أمل دنقل: الشاعر العمودى

أمل دنقل: الشاعر العمودى

ظلت القصيدة العمودية محافظة على وجودها في شعر أمل دنقل، فبين الحين والآخر .. كانت تنطلق كلما وجدت دافعا لذلك.

رحل أمل دنقل إلى القاهرة في سن السابعة عشرة على وجه التقريب ليلتحق بالجامعة ، وتردد على بعض الندوات الأدبية كي يسمع الآخرين شعره ، ولكنه ظل غير مسموع الصوت ، لا يثير الانتباه إليه ، فأحس بأن عليه أن يحيا حياة القاهرة الفعلية ، ويغوص فيها بما يكشف له عن أسرارها ، وأن ينصرف عن كتابة الشعر إلى أن يتمكن من إدراك مشهده المعاصر . وانطلق يقرأ محمود حسن إسماعيل الذي ظل على إعجابه به طوال حياته ، ويتعرف الشعر الحر بواسطة قصائد عبد الرحمن الشرقاوى وصلاح عبد الصبور التي قادته إلى قصائد أحمد عبدالمعطى حجازى والتعرف عليه كان شعره يوميا ، أى كانت تغلب عليه الصبغة النثرية والمناسبة الوقتية ، ولم تكن رؤيته السياسية مكتملة ، فعلمه أحمد حجازى كيف يغوص في اليومى إلى أن يعثر على معدن الشعر الذي يعول على فئات الحياة اليومية ، وكيف يتعمق في السياسة بما يصوغ له رؤية تسعى إلى تحقيق لؤلؤة العدل المستحيلة ، في عالم المضيئان هما الحرية والعدل.

ولكن لماذا اقترب أمل دنقل من أحمد حجازى على وجه التحديد ؟ مؤكد هناك تشابه في الشخصية: الانطلاق وروح المغامرة ، الاندفاع العاصف ، الحدية العنيدة التي لا تعرف المرونة أو التسامح في حالات كثيرة الانفعالية التي سرعان ما تتفجر بها الاستجابة كالعاصفة ، التأبى على القيود وإيثار التمرد الذي تغدو به الحياة جولات متصلة من الرفض القلق ، التقلب السمتمر حتى على مستوى المكان والإقامة . ويكتمل التشابه بعشق المدينة التي رآها حجازى في بداية حياته مدينة بلا قلب ولكنه سرعان ما اكتشف قلبها وتعرف اسرارها ، فصاغ في قصائده اللاحقة الوعى بها من حيث هى فضاء للحضور والحركة والحياة ، مستهلا توظيف مشاهدها في القصائد التي تعلم منها أمل دنقل العشق الشعرى للمدينة.

وأتصور أن هناك ما يجمع ما بين حجازى وأمل بالإصافة إلى تشابة الشخصية ، كلاهما ريفى الأصل ينطوى عشقه للمدينة على نوع من الريبة فيها ، كأنها المرأة التي ينجذب إليها الريفى وينفر منها في الوقت نفسه . وكلاهما حسى ، بوصلته الحاسة التي تتمثل الملموس والمحسوس لتعبدإنتاجه بما يكشف عن الدور البارز للمدركات الحسية في تشكيل صور الإدراك . وكلاهما استهل معرفته الشعرية بثقافة تقليدية ، عمقت في الوعى بلاغة الموروث وأسرار الأداء اللغوى . وكلاهما قرأ الكثير من دواوين الأقدمين وحفظ عيون قصائد الفحول من أمثال امرئ القيس وأبى نواس والبحترى والمتنبى ، وأضافه إليها قصائد المحدثين ابتداء من أحمد شوقى وحافظ إبراهيم وخليل مطران ، وانتهاء بإبراهيم ناجى وعلى محمود طه ومحمود حسن إسماعيل . وينطوى كلاهما في وعيه الاجتماعى والإبداعى على عناصر تقليدية تميل بصاحبها إلى المحافظة النسبية ، على الأقل في الموقف السياسى والرؤية الإبداعية.

قيم متوارثة
وأحسب أن ذلك هو ما جذب حجازى إلى التصور البعثى للصحة القومية . أعنى الحضور ، الترابى " البطريركى " الذي ينبنى على مركزية الزعيم الواحد الأحد الذي يرى فيه الشاعر مرآة لحضور وينتهى بالشاعر إلى أن يكون موازيا لحضور الزعيم الملهم ، مجسدا على مستوى القصيدة حضور الأب- القائد- المعلم الذي يعرف كل شئ ، وينقل حكمته إلى الأبناء المتلقين أو المحكومين أو الاتباع . يضاف إلى ذلك ما ظل حجازى محافظا عليه من قيم الكتابة الشعرية الموروية ، واستبقاء تقاليد الإنشاد التي تضع الشاعر الفرد في مواجهة حشود المستمعين ، والالتزام بالقافية التي تحفظ على القصيدة نغميتها ضمن علاقات الإنشاد التي تستهويها الموازاة الصوتية بين المقاطع ، والتقابلات الإيقاعية بين التراكيب ، وتؤثر التشبيه على الاستعارة ، ولا تمضى في تركيب الاستعارة إلى ما ينأى بها عن البساطة التي تتطلبها الاذن ، وتقريب المسافة بين السطر التفعيلى والسطر الخليلى ، وبين الجملة العروضية والجملة النحوية ، جنبا إلى جنب لغتها ذات الوظيفة الأمرية التي لا تخلو من أساليب الإنشاء التي يستدعيها الإنشاد.

وليست رؤية العالم التي تطرحها قصائد أمل دنقل بعيدة عن التصور التراتبى للكون الذي يواجه فيه قناع الشاعر قناع الحاكم ويوازيه بقدر ما يتعارض وإياه ، لكن من منظور العلاقات التكوينية نفسها للمركز الذي ينقض نظيره مبقيا على بنية التراتب نفسها . فالأنا المركزية التي تنطوى عليها قصيدة أمل في كل الأحوال هى المقابل الشعرى النقيض للأنا المركزية التي تنبنى حولها بنية الدولة التسلطية على المستوى السياسى الذي يرفضه الشاعر ، لكن بما يعيد إنتاج منطق المركزية في الرؤية الإبداعية التي لا تفارق مركز الأنا . وبلاغة قصيدة أمل هى بلاغة قصيدة حجازى في جوانبها المرتبطة بلوازم الإنشاد ولزوم القافية ، جنبا إلى جنب الترجيعات الإيقاعية التي تبرز الوزن في علاقته الجماهيرى.

هذه الأبعاد راسخة الجذور في شعر أمل دنقل ، موجودة منذ البداية ، ومسؤولة عن الحضور الذي أخذ يفرضه هذا الشعر في المنتديات الثقافية منذ مطالع الستينيات . ولعل عمق هذه الجذور هو الذي دفع بأمل إلى استبقاء تقاليد الإنشاد إلى آخر لحظة من حياته ، خصوصا من حيث لوازمها النمطية في علاقتها بالمتلقى الجمعى . وقد دفعت قوة هذه الجذور إلى استمرار النظم بالطريقة العمودية ، حتى بعد أن أصبح الشاعر معروفا بقصائده من الشعر الحر ، منتسبا إلى المجموعة المتردة على تقليدية الشعر العمودي . ولأن الصراع كان محتدما طوال الخمسينيات والنصف الأول من الستينيات بين أنصار الشعر الحر التفعيلي وأنصار الشعر العمودي الخليلى ، وانطوى في داخله على عنق التعارضات السياسية ، لم يتوقف أحد قليلا أو كثير ليرى تجليات العناصر المحافظة أو التقليدية في شعر المجددين الذين انتسب إليهم كل من أمل وحجازى على السواء.

صحيح أن كليهما يفسر لجوءه إلى النظم العمودي في بعض المواقف بأنه كان يريد أن يثبت لدعاة الشعر العمودي قدرته على النظم في القالب الخليلى ، ومن ثم تأكيد أن الميل إلى الشعر الحر ليس من قبيل الضعف الادائى أو الفرار من قيد العمود الخليلى ، وإنما ارتياد أفق جديد من آفاق القصيدة العربية الحديثة . وهذا تفسير صحيح في جانب كبير منه ، فقد كان على أحمد حجازى أن يهجو العقاد بقصيدة من نوع الشعر الذي يدعو إليه العقاد كى يكون الهجاء أوجع ، وكان على صلاح عبد الصبور أن يكتب عن أبى تمام مستغلا الشكل القديم ليثبته قدرته الادائية في مواجهة الأساطين المعادين لحركة الشعر الحر في ذلك الزمان . ولكن يبقى إلى جانب ذلك أمران ، أولهما أن المسافة بين الشكل القديم والشكل الجديد في عشر حجازى وأمل دنقل ليست بعيدة تماما بما يؤكد حدوث نوع من الانقاطاع الجذرى الذي يتخلص فيه الوعى من أى أثر للقديم وثانيهما أن كلا الشاعرين ظل يحن إلى الشكل العمودي الذي يتفجر منه لا شعوريا ، على الأقل في المواقف المحتدمة التي تفرض نوعا من التدويم العاطفى.

ويبدو كلا الأمرين واضحين في شعر أمل دنقل ربما بأكثر من وضوحهما في شعر أحمد عبدالمعطى حجازى ، خصوصا لو وضعنا في اعتبارنا القصائد العمودية المخطوطة التي رفض أمل نشرها وظل مبقيها طى الكتمان ، فيما عدا المجموعة التي نشرها في ديوانه " مقتل القمر " الذي يمثل شبابه الشعرى.

وينطبق الحكم نفسه على القصائد العمودية التي نشرها في التصحف والمجلات ولم ينشرها في ديوان من دواوينه طوال حياته.

قدوة فنية

ويمكن أن نضيف في هذا السياق ما قام به أمل دنقل سنة 1962 عندما أعلن المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب عن مسابقة للشعر العمودي ، إذ تقدم أمل إلى هذه المسابقة ، بعد أن نشر ما نشره من قصائد حرة في مجلة " المجلة " والملحق الأدبى لجريدة " الأهرام " والملحق الأدبى لجريدة " المساء " على السواء وفازت قصيدة أمل في المسابقة ، واستقبلها القدماء استقبالا حافلا ، ونشأت صداقات عديدة بين أمل وكتاب الشعر التقليدى ، خصوصا بعد أن ألقى قصيدته الفائزة في " مهرجان الشعر الرابع " الذي أقيم بمدينة الاسكندرية في شهر أكتوبر سنة 1961 ، وهو المهرجان الذي ناقشت بحوثه قضية التجديد في الشعر العربي ، وكانت قضية الساعة التي شغلت حيزا كبيرا من تفكير نقادنا وشعرائنا في ذلك الوقت من تاريخ شعرنا المعاصر ، ووقف عباس العقاد رئيس لجنة النثر للاختصاص صلبا كالطود في دفاعه عن تقاليد الشعر العربي القديم ، مؤكدا أن التجديد في الشعر لا يكون إلا مع الإبقاء على قوامه الأصلى الذي لا يفارق وحدةى الوزن والحفاظ على القافية . ويذهب إلى أن فن الشعر العربي تجدد عبر مراحله التايخية ، لكنه مع تجدده ظل على قوامه الذي ينمو ويتنوع ولايبطل أو ينقض ، وعلى هذه الوتيرة يتسع له مجال التجديد إلى غير نهاية في المستقبل ، ولا حاجة بأحد إلى أبطاله أو نقضه لغرض من أغراض الفنون إلا أن يكون هناك غرض سيء لايخفى على طلابه ، أو أن يكون هناك قصور عن القدوة الفنية يخفىعلى الشعراء أنفسهم ، وهم يحسونه ولا يعلمونه . ويختم العقاد بيانه الدفاعى بقوله " إن أحرى الناس أن يحتفظوا بفن من فنونهم هم أناس بلغ هذا الفن عندهم مبلغه من الجودة والوفاء ، وأصبح لهم مزية ينفردون بها بين الأمم الإنسانية جمعاء ، فإن الأمم لا تستوفى التمام في مزية من مزاياها لتنقضها وتلغيها وتمحوها من الوجود أبدا لغير ضرورة ، بل حقيق بها أن تحتمل الضرورات لتحفظ بها وتصوفها ، وهى ثمن الجمال الذي لا بد له من ثمن ، فإذا كانت مزيتنا في فننا العربي تتجدد على قوامه الذي حفظه لنا الزمن فنحن أحق من الزمن أن نصون ما يضيعه ... لا جرم نصونه معه وهو عليه حفيظ أمين.

وقد حاولت سهير القلماوى أن تطرح وجهة نظر مضادة للعقاد ببحثها الذي ألقته في المهرجان ، كما حاول زكي نجيب محمود أن يتوسط بين الخصوم ، لكن حدة الهجوم على التجديد الشعرى ، كانت تعنى في جانب منها ، هو جانب ممارسة المجددين ، استبقاءبعض العناصر العمودية ولو على المستويات اللاواعية من الوعى الشعرى ، وذلك لتأكيد الصلة بين المجددين وأسلافهم في تقاليد الشعر الممتدة التي اتهموا بمحاولة تدميرها خروجا على الروبة والديانة . ولذلك ظل شعر هؤلاء المجددين منطويا على العنصر الذي يصله بنقيضه ، والذي تجلى في الحرص على رياضة القول العمودي واللجوء إليه وعدم التخلي عنه.

أما قصيدة أمل العمودية التي فازت بالجائزة ، وأتاحت له الوقوف إلى جوار كبار الشعراء في مهرجان الاسكندرية ، فكانت قصيدة " طفلتها " التي وصفها عبد الحى دياب في عرضه وقائع مهرجان الشعر الرابع " في مجلة " الكاتب " المصرية العدد الحادى والعشرين الصادر في ديسمبر 1962 " بأنها قصيدة " لا شك رائعة في بابها " ونشرها كاملة في مجلة " الكاتب " . وظلت القصيدة منسية إلى أن نشرها أمل في ديوانه الثالث " مقتل القمر " كما لو كان يستعيد بها عهدا ذهبيا يؤكد تواصل بعض عناصره في شعره.

والقصيدة بوجه عام من قصائد أمل العمودية المتميزة ، ويصدرها في الديوان بما بعث على كتابتها من رؤية طفلة الحبيبة السابقة بعد خمس سنوات من الوداع ، مخاطبا هذه الطفلة قوله:

لا تفري من بين يدي مختبئه خبت النار بجوف المدفأة
أنا لو تدرين من كنت له; طفلة لولا .. زمان فجأة
إنما عمرك عمر ضائع ; من شبابى في الدروب المخطئة
كلما فزت بعام خسرت مهجتى عاما وألقت صدأه

استجابة عنيفة

لويبدو أن أصداء الاستجابة الموجبة لقصيدة " طلفتها " شجعت أمل دنقل على المضي في الشعر العمودي ، وعدم التخلي عنه ، ومن ثم واصل الكتابة العمودية ، وفى الوقت نفسه تجرأ على نشر بعض شعره العمودي الذي كان قد كتبه سنة 1961 في الإسكندرية ، فأرسل إلى عبدالقادر القط الذي كان رئيس تحرير مجلة " الشعر " الشهرية التي كانت تصدر في ذلك الوقت عن وزارة " الثقافة والإرشاد القومي " قصيدة عمودية ، جعل عنوانها " رسالة من الشمال " ليدل على أنه كتبها من الإسكندرية إلى الحبيبة في أقصى الجنوب ، مؤكدا غربته وحنينه إلى الجنوب الذي يتحد بالحبيبة . ونشر عبد القادر القط القصيدة في العدد السادس من السنة الأولى لمجلة الشعر " الصادر في يونيه 1964 ".

لولكن القصيدة لم تعجب أنصار الشعر الجديد هذه المرة . وجاءت الاستجابة العنيفة بالفرض متمثلة في التعقيب الذي قدمه أحمد كمال زكي على قصائد العدد كله في العدد اللاحق " الصادر في يوليه 1964 " . وتوقف أحمد كمال زكي المناصر للجديد عند قصيدة أمل الذي وصفه الناقد بأنه " أحد العموديين " ووصف قصيدته بأنها تمثيل مروع يظهر " فداحة العمودية " بل " مشكلة لفاقة الشعرية التي تتدثر بمسوح الصنعة من تقفية وتكرار ممل وإضافة اللفظ إلى اللفظ نفسه " . وفى رأى الناقد ، أن أمل لم يعش تجربة واضحة في هذه القصيدة ، وأنه لجأ إلى ايحاءات الألفاظ بل إلى مدلولاتها القاموسية ، مستعيضا عن جمودها بترديد أجزاء منها حتى لكأنه رأى في ذلك قرعا فوق رءوس السامعين ليظلوا متيقظين . ويبدو أن هذا الرفض العنيف أوجع أمل بما دفعه إلى التوقف عن نشر قصائد العمودية إلى قصيدة الشعر الحر ، ومن ثم المضي في الطريق الصاعد لقصائد من نوع " كلمات سباتاكوس الأخير " المكتوبة في شهر إبريل سنة 1962 وقصيدة " العشار الأخير " المكتوبة سنة 1963 إلى أن استجمع قواه الإبداعية الجديدة سنة 1966 وكتب قصائده " الأرض والجرح الذي لا ينفتح ، إجازة فوق شاطئ البحر ، موت مغنية مغمورة ، ظمأ .. ظمأ ، بكائية الليل والظهيرة " التي أرهصت بكارثة العام السابع والستين ، وكانت إلى جانب قصيدة " البكاء بين يدى زرقاء اليمامة " بداية الحضور القومي لشعر أمل دنقل الذي سرععان ما أصبح فارس قصيدة " البكاء بين يدى زرقاء اليمامة " بداية الحضور القومي لشعر أمل دنقل الذي سرعان ما أصبح فارس قصيدة ما بعد العام السابع والستين . ولكن هل أدى ذلك إلى اختفاء العنص العمودي في شعر أمل ؟ لقد ظل هذا العنصر محافظا على وجوده ، ابتداء من القافية التي رأى فيها أمل قمة موسيقية لابد من الاستفادة منها حتى النهاية ، ووصلها بالوزن بما يدعم علاقات الإنشاد ولوازمه . ولم يقتصر الأمر على ذلك ، فقد ظلت القصيدة العمودية تتفجر بين الحين والحين كلما وجدت الدافع إلى ذلك ، وعلى نحو ما حدث في المرثية التي كتبها أمل بمناسبة وفاة طه حسين سنة 1973 بعنون " لا أبكيه ".

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات