إلى أن نلتقي

 إلى أن نلتقي

المؤرخ رجل لم يكن هناك

منذ شهور عدة، كتبت على صفحات «العربي» مقالا، أو بالأحرى قصة تستند في وقائعها إلى عصر المستنصر بالله الفاطمي، أو «الشدة المستنصرية» - كما أطلق عليها المؤرخون القدامى - فقد شهدت مصر فيها أقسى أنواع المجاعات، وفي مثل هذا النوع من الكتابات فنحن نكتب عن الماضي وعيوننا تتأمل الحاضر، فالتاريخ يعيد نفسه دائمًا، ولكن بصورة أكثر هزلية، وقد أثار هذا المقال عاصفة شديدة من غضب بعض القراء، واعتبروا أنه مملوء بالافتراءات على حاكم شبه مقدس من حكام الدولة الفاطمية، ولم أكن أعرف ذلك، واتهمني البعض باللجوء إلى الخيال، وهي تهمة صحيحة، وبالتعصب والشوفينية، وهي تهمة إن لم أفهمها، فربما كانت صحيحة أيضًا، ففي نظري أن التاريخ ليس مقدسًا إلى هذه الدرجة، ولا أريد أن أكون مغاليًا، وأردد ما يقوله البعض من أن التاريخ شيء لم يحدث، وأن المؤرخ رجل لم يكن هناك، ولكن التاريخ كما تورده الكتب الرسمية مجفف لحد الموت، مختزل ومبتور وأحادي النظرة، وهو مثلما شبّهه أحد الكتاب بشجرة المومزيا، التي يصر البعض على أن تبقى شجرة قزمة، فيقطعون جذرورها، وينشرون أغصانها، وينزعون ما عليها من أوراق وبراعم، وتكون الحصيلة شجرة لا يستطيع طائر أن يبني فوقها عشًا، ولا يجد إنسان تحتها ظلا، فالمؤرخ يريد أن يختزل وقائع السنوات الطويلة والقرون المترامية في جمل وصفحات معدودة، لا يتوقف أمام وقائع تبدو له هامشية، أو يحتفي بشخصيات لا تتصرف وفق رؤيته، فكل مؤرخ يريد أن ينشئ شجرته الخاصة، دعك من الحديث عن الموضوعية التاريخية، فلا مكان لها في علم التاريخ هذا، فهو قد ولد أصلاً من رحم الأسطورة، والأسطورة كانت محاولة الإنسان البدائي لتفسير ظواهر الكون الغامضة، ولكن الزمن في الأسطورة كان سرمديًا وأبديًا، وعندما عرف العقل الإنساني الكتابة، بدأ يعي عملية التتابع الزمني، وعرف كيف يقسم صيرورة الزمان إلى حقب وسنوات وأيام، فأخذ يكتب الوقائع على الجدران وألواح الطين والصخر والخشب قبل أن يكتشف الورق.

التاريخ هو أسطورة مروية اعتمادًا على وقائع زمنية، وفي أول أمره لم يكن يقتصر على تسجيل أفعال البشر، ولكن شاركته في ذلك شطحات الآلهة وظواهر الطبيعة وحركات الكواكب، ومازال التاريخ في بقاع كثيرة من العالم يكتب بهذه الطريقة. ويحاول كتّاب التاريخ الذين يتحرون الموضوعية الاعتماد على الوثائق، ولكن الوثيقة هي أيضًا فعل بشري، تظهر ما تريد أن تقوله، وتخفي ما لا يقال، فالفراعنة كانوا يمحون الوثائق المكتوبة على الجدران، على الرغم من صلادتها، وكرادلة العصور الوسطى كانوا يزورون وثائق الكنيسة على الرغم من قدسيتها، وبعض الحكام يختلقون أشجار نسبهم بحثًا عن شرعية دينية أو قبلية. ما حاولت أن أفعله في مقالتي السالفة الذكر، وفي العديد غيرها، أن أكتب قصة عن التاريخ، وليس التاريخ، حاولت أن أضيف بعضًا من أوراق العواطف والنزعات البشرية لهذه الشجرة العجفاء. ابتعدت عن التاريخ الكبير الذي يضم الملوك والقادة والمعارك الكبرى، وحاولت أن أكتب تاريخًا صغيرًا لعواطف البشر ودوافعهم ونقاط ضعفهم، تاريخًا قابلاً لإعادة الكتابة، يعتمد على المروية التاريخية في صورتها الخام، ولا يحمّل نفسه عناء التحقق من دقتها، فالدقة عسيرة المنال، وأكثر المؤرخين موضوعية يعتمدون على شهادات لأناس ماتوا بالفعل، ولايمكن مراجعتهم، لذلك تبقى المخيلة القصصية هي الحل الأمثل لسد الثغرات القديمة، لذلك أقول لكل الذين أغضبهم مقالي، عذرًا، كنت أكتب قصة ولم أكن أروي وقائع التاريخ.

 

 

 

محمد المنسي قنديل