واقعية رحبة بلا ضفاف علي أبوشادي

رؤية سينمائية لمخرج جديد

في عقد الثمانينيات بدأت تتشكل ملامح سينما مصرية جديدة مختلفة عن السينما التجارية السائدة وعن تجارب جيل السبعينيات التى فشلت في الخروج من دائرة ألحصار. جاءت" هذه السينما كانعكاس حاد واحتجاج فني على سينما "الاسطوات القديمة" فاختفت أسماء ولمعت أسماء من بينها "داود عبد السيد".

جاءت سينما الثمانينيات لتتحدث بلغة مختلفة وتتعامل مع الواقع، وتعبر عنه. وتعكس همومه، وأشواقه. وتحاول تحليل علاقاته، والبحث عن أسباب أزمته على كل المستويات، سياسية واجتماعية واقتصادية وروحية. وقد تميزت هذه الأفلام، بوعى صناعها فنياً، وفكرياً.. وقدرتهم على النفاذ إلى جوهر الواقع، والإمساك بجدليته، وطرح ذلك في بناء فني يستهدف الوصول إلى عقل ووجدان المتلقي.. وأصبحت أفلام " سواق الأتوبيس " و " البرىء " لعاطف السيد و "العوامة 70 " و " الطوق والأسورة " لخيري بشارة و" عيون لا تنام " و، الأفوكاتو، لرأفت الميهي من العلامات المضيئة في تاريخ السينما المصرية شأن أفلام محمد خان " موعد على العشاء " و أحلام هند وكاميليا " و" الحريف " و " سوبر ماركت " وكذلك " الصعاليك " و البحث عن سيد مرزوق و " الكيت كات " لداود. عبد السيد بالإضافة إلى معظم أعمال علىبدر خان، خاصة " أهل القمة " و" الجوع " إسهامات بشير الديك، ككاتب لعديد من هذه الأفلام. وتجربته الكبيرة، كمخرج، في " سكة سفر " .

التوغل في أحراش الواقع

في القلب من هذا التيار، يقف المخرج الشاب داود عبد السيد، متميزاً، ومنفرداً بين أبناء جيله بثقافته العميقة ووضوحه الفكري، وقلة إنتاجه، فهو برغم تخرجه في المعهد الغالى للسينما في مصر عام 1967 فإنه لم يحقق فيلمه الروائي الأول الصعاليك " إلا فى عام1985 ، أي بعد ثمانية عشر عاماً من تخرجه. قضاها فى إخراج عدد من الأفلام التسسجيلية المتميزة منها " وصية رجل حكيم فى شئون القرية والتعليم " الذى يناقش، بحب ساخر، ومن خلال أسلوب المقابلة والتناقض بين التعليق - والصورة موقف بعض الطبقات من قضية نشر التعليم في القرية. ثم يقدم رؤية ناضجة للعلاقة بين الفن التشكيلى والحياة. في فيلميه " العمل فى الحقل " عن الفنان حسن سليمان " وفيلم " عن الناس والأنبياء والفنانين " عن الفنان راتب صديق.. ثم يتوقف عن الوقوف وراء الكاميرا.. ويتفرغ لإنجاز عدة " سيناريوهات " وليفاجأ الجميع بعمله المهم، " الصعاليك " ثم بعد خمس سنوات ينتهي من إخراج فيلم " البحث عن سيد مرزوق (1990) الذي يعرض عرضا جماهيريا بعد عامين من إنجازه (عرض في نهاية عام 1991). وبعد عرض فيلمه الثالث " الكيت كات ".

في الأفلام الروائية الثلاثة، يتوغل داود عبدالسيد في أحراش الواقع المصري، ويختار العشرين سنة الأخيرة زمناً للأحداث ويتابع تأثير ما حفلت به من متغيرات على مختلف الأصعدة، وانعكاس ذلك على الإنسان البسيط، وعلى البنى الاقتصادية والاجتماعية..

وإذا كانت الإسكندرية هي المكان الذي تدار فيه أحداث فيلمه الأول، فإن القاهرة، القديمة والحديثة، هي مسرح فيلمه الثاني " البحث عن سيد مرزوق " بينما تنحصر وقائع فيلمه الثالث في أحد أحياء القاهرة الشعبية، حي " الكيت كات " وإن تجاوزت الرؤية حدود المكان المادي- لتشمل الواقع المصري، كله.

والفيلمان الأولان يقومان على سيناريو كتبه داود خصيصاً للشاشة بينما يعتمد السيناريو الثالث على عمل أدبي " مالك الحزين " لإبراهيم أصلان.. والأخير يعد نموذجا مثالياً للعلاقة بين السينما والأدب.. كما نلمح حساً تسجيلياً واضحا في الفيلمين الأولين، وخبرة، تتبدى في التصوير الخارجي، في العديد من مشاهد " الصعاليك "، تصل إلى ذروتها في " البحث عن سيد مرزوق " الذي يصور بكامله في الأماكن الطبيعية دون أية ديكورات، على عكس فيلمه الثالث " الكيت كات " الذي صور- بالكامل- داخل الاستوديو، وسط الديكور الرائع الذي صممه، ونفذه مهندس الديكور الفنان أنسي أبوسيف..

والمتأمل للأعمال الثلاثة التي حققها داود عبدالسيد خلال ست سنوات، يدرك أنه بإزاء فنان لا يحاصر فنه داخل إطار فني واحد، بل ينزع إلى التنوع من فيلم إلى آخر، وتقف الأفلام الثلاثة على أرض واقعية صلبة، وإن جاءت في الفيلم الثاني واقعية بلا ضفاف، واقعية رحبة، تكاد تتلامس مع السوريالية، مستفيدة من قدرة الأخيرة على القفز فوق العلاقات، والتفاصيل الواقعية وخلق عالم له منطقه الخاص يقدم على المزج بين الحلم والواقع من دون تحديد للحدود الفاصلة بينهما.

رحلة الصعاليك

نجح داود عبد السيد في تجذير العلاقة بين بطليه وبين الواقع ومعطياته خلال فترة الستينيات والسبعينيات حيث تبدأ أحداث الفيلم، في مدينة الإسكندرية عام 1962، ويتابع رحلة الشقاء التي يعانيها الصديقان. وتحايلهما على الحياة والتغلب على صعوباتها، بالعمل أو بالحيلة، وتقلبهما في العديد من الأعمال الرثة وارتكابهما الأخطاء والخطايا، والجرائم وعمليات التهريب، متلازمين، ويبرز الفيلم تلك المشاعر الحميمة التي تجمع بينهما ويؤكد على الأصول الاجتماعية المتقاربة- الأول ابن طبال والثاني ابن منجد- التي توحد مشاربهما.. وعبر عشرات التفاصيل- المدروسة بعناية- يتابع السيناريو رحلة صعودهما خطوة خطوة، منذ أن استوعبا الدرس الأول في سلم الصعيد " عملية واحدة، ضربة واحدة.. تجيبوا قرشين وبعد كده ".. خلاص، وهو ما ينجحان فيه من خلال عملية تهريب صغيرة، من داخل الجمرك توفر لهما ما يكفي لشراء سيارة نقل، سرعان ما تكبر، وتنمو، وتتكاثر.. ويكشف الفيلم عن آليات النظام الجديد، في السبعينيات، القائم على الفساد والإفساد، حين تصطدم مصالح الصديقين، بمصالح أعلى وأكبر وتتماشى مع نشاطات أخرى مماثلة، تحكمها وتسيطر عليها، مافيا منظمة وقوية، جذورها في السلطة وفروعها في شتى الميادين والأنشطة الاقتصادية.

في مشهد بليغ، يخرج الصديقان إلى شرفة تطل على ساحة جمرك ميناء الإسكندرية، يتقدمهم " الدواخلي "، أحد مراكز القوى الاقتصادية وشريكهم، صاحب القبضة القوية لاحقاً، يقفون معا يتأملون مخازنهم المتجاورة، ويحدثهم الدواخلي عن أحلامه، أو بمعنى أدق، عن أطماعه لازم المينا تبقى بتاعتنا.. بعد ما نخلص من إسكندرية فيه. بورسعيد والسويس!! " ثم يكمل. والكاميرا تصور البحر أمامهم ممتداً إلى الأفق " قدامنا مصر بحالها. وقدامنا أنحاء العالم! ! ".

وفي جملة حوار، تتسم بالحصافة، يلخص الفيلم حكمة التقاء منطق الثروة مع السياسة، وكيف- أن الثروة، مهما كان مصدرها، تصنع الساسة، والسياسة، يقول مرسى لصديقه " بعد عشر سنين.. عشرين سنة.. ولادنا حيبقوا وزرا.. وحكام.. بص لقدام وهو ما حققته الأيام!!.

وإذا كان داود عبد السيد يدين بشدة هؤلاء الذين وصلوا إلى قمة السلطة.. ويكشف عن أصولهم الطبقية، ومصادر ثروتهم الطفيلية، فإنه في " البحث عن سيد مرزوق " يوضح، الجانب الآخر من الصورة، ويدين، بعنف سلبية الذين سمحوا لهؤلاء الطفيليين أن يتبؤءوا مراكزهم، وأنهم بانسحابهم وعجزهم عن المواجهة، أتاحوا الفرصة لسيد مرزوق وعالمه أن يفرض وجوده وسلوكه على واقع الحياة في مصر، خلال تلك السنوات العشرين التي أحجم فيها بطلنا " يوسف كمال عن الخروج إلى الحياة والمشاركة فيها، خوفاً وهلعاً، وامتثالاً لصوت سلطوي، قاهر، أمره بالمكوث في بيته، لكن الفيلم، ومن خلال رفضه لما عليه بطله من إذعان، يقدم تحليلاً، دقيقاً، للأسباب والدوافع التي حدت بيوسف إلى حالة الهزيمة الداخلية المروعة، وعبر بناء هندسي محكم، يصل به إلى حافة الفعل المجهض، والتمرد الأخرس، فما زالت الشروط الموضوعية، للفعل، والتمرد، غير متحققة في الواقع، ومن ثم لابد أن تدوي في فضاء الفيلم، ضحكات سيد مرزوق، ورجل الشرطة، وأن يعجز يوسف عن إطلاق الرصاص، فالمسدس فارغ، وأن تكون اللقطة الأخيرة لأقدام جنود الشرطة، الذين يسعون إلى قمع يوسف، وحماية عالم سيد مرزوق، بالقانون، هي التي- أي اللقطة- تكشف عن ذلك التحالف بين السلطة، والثروة، كما في "الصعاليك"..

غلالة الواقع.. كثافة الرمز

بحكم تعدد مستوياته لا يفصح فيلم " البحث عن سيد مرزوق لما عن نفسه بسهولة، رغم إيغاله في الواقعية بسبب عملية الترميز التي بدت مكثفة، وشديدة التركيز.. فالواقع، في الفيلم، مجرد جسر يعبر عليه الفنان لينفذ إلى جوهر ذلك الواقع، محققاً نوعاً من الواقعية الجسورة، التي تقف على تخوم السيريالية.. من خلال استخدام منطق الحلم الذي قد يتحول إلى كابوس مفزع في لحظة ما دون أن يجعل المشاهد يفقد صلته بالوقع المباشر.. بحيث يبدو الفيلم، فى النهاية، وكأنه رؤيا طويلة في عقل، ووجدان، شخص نائم، فالبطل، يوسف كمال. نراه في المشهد الأول يستيقظ، يتحرك بسرعة للحاق بموعد بدء العمل.. يحكمه الخوف من التأخير، هذا الخوف الذي يحكم منطق حياته بالكامل، ذلك الخوف الذي أكل روح يوسف كمال، وحوله، منذ عشرين عاما، إلى شخصية سلبية. منكفئة إلى الداخل، وهو نموذج يتجاوز يوسف كمال، ينطبق، ويتطابق، مع آلاف من الشباب الذين آثروا ما تصوروا أنه السلامة.

وسيد مرزوق، و الآخر، نموذج لعالم متكامل. بدأ يزحف ليستعيد مواقعه السابقة، ونجح تماماً، في أن يتسيد، عن طريق ثروته، وأن يمثل العالم الأول من العوالم الأربعة التي ينقسم إليها المجتمع المصري في التسعينيات، " عالم السادة، الذين يملكون كل شيء، ويحميهم القانون.. وعالم المطاريد الذين يخرجون على السادة،، قانونهم، عالم الغلابة القابعين فى منازلهم وأخيراً عالم المتمردين والمشاغبين الذين يواجهون ويجابهون، بشجاعة، وقوة ".

يدرك يوسف عبر الرحلة التي " يبدو"، أنها تستغرق يوما واحداً، مدى زيف ذلك العالم الذي انبهر به، ومدى توحشه وغلظته، وأنه قائم على الكذب "كله كدب فى كدب "، ويرى الوجه الأخر للإجرام والسفالة، والنذالة، فالسيد يرتكب الجرائم ويلصق التهمة بالغلابة، ويقف في طريق حقهم في الحيلة، حيث تنتهك الكلاب البوليسية، حجرة الطفل الوليد، المعقمة. غير الملوثة بأدرانهم، والتي تمثل رغبة البعض في الحفاظ على المستقبل، باحتضان الأمل، والتقوقع داخل الذات حتى تنقشع الغمة، وينحسر الطوفان، لكن الشرطة، يد السيد المرزوق، القوية تطولهم وتئد الأمل، وتقتل الحلم وتصادر على المستقبل.. ويقرر يوسف، مع النمو المضطرد في وعيه، وإن كانت الرحلة تتم في اللاوعي- أن يجابه عالم سيد مرزوق، وأن . يتمرد عليه؟ وأن يؤكد ميلاده من جديد، وأن يدلف إلى عالم " المشاغبين " ويستشعر رغبة فى التحرر.. والتحدى، ويعلن في ثقة " حاقتلك ياسيد يامرزوق " وهنا، تقرر الشرطة على الجانب الآخر، أن يوسف أصبح من المطاريد. مثله مثل " المجرم " أحمد الشرقاوي الذي يطارد سيد مرزوق، وتطارده الشرطة، ولا نراه على الإطلاق، وهو معادل- بدلالة الاسم والرمز- للبطل الشعبي، المنتظر، الذي يسعى للخلاص من عالم السادة، عن طريق المقاومة المسلحة " أحمد الشرقاوي/ أدهم الشرقاوى ".

كل شىء إلا الحب

إن عالم سيد مرزوق هو امتداد لعالم مرسي وصلاح في " الصعاليك " عالم امتلك كل شيء إن عجز عن امتلاك الحب ، والعلم.. ومنى أو عبلة أو رضا أو نجوى، وكلها أسماء للشخصية التي تلعبها الفنانة آثار الحكيم، بما ترمز إليه هى شوق غامض للحب في " البحث عن سيد مرزوق " هي أيضاً. امتداد لشخصية " منى " في "الصعاليك " التي لم تستطع أموال صلاح الاستحواذ عليها وصمدت في وجه قانون الثروة الجائر، كما فعلت بطلة الفيلم الثاني، فكلا الشخصيتين تحلمان بالسفر، الانسحاب من هذا العالم الظالم.. الذي حاول امتلاكهما دون أن يكون مؤهلاً لذلك، صان أبدت بطلة للبحث عن سيد مرزوق" تعاطفا مع يوسف، وبدت كقطرة ماء فى صحرائه المجدبة، وإن عجز هو الآخر عن الأمساك بها، إلا فى اللحظة التي قرر فيها أن يكون إيجابياً فبحث عنها، وتلامست يداهما.. وصارت قوة دافعة له للخلاص من سيد مرزوق وعالمه، حتى يتطهر العالم من رجسه، لكن اللقطات الأخيرة في الفيلم، تعلن في قسوة، أن القوة أكبر من الحلم مادام ذلك الحلم غير قادر على التحقق في الواقع، ومادام " المسدس " فارغاً فإن الكلاب التي تتحرك صوب يوسف كمال. سوف تظل تطارده ، وأن أقدام رجال الشرطة، التي تكاد تصفع وجوه المشاهدين، سوف تطأ الحلم بالخلاص، إذا ظل عالم الغلابة مفتقداً للشروط الموضوعية للمواجهة، إذا ظلت السلطة/ الشرطة منحازة لعالم السادة، تحميهم وتحمي مصالحهم، وتذود عنهم.

في أحد مشاهد الفيلم، البديعة، يتعلم يوسف درساً بليغاً، ونتعلم معه، أن الحرية أقرب إلينا مما نتصور، وأن القيد الحديدي، أو المعنوي، الذي يكبلنا، من السهل التحرر منه، إذا امتلكنا الإرادة، فالقيد الكلبش الذي ظل يربط يوسف بالمقعد، وجعله يحمله على كاهله أينما ذهب، متوسلاً إلى رجل الشرطة كي يفك قيده، ويمنحه حريته. وحين يستجيب الضابط نراه يطلب من يوسف أن يضم أصابعه، ونرى القيد يخرج بسهولة من معصم يوسف.. وتركز الكاميرا على المقعد، يتدلى منه القيد الحديدي، وتؤكد الصورة أن الحرية أقرب إلينا من حبل الوريد إذا شئنا أن نراها !!

المكان والبشر

يبدأ داود عبد السيد فيلمه الثالث، الكيت كات! من حيث ينتهي الفيلم الثاني.. فأقدام رجال الشرطة مازالت تدق أرض الشارع. تتعسس على الغلابة، ولا تتعرض للسادة، تدور الكاميرا لتصور في رهافة وحساسية، الحياة اليومية لسكان منطقة " الكيت كات " الشعبية، وتروي، وترى، وترصد قيام عالم جديد بقيمه ومفرداته- وهو جوهر الفيلمين السابقين، على أنقاض على غارب ينتقل الى مرحلة الأفول..

من بين صفحات رواية الكاتب المبدع إبراهيم أصلان مالك الحزين، تخرج شخوص الفيلم، ووقائعه وهي المرة الأولى التي يعتمد فيها داود عبدالسيد على نص أدبى، ولذا ، فإن الفيلم ينتمى إلى الرواية بقدر ابتعاده عنها.. فقد إستطاع داود أن يتمثل الرواية ، ويعيد صياغتها، لتدخل إلى عالمه شديد الخصوصية، ومنح نفسه الحق في التعديل، والتبديل، الحذف والإضافة، !التغيير والدمج. وأقام بناء موازياً. تخلص فيه مما تصور أنه سيشكل عبئا على بناء الفيلم، وضاعف عن الأهتمام بإحدى الشخصيات (الشيخ حسني )، ربما على حساب بعض الشخصيات الأخرى، وزاد من مساحة الفكاهة، والتفكه، بغير ابتذال، لتتخلق الكوميديا من مفارقات الموقف دون تزيد.. أو إسفاف. لذا فقد جاء الفيلم، صادقاً، عذباً، أصيلاً كالرواية، وتتجلى فيه مشاعر داود تجاه شخصياته، فلا ينزلق إلى إدانتهم. بقدر إدانة الظروف التي دفعت كلا منهم إلى أن يكون ما هو عليه، راصداً في رهافة، وحصافة، متغيرات الواقع وتأثيرها على خريطة العلاقات وتطور حركة الشخصيات من خلال نماذج شديدة الإنسانية. وبناء سينمائي مشبع بروح شاعرة، ينصهر فيه الرمز، مرة أخرى- مع مفردات الحياة اليومية بخصوبتها وثرائها، وتناقضاتها، وإحباطاتها.. كما ينجح في أن يجعل من الفيلم أنشودة مفعمة بالبهجة، والعواطف الجياشة، والصادقة، تهزم في داخل المتلقي، كل عوامل الأسى"واليأس " والقنوط والإحباط، التي يحتشد بها الواقع، ويعلي من عامل الإرادة فهي فى نظر فنان الفيلم أغلى ما يملك الإنسان، وهي أداته ووسيلته لتحقيق الصعب، إن لم يكن تحدى المستحيل..

وسط ديكورات المهندس البارع أنسي أبوسيف، التي تصل إلى حد التطابق مع الواقع، واختزاله في الوقت ذاته، تدور كاميرا الفنان محسن أحمد، وتساهم إضاءته، الرصينة، في نقل مشاعر الشخصيات وتجسيد حالاتها النفسية، في إيقاع خاص، ومحسوب، لكل لقطة، ولكل مشهد، مكن المونتير الحساس عادل منير من تقديم إيقاع. عام للفيلم، هادئ، رصين، يسمح للمتلقي بالتأمل، والإشباع، ومتابعة الشخصيات فى حالات القوة والضعف، والحكمة والتهور، الوقار والنزق.

ينسج السيناريو علاقة جدلية بين المكان والبشر، وبحيث يصبح الكيت كات / المكان جزءا فاعلا من الشخصيات. وتبدو الشخصيات وكأنها منتزعة من شوارع وحواري ودروب وحوائط منازل الحي العتيق.. وإذا كان يوسف كمال، رغم مظاهر صحته البادية، يعاني عن عجز داخلى، وعدم قدرة على المواجهة ويأس دفين، فإن الشيخ حسني، مدرس الموسيقى، الذى فقد بصره، يحمل إصراراً عنيداً على تحدى عاهته ورفض العجز، بل يصل باقتناع داخلى، إلى يقين بأنه يرى أفضل من المبصرين " في النور وفي الضلمة كمان !! ".

والشيخ حسني، أحد ملامح منطقة الكيت كات، الذي تهب عليه رياح الانفتاح الفاسد.. ويظهر فيه، صبحي الفرارجي كرمز جديد وامتداد لعالم سيد مرزوق وموسى وصلاح صعلوكي الإسكندرية، والسادة الجدد في السبعينيات حيث يشتري الفرارجي، فى نهم، وشره، كل ما يستطيع من عقارات المنطقة، ليزيلها ويحولها إلى عمارات وأبراج، ومن بينها منزل الشيخ حسني، القديم، البسيط.

وربما كان البيت الرمز هو الشيء الوحيد الذي تتركز حوله بعض الوقائع وتدور في فلكه بعض الشخصيات، فهو بالنسبة لأم الشيخ حسني، رمز الأمان والمحافظة على التراث والاحتفاظ بالتاريخ- وهو الأمل بالنسبة ليوسف. إن الشيخ حسني، الذي سيساعده في الخروج من أزمة البطالة التي تكاد تخنقه فيحلم ببيعه، والسفر إلى الخارج- مثل منى، في الفيلمين السابقين- هربا من واقع محبط.. وهم حلم يائس، يائس، أجهضه بيع الأب للبيت مقابل الحصول على المخدر.. وإهداره لثمنه في جلسات الانبساط.

ونرى في يوسف، الكيت كات، ملامح من يوسف " سيد مرزوق " فكلاهما عاجز عن الفعل، فالثاني يتابع، ويطارد حلما مستحيلاً، يتمثل في الطيف الغامض منى أو عبلة، أو رضا.. يستجمع فيها رغبته في تحقيق ذاته عن طريق الحب.. وخلق علاقة حميمة مع الواقع الخارجي، بينما يظل الأول أسير دائرة الإحباط المتتالية فيعجز عن السفر وعن التواصل الجسدي مع " فاطمة " التي تمنحه جسدها، الشبق، فلا يقدر على إروائه..

الإرادة وحب الحياة

إن أفلام داود عبدالسيد، الثلاثة، تنبع من رؤية صافية حانية، متفهمة، لشخوص مجتمعه وبصيرة نافذة، قادرة على التقاط جوهر الواقع، ورغم كل عوامل اليأس والإحباط التي أفرزتها المتغيرات الحادة، خلال العقدين الأخيرين. والتي تشير إليها الأفلام بحدة، وصدق، إلا أنها، من الأعمال القليلة، التي يخرج منها المشاهد أقوى، وأصلب وأشد عوداً مما كان عليه قبل مشاهدتها، بما تمنحه له من دروس ثمينة، تبعث في روحه الإرادة، وحب الحياة، والقدرة على مواجهة الواقع، بهمومه ومشكلاته، وتؤجج في داخله الرغبة في تجاوز اليأس.. وتحدي الإحباط.. وتمتاز، بجانب لغتها السينمائية الرفيعة، وصرامة تناولها للواقع، وبنائها الفني المحكم- بأنها تسمو بالإنسان.. وتعلي من قدره، وتحترم طاقاته الخلاقة. وتنتزع البهجة من أحراش الاكتئاب.. وتفتح أمام المتلقي آفاق الرغبة في التغيير. وتزرع البسمة على شفاهه.. وإن كانت ساخرة، مرة، ومريرة.

إن أعمال داود عبدالسيد تشهد بأننا إزاء فنان حقيقي يستحق عن جدارة، ما ناله من تقدير، وجوائز محلية ودولية عن فيلميه الأخيرين. فقد حصل " البحث عن سيد مرزوق " على جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الخامس عشر (ديسمبر 1991) وحصد " الكيت كات " معظم الجوائز، وعلى رأسها جائزة أحسن فيلم، في كل المسابقات المحلية، أهلية، وقومية في مصر وتوج بسيف دمشق الذهبي، في مهرجان دمشق السينمائي الدولي السابع في نوفمبر1991. كما حقق المعادلة الصعبة حيث نال جائزة الجمهور، وحقق أعلى الإيرادات في تاريخ السينما المصرية منذ وقت طويل.. وأثبت أن الفيلم الجيد، هو أقرب وأقصر الطرق، فى عقول، ووجدانات المشاهدين.