هل يمكن للعلمانية وحدها مواجهة المشروع الصهيوني؟

هل يمكن للعلمانية وحدها مواجهة المشروع الصهيوني؟

نشرت العربي في العدد (510) شهر مايو 2001 مقالاً تحت عنوان (الصهيونية بذور سوداء داخل ديانة قديمة) بقلم الكاتب طلعت رضوان. وقد نشرنا في العدد الماضي رداً على هذا المقال ونواصل في هذا العدد نشر ردين آخرين حوله.

هذا المقال الذي بدأ بداية جيدة وربط فيه الكاتب بين الحركة الصهيونية العالمية ونشأتها وبين المرجعية الدينية اليهودية.

وعرض الكاتب نظرته للموضوع وربط بين التاريخ اليهودي وكتاب اليهود المقدس المسمى بـ (التلمود) الذي ألفه حاخامات اليهود في زمن الاستعباد البابلي وتحدث عن الحركة الصهيونية ونشأتها وقد أوضح الكاتب بعد أن أكد أن الحركة الصهيونية واليهودية وجهان لعملة واحدة أن هناك تيارين متصارعين داخل المجتمع اليهودي (إسرائيل) وهما:

1 ـ التيار الديني ويمثله الحاخامات المتطرفون (حيث يشبههم الكاتب بالآيات).

2 ـ التيار العلماني وتمثله الأحزاب العلمانية.

وبيّن الكاتب أن التيار الأول يستند في دعواه إلى المرجعية الدينية التلمودية حيث يعتقدون أن إلههم المسمى يهوه قد أقطعهم جميع الأراضي ما بين (النيل ـ والفرات) ملكاً خالصاً لهم من دون الناس. حيث يحق لهم أن يخرجوا السكان من هذه الأرض بل ولهم الحق أن يقتلوهم ويدمروهم. وهم يعيشون على النزعة التوسعية على حساب الغير (من أصحاب الأرض الأصلية) ويريدون أن يفرضوا رأيهم على الدولة اليهودية.

ثم انتقل الكاتب إلى بيان أن تيار العلمانية هو التيار الذي يريد أن يقضي على النزعة التوسعية عند الدولة اليهودية وسكانها ويعيشون في سلام مع جيرانهم ولو إلى حين.

ونحن هنا ليس عندنا اختلاف على أن الصهيونية واليهودية هما وجهان لعملة واحدة هي العنصرية إذا تشكلت في صورة ملموسة.

لقد كان الكاتب على درجة من التوفيق في عرض ما أراد أن يوصله إلى القراء. ولكن الاعتراض على المقال يعني النقطة التي جاءت في خاتمته والتي قال فيها بالنص: (في ضوء ما تقدم فإني أعتقد أن خلاص الشعب الفلسطيني والدول المجاورة لإسرائيل من الفكر الصهيوني المؤمن بالتوسع والاستيطان... لن يكون إلا بدعم التيارات العلمانية في بلدانها... الخ), وفي موضع آخر: (وفي كلمة واحدة فإن دعم التيارات العلمانية في إسرائيل وفي الدول المحيطة بها هو السبيل الوحيد لهدم المشروع الصهيوني المؤمن بالتوسع والاستيطان على أسس مرجعية دينية), وفي موضع آخر أيضاً: (فهل تقبل الدول التي لها مصلحة في التخلص من المشروع الصهيوني التحدي من أجل مستقبل أفضل لسكان المنطقة? أم تظل على سياستها الحالية المتمثلة في العداء لقيم العلمانية والمتمثلة كذلك في العداء لمعنى الانتماء الوطني لصالح الانتماء الديني الأمر الذي يؤدي إلى تدعيم الأصولية في بلدانها وفي إسرائيل, مع ملاحظة أن التصدي للأصولية اليهودية لا بد أن يتزامن ويرتبط بالتصدي للأصولية في البلدان المحيطة بإسرائيل التي تساعد وتدعم هذه الأصوليات. وتكمن الخطورة في أن الأصولية في إسرائيل وفي البلدان المجاورة لها يتشابهون في الكثير من المعتقدات والمنطلقات, ولعل أخطرها أن يكون الولاء للدين وليس للوطن... إلى هنا ينتهي كلام الكاتب في مقاله.

وبعد, فإن لنا بعض الملاحظات على الأقوال التي جاءت في المقال التي ذكرناها سابقاً:

إن المقال يربط بين التخلص من المشروع الصهيوني المتطرف القائم على التوسع والاستيطان وبين إعلاء قيم العلمانية في الدول المحيطة بإسرائيل وهي دول المواجهة (دول الطوق) وربطها بالتخلص من الأصولية في هذه البلدان ـ والمقصود بالأصولية هنا طبعاً هي الأصولية الإسلامية.

ومن المعروف أن قيم العلمانية تقوم على الفصل التام بين الدين والدولة (السياسة), فلا دين في السياسة ولا سياسة في الدين, ودع ما لقيصر لقيصر وما لله لله.

وقد ربط الكاتب أيضاً في مقاله بين التقدم العلمي والتكنولوجي والمعرفي... إلخ, وإعلاء قيم العلمانية... فلا تطور من دون علمانية.

فهل مواجهة المشروع الصهيوني القائم على التوسع والاستيطان لا تقوم إلا على إعلاء قيم العلمانية.. ونبذ القيم الدينية?

وللإجابة عن هذا السؤال سنضرب بعض الأمثلة:

إن أبرز مثال في منطقتنا (منطقة الشرق الأوسط) لدولة قد أعلت قيم العلمانية ونبذت القيم الدينية تماماً من حياتها هي لبنان. فهل حمى الدولة اللبنانية إعلاؤها لقيم العلمانية ونبذ الدين من اعتداءات الدولة الصهيونية (الإسرائيلية) عليها والمتواصلة منذ أكثر من 20 عاماً لم تنقطع إلا لتبدأ مرة أخرى, وما زال ماثلاً أمام أعيننا الاجتياح الإسرائيلي للبنان حتى أصبحت بيروت هي العاصمة العربية الأولى التي يدخلها جيش الدفاع الصهيوني وما صاحب هذا الاجتياح من مذابح صبرا وشاتيلا الشهيرة التي قادها أرييل شارون, واحتلال إسرائيل لجنوب لبنان الذي استمر قرابة العشرين عاماً. فهل حمت قيم العلمانية لبنان? وكلنا نعرف أن الجنوب اللبناني لم يتحرر من الاحتلال الصهيوني (الإسرائيلي) ولم يهرب الجيش الذي لا يقهر تحت جنح الظلام مثل الفئران المذعورة إلا عندما قامت زمرة من الرجال المسلمين رفعوا راية الدين واحتموا بالمرجعية الدينية كأساس لهم. هؤلاء هم رجال حزب الله, هؤلاء هم من استطاعوا أن يقهروا كتائب الطغيان ويدحروها ويردوها خائبة... هل استطاع أحد غير هؤلاء الرجال أن يقف في وجه إسرائيل...?

وتحضرني هنا مقولة لقائد صهيوني قال ذات مرة: لقد نجحنا على مدى سنوات صراعنا مع العرب في إبعاد الإسلام عن الدخول إلى حلبة الصراع (لأنه إذا دخل الإسلام فلا مقام).

هل رأيتم أن أكثر ما يخافه قادة الصهاينة هو المرجعية الدينية التي يريد المقال أن نتبرأ منها?!.

لا ربط بين العلمانية والدين
هل صحيح هذا الربط من ناحية الكاتب بين إعلاء قيم العلمانية ونبذ القيم الدينية وبين التقدم العلمي والتكنولوجي... إلخ?

وللإجابة عن هذا السؤال يحضرني هنا مثالان:
الأول: دولة رفعت العلمانية إلهها الذي ليس له شريك ونبذت الدين بمجمله وتفصيله, هذه الدولة هي تركيا, فهل حدث لتركيا ما يتوقعه الكاتب لدولنا إذ اتبعت قيم العلمانية من التقدم العلمي والتكنولوجي... بل حدث لها العكس فنحن نرى ونسمع ونقرأ كل يوم عن الأزمات الاقتصادية الطاحنة والأزمات السياسية الخانقة والانحلال الأخلاقي وغير ذلك من الأزمات التي تعاني منها تركيا اليوم.. الأمر الذي حدا بأناس كثيرين من الشعب التركي إلى الدعوة إلى نبذ العلمانية والعودة إلى المرجعية الدينية. ولعل صعود الأحزاب الإسلامية في تركيا خير دليل على ذلك.
الثاني: مثال لدولة تمسكت بمرجعيتها الدينية كأساس لها لا استغناء عنه مهما كانت الظروف, هذه الدولة هي دولة ماليزيا المسلمة, وكلنا نرى ونسمع عن التقدم العلمي والتكنولوجي الذي وصلت إليه ماليزيا حتى أنها أوشكت أن تقف على قدم المساواة مع ما يطلق عليه دول العالم الأول أو العالم المتقدم.

هذان مثالان يوضحان لنا خطأ المقال حين ربط بين التقدم والعلمانية.

فهل ولاء الإنسان للدين يجعل ولاءه للوطن موضع شك...?

هذا كلام لا يعقله عقل.. لأن الأصل في الدين هو الولاء للوطن وحبه حتى لو كان هذا الوطن غير مسلم مع عدم المساس بالمصالح الإسلامية.. وأصدق مثال على ذلك هو أن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن من مات مدافعاً عن أرضه ووطنه فهو شهيد, والشهداء أحياء عند ربّهم يرزقون.. وقد وقف الرسول (صلى الله عليه وسلم) عندما أجبر من قبل الكفار على ترك مكة المكرمة وخرج مهاجراً وقف ينظر إلى مكة ويقول: والله إنك لأحب البلاد إلى قلبي... ولولا أن أهلك قد أخرجوني منك ما خرجت .

فهل بعد ذلك يقول عاقل إن الولاء للدين يمنع الولاء للوطن.. وهل منع ولاء الرسول صلى الله عليه وسلم للدين وهو من هو من الانتماء إلى بلده وحبها بالرغم من اضطهاد قومها له وقسوة أهله عليه? لا والله.. إن حب الأوطان والولاء لها كما أسلفت هو ضرورة دينية وليس كما يدعي الكاتب (الولاء للدين وليس للوطن).

وأرى أن الإشارة إلى المسجد هنا هي إشارة إلى المرجعية الدينية.. أي أن الله يخبرنا بأن القضية لن تحل إلا على أيدي المتمسكين بدينهم والرافعين لمرجعيتهم الدينية وليس الذين رفعوا راية العلمانية ولن يخلف الله وعده إن الله لا يخلف الميعاد.. فهل يصح لنا أن نصدق كلام بشر ونترك كلام الله? ـ حاشا لله.

 

إسلام محمد سلطان