اللغة حياة

اللغة حياة

المعاجم لا تكفي

يحسب بعضهم أنّ المعاجم اللغويّة تكفي للقطع في صحّة الكلمات والعبارات أو في خطئها، وحسبها أن تقرّ استعمالاً حتى يُعدّ صحيحاً، وأن تخطِّئه أو تترك ذكره حتى يُعدّ خطأ. ويغفل هؤلاء عن أنّ المعاجم يخطّئ بعضها بعضاً، وأنّها تقف عند عصور بعينها فلا تتجاوزها، مع أنّ اللغة تتطوّر وتتوالد باستمرار، ولا يحيط بها أحد من البشر؛ ولولا ذلك لم تنشأ في عصرنا مجامع ومؤسّسات لغويّة مختلفة، ولاسيّما تلك التي تُعنى بالترجمة. ومعروف أنّ أصحاب المعاجم أخذوا عن الرواة والشرّاح، وكم لهؤلاء من أهواء وهنات، وكافيك أن نذكر شرح الجوهريّ لكلمة «اللجِز» (بالجيم والزاي) استناداً إلى ابن السِكِّيت في كتاب «القلب والإبدال»، وهي عنده مقلوب اللزج، وسنده قول ابن أبي مقْبل:

يَعْلُونَ بِالمَرْدَقوشِ الوَرْدِ ضاحِيةً على سَعابِيبِ ماءِ الضالَةِ اللَجزِ

والحقيقة أنّ الكلمة لا وجود لها في اللغة، بل هي تصحيف لكلمة «اللجنِ» بدليل أنّ قافية القصيدة التي ينتمي إليها البيت نونيّة؛ ولذلك صحّح ابن بريّ هذا الخطأ ولاحظ الفيروزأباديّ أنّه تصحيف. وللغويّين والشرّاح تصحيفات كثيرة عرضنا لها في كتابينا اللذين تناولنا فيهما قضيّة الشكّ في أدب الجاهليّة.

الباعث على هذه المقدّمة أنّ متخرجّة في معهد الإعلام، كانت تقرأ مقالة لي، فتوقفت عند قولي: «وما تَفرّع عنها من أعمال أمنيّة» وسألتني إمّا كان الصواب هو «تَفرّع منها»؛ فأكّدت لها جواز الوجهين، خلافاً لما تعلّمتْ في المعهد؛ فضحكتْ وأقرّت شيئاً أعرفه، وهو أنّهم يدرِّسونها ما يشبه المعجم اللغويّ الصحافيّ، يختارون فيه استعمالات دون أخرى، شبيهاً بكتب الأخطاء الشائعة، كما يفرضون أساليب دون أساليب، كالبدء بالجملة الاسميّة دون الفعليّة، نحو: الرئيس فلان صرّح، وليس: صرّح الرئيس فلان؛ وكأنّ الجملة الفعليّة ليست من لغة العرب؛ علماً أنّها هنا أفصح من الاسميّة. والراجح أنّ هؤلاء يعوّلون على المعاجم أو على ما يتناقلونه فيما بينهم، أو يسمعون به، أو يتوارثونه مدرِّساً عن مدرِّس.

والحقيقة أنّ المعاجم تقرّ ما أشارت إليه الشابّة، وهو: تَفرّع الشيءُ من الشيء؛ وهو قولهم: «تَفرّع منه: كان فرعاً له» وإن زاد «المعجم الوسيط» الصادر عن مجمع اللغة العربيّة في القاهرة، استعمالاً لم نجده في ما بين أيدينا من معاجم، وهو «تَفرّع عليه» ومعناه عندهم : «ترتّب وبُني عليه»، وهذا يوضح لنا لماذا يخطّئ بعضهم استعمال: تَفرّع عن.

ولا بدّ من الاعتراف بأن الغالب على الاستعمال، ولاسيّما في القديم، هو ما أقرّته المعاجم، ومن ذلك ما رواه صاحب «العقد» لذي الرّمة، وهو:

فقلتُ لها سِيري أمامَكِ سَيِّدٌ تَفرّع مِن مَرْوانَ أو من مُحَمَّدِ

ويغلب استعمال «تَفرّع من» في الأنساب؛ لأنّ العرب يتخيّلونها أشجاراً، فيقولون مثلاً: تَفرّع مِن نبعته؛ ويتَفرّع منها قبائل؛ وقد أشار الزمخشريّ إلى قولهم مجازاً: «وأباد الله خضراءهم» أي «شجرتهم التي منها تَفرّعوا». كما يغلب ذلك في وصف المياه، فيقولون، مثلاً: يتَفرّع منه أنهار كثيرة؛ وتتَفرّع بركتان من بحر النَجَف. لكنّ الجاحظ استعمل هذه الصيغة في كلّ المواضيع، فأشار مثلاً إلى «أصول الآداب التي منها يتَفرّع العلم» وإلى «الهوى الذي يتَفرّع منه العشق».

لكن ممّا لم تذكره المعاجم، بل ربّما عرضت له خارج مادة «فرع» استعمال «تَفرّع فيه»؛ فأورد لسان العرب، مثلاً، في شرحه لمعنى ساقِ الشجرة أنّه «عمودها الذي تتَفرّع فيه الأغصان» واستشهد لذلك بيتاً لم يسم قائله، منه «تَفرّع في مفارقيَ المشيبُ». وقبل اللسان بزمن بعيد ذكر الجاحظ شعراً على لسان طير الحمام، فيه:

لقدْ عَلِمَ القبائلُ أنَّ بَيْتي تَفرّعَ في الذوائبِ والسَنامِ

كما أشار الطبريّ في تفسيره إلى أنّ الظلم يتَفرّع في معانٍ كثيرة، وروى قول الفرزدق في بِشْر بن مَرْوان: «فرْعٌ تَفرّعَ في الأعياصِ مَنْصبُهُ». فتعلُّقُ «في» بتَفرّع قريب من تعدية تَفرّع بِمِنْ، مرّة، وبإلى، مرّة أخرى؛ لكنّ في استعمال «مِن» دلالة على المنبت أو المخرج، ومعناها: فرْعٌ خرجَ من أصل؛ على حين أنّ «في» تدلّ على مكان التَفرّع، أي على مكان خروج الفرع أو الفروع، وهو الشجرة، أو مجازاً المعاني وغيرها؛ كما قد تدلّ على التقسيم، وهو المعنى الذي سنعرض له في صيغة أخرى. والطريف أنّ المعجم الوسيط، كاللسان، يذكر في مادة «البابيّ» عبارة: «ويتَفرّع فيها» ولا يذكر هذا الاستعمال في مادة «تَفرّع»، ربّما لأنّ «في» ليست للتعدية، ولا تذكر المعاجم المتعلقات بالفعل. وهذا صحيح لولا معنى التقسيم المشار إليه، ولولا أنّ لمعنى الظرفيّة خاصيّة هنا لا بد من الإيماء إليها، ولكيلا يعتقد أنّ العبارة خطأ.

أمّا عبارة «تَفرّع عن» وهي سبب هذه المقالة، فلعلّها نشأت في القرن الثامن الهجريّ، إذ اقتصر ابن خلدون على استعمالها دون سواها، ولعلّه أوّل أو من أوائل مستعمليها. ولهذا العالِم سلطة كبيرة في لغة البحث العلميّ. ومن أمثلة استعماله لها قوله في الطبّ: «ويتَفرّع عن علم الطبيعة». وقد استعملها بعده شراح الحديث. والملحوظ أنّ «التَفرّع عن» يقال في الأمور العلميّة والنفسيّة والمنطقيّة. وغني عن التذكير أن لـ «عن» معنى «مِن» أحياناً، كما في قول الآية الكريمة: «وهو الذي يقبل التوبة عن عباده» أي منهم.

ومن استعمالاتهم المتأخرة عبارة «تَفرّع على»، وتدخل في لغة أهل الكلام، وتكون في المسائل والقضايا، فيقال إنّ القضية الفرعيّة تتَفرّع على القضيّة الأساسيّة، أي تنشأ عنها أو تتبعها؛ وذلك كقول ابن حَجَر العسقلانيّ :«إنّ هذه المسألة تَفرّعَ عليها أنّ الواجب على كلّ أحد معرفة الله»، وقول الزبيديّ: «فالجوهريّ لاحظ أصل المعنى وترك ما يتَفرّع عليه». وذلك قريب من «تَفرّع عنه» لكن في ميدان الكلام،كما سلف.

وقد يتعدّى فعل تَفرّع بإلى إذا دلّ على التقسيم، ومن ذلك قول ابن النديم في ما سماه القلم الرياسيّ :«ويتَفرّع إلى عدة أقلام» وإشارة ابن خلدون إلى تَفرّع كلّ علم إلى علوم كثيرة.

وقد يتعدّى باللام أذا دلّ على النهوض أو التفرّغ، كقول بعض أحفاد الإمام عليّ بن أبي طالب في انشغال أبيه بالعبادة :«فمتى كان يتَفرّعُ للنساء؟».

وهكذا نجد أنّ المعاجم تركت معظم استعمالات تَفرّع المتعدّي بالواسطة، على صحّتها، وأنّ أصل كلّ الاستعمالات فعل تفرّع، أي صار ذا فروع، ثم ضُمِّن معاني إضافيّة اقتضت حروف جرّ مختلفة، تستخدم بحسب الحاجة التعبيريّة، وأحيانا التجديديّة، وبما يقتضيه تطوّر الحياة والنشاط الأدبيّ والعلميّ.

 

 

مصطفى عليّ الجوزو