفل الكامن بداخله، الذي شب وترعرع متخذا من الفنان الفطري المجهول مثله الأعلى، هو الذي يحافظ له على عفويته، بل يدفعه بنزقه ونزواته في أحيان كثيرة إلى التصادم مع العادات الاجتماعية المألوفة، حين يصور مثلا فتاة جالسة على مقهى بلدي وأمامها أبريق الشاي، أو حين يتمادى في تجسيد التحام الحبيبين، وهذه التجليات تعيد إلى التوني في الحقيقة طزاجته وروحه الشعبية ولا تنفيها، فما أحفل التصوير الشعبي في كل مراحله بمثل هذه التعبيرات الجريئة!

عالم مفعم بالمرح

عالم التوني إذن عالم طفولي شعبي بريء مفعم بالتفاؤل والمرح، يستدعي ذكريات الطفولة والصبا وأحلام الصبايا ولهفتهن على الحب، وكان من الطبيعي أن تنبع عناصره الفنية وسماته الأسلوبية من هذا العالم، فبالإضافة إلى ألوانه الصريحة المشعة بهجة كما أشرنا من قبل، وكذلك الوحدات الزخرفية المتنوعة من وحي رسوم الأطفال والتراث الشعبي، فإن معالجة "الفورم" عنده تتم في أبسط أشكالها وأكثرها قربا من الطبيعة مع التحريفات الساذجة في بعض النسب وقواعد المنظور وهي ما اعتدنا على وجودها في رسوم الطفل والفنان الشعبي، وينطبق ذلك على الخط الأسود الصريح الذي يستخدمه دائما في تحديد الأشكال والمساحات بديلا عن الظل والنور وقواعد المنظور.

هذا لا يعني أن التوني يتقمص شخصية الطفل أو الفنان الشعبي، فالواقع أن أغلب تكويناته مركبة وفق حسابية رياضية محكمة، ذات بناء رأسي لا يقوم على الاستطراد التقريري الأفقي كما نجده لدى الطفل والرسام الشعبي.. هنا نلمس فرقا آخر بينه وبين هذا الرسام المجهول وروحه الفطرية.. هو كلفه- عبر معرضه الأخير- بالأناقة والترف، والإسراف في استخدام الوحدات الزخرفية، بما يؤدي أحيانا بد انزواء الحس العفوي (الخام) الذي تتميز به الروح الشعبية، تلك التي كانت أكثر وضوحاً في الأعمال الزيتية السابقة للتوني.

لكنه- بتكوينه الرياضي المحسوب، وأناقته المترفة- يلتقي مع جمالية تراثية أخرى، هي جمالية اللوحة العربية القديمة في كتب مدرسة بغداد (الواسطي وغيره) باقتصارها على بعدين اثنين مع الاستعانة أحيانا بالبعد الثالث (العمق) بأسلوب التسطيح الزخرفي نفسه الذي يبدو في اتجاه رأسي أكثر مما يبدو في اتجاه العمق، كما يلتقي مع هذه اللوحة في الولع بالمنمنمات الزخرفية الوافدة أصولها من الفن الفارسي، والتي تتوالد من بعضها البعض كما تتوالد التقاسيم النغمية وتتوالى في اطراد مع آلة العود.

من ناحية أخرى يحقق بهذه الجمالية تلاقيا مع اللوحة الأوربية الحديثة، خاصة تلك المستوحاة من الروح الشرقية والعربية لدى الفنان الفرنسي هنري ماتيس، الذي استطاع إدراك الخواص الجمالية للتصوير العربي، سيّما في كلفه بملء الفراغات في اللوحة وبأن يقيم بناءه وفق سيمترية زخرفية متوازنة ومتكررة كالموسيقى الإيقاعية المنتظمة في حفلات الطرب.

الواقعية السحرية

ولأن التوني ليس هو ماتيس، بل هو إنسان آخر مركب من مكونات لا حصر لها ولا يعرفها ماتيس، فإن لغة الخطاب الجمالي لديه تذهب في طريق مختلف عن الفنان الفرنسي، على الرغم مما يجمع بينهما من اعتبار اللوحة وسادة طرية ناعمة تهدهد الإنسان المجهد، لا أن تدفعه إلى القلق النفسي والمجهود الذهني.

فإذا كانت لغة الخطاب لدى ماتيس ترتبط بما يسمى بالنزعة الحوشية (الوحشية الضارية)، من عنف التباين بين الألوان وغلظة الخطوط وسمك الملامس وتوتر المساحات، فإنها لدى التوني قد تكون أقرب إلى "الواقعية السحرية " برومانسيتها المجنَّحة وأحلامها الوردية الهفهافة ومنطقها المغاير لمنطق الواقع، يتجلى ذلك- موضوعيا- في علاقات المشخصات في لوحاته التي تحمل كثيرا من الدهشة والغرابة والمفارقة مع المنطق الواقعي، ويتجلى- أسلوبيا- في رقة الخطوط والألوان واللمسة الحانية للفرشاة على نسيج اللوحة دون أن تترك أثراً وراءها ناجما عن سمك العجائن اللونية.. وهي خواص كانت بوادرها موجودة في معرضيه السابقين (198- 198) بدرجة أقل بروزا، حيث كانت تغلب هناك الألوان الداكنة والسوداء وهي تتباين بشدة مع الدرجات المشرقة والمساحات البيضاء، مما كان يقربها أكثر من عالم الفنانين التعبيريين... لكنه في معرضه الأخير قد تخلى بصورة واضحة عن الألوان الداكنة وعلى رأسها الأسود، وبالتالي لم يعد ثمة تباين أو تضاد بين مساحاته اللونية، وأصبح بشكل عام أقرب إلى الهمس والتجانس والشفافية والصياغة الأنيقة المترفة، مستقطراً أقصى ما تملكه الخصائص الشرقية والشعبية والطفولية من عذوبة.

الوعي والموقف الفكري

وبعض الفنانين في الساحة التشكيلية المصرية والعربية يسعون بلهفة لتحقيق هذه الخصائص، لما لها من جاذبية وقبول لدى مختلف المستويات الثقافية، خاصة محبي الاقتناء، لكن التوني- كما ذكرنا في البداية- لم يسع إليها سعيا، بل تحققت بين أنامله بتلقائية وصدق على أغلفة الكتب قبل أن يعالجها بالألوان الزيتية في لوحات بعد ذلك بسنوات طويلة... وفي ذلك تبرئة له من مظنَّة أنه ينتج أعماله ملبيا حاجة السوق لاقتناء نمط معين، فضلاً عن أن وعيه الثقافي يتجاوز مفهوم الفن كسلعة تجارية، وهو وعي يعززه موقف فكري وسلوكي للفنان حلمي التوني من القضايا الوطنية وعلى رأسها القضية الفلسطينية على مدى السنوات الماضية.