مهرجان كان... تيارات ومدارس: الفن ضد التجارة

سوناتا الألوان

كان الجمال آلة عود يحتضنها عبدالعال ليعزف على أوتارها لحناً إبداعياً، لإسعادنا، وكأنه يسبح بموسيقاه لجمال ما خلق الله.

هذا الإيمان النبيل هو أول مفاتيح أعمال الفنان عبدالعال حسن، وإذا كانت قضايا الفن منذ الحضارات الأولى فيما هو نفعي أم جمالي، ورغم تواتر العلاقة بين الاتجاهين حينا هي قوية، وآخرى واهية، فإن مقولة "أرسطو": أن الفن هو تقليد الطبيعة في تسام، معنى أن مهمة الفنان لا تقف عند حد انقل المظهر الحسي للأشياء والموضوعاتكما هي في الواقع، بل تتعدى ذلك ليصل إلى خلق صورة أو نموذج يخضع للقوانين الطبيعية هذه المعاني الأرسطية دون تعمند وادعاء، مع تأكيد أن الفن بالفعل جمالي ونفعي سيجدها الملتقي واضحة في أعمال هذا الفنان، ذلك أن فناننا من أبناء حضارة متوغلة في عمق التاريخ بتوالي عصورها كانت دائما فنونها تتفاعل مع الحياة ومع البشر، تلمس الواقع وتهيم إلى خيالات مستقبلية، يسكنها نوع من التسامي، يوصلها إلى خلود ، لأن صدقها كان قويا للدرجة التي سمحت بتثبيتها في وجدان الإنسانية..

* ... لهذا فأن عبد العال حسن حين يرسم فإن محاولته المستمرة في تجميل الواقع هي شيء من البحث عن مثالية اللوحة، وتأكيد للوحة التكافل الذي يسعي إلى القيام بدور إسعادي ، حساً، وجمال شكل، ولعل الفنون في شرقنا وظفت بهذا الشكل فهي لم تكن كالمرآة، ينظر اليها من الأمام، هي كما الحال في الفن الفرعوني كالنخيل، قائمة، تلف حوله، نستظل تحته، نصعده لخير فيه، نرتكن علية في عصاري المحبة، ونرقص حوله في ليالي السمر، وهذه الفنون التي عانقت الحياة فاستمر وجودها هي أرض هذا الفنان.

ويقال إن أبناء الحضارات القديمة تسكنهم صفات إبداعية، هذه المقولة وفي معرضه الأحير، والذي أقيم بالقاهرة كانت هناك دلالات، وعلامات ، ورموز تؤكد على أن المبدع، الصادق، لا حائل بين إبداعه أيا كان، وبين التلقي.

الإبداع الوظيفي

وإذ كان عبد العال حسن أحد مخلصي الإبداع الوظيفي الموجة "رسومه في المجلات والصحف وأغلفة الكتب" إلا أن أعماله الأخيرة التي لم يبدعها بقرار مرتبط بظروف وناس وعمل ومادة، أعمال خالصة، كأن يرسم لنفسه، تلك الأعمال والتي تعدى عددها الستين لوحة، تنوعت مصادر إيحاءاتها، واختلفت أرشيتها الجغرافية، لكنها كانت عن الإنسان الطبيعة، آخذ من البشر أجمل ما فيهم، والمرأةـ وريم المرأة أجمل مراحلها، الصبا، لهذا سمي معرضة "بنات مصر" بنات القرية، الحارة ، ينات المدينة وبنات الظروف الطيبة، والرائقة.

تحول المعرض إلى قاعة إسعاد ، وفتح عبد العال فيه شبابيك الرؤية في بيوت الإرحة، فدخلت شمس تطرد برودة إبداعات تتناثر تحت مسميات كثيرة، وافترش أرض سجاد قيم تفتقدها معارض جدباء تحمل شعارات جوفاء، وتلونت الجدران لنرى نباتاتها النادرةـ وزهورها الفريدة، في جولتك داخل هذا العالم الجميل والحديقة الثرية، واللوحات المؤنسنه تصالح عينيك خصوبة الواقع، تصافح عيناك جمالا تتوقه، وتبتسم لملامح تتودد إليك، فتودها.

.... من بحيرة المنزلة، ومن الأقصر وأسوان، من قري الصعيد، ونجوع بحري، من رشيد وبورسعيد إلى الإسكندرية ومرسي مطروح، من بدو سيناء والعريش ومن فتيات البرلس، اختار عبد العال بريشة تحمل كما كبيرا من حنو الأبوة، وإعزاز الأخوة، اختار، فرسم، فوصل لنا، ولذاته التي تحمل الكثير من الحب الكثير من الحب والحياة، لا تعرف هل يرسم عنهم، أو منهم، لكنك تدرك إنه يقدم لنا هذه الوجوه الصافية، بملامحها الودودة، وبهجة تفاصيلها وكأنها زهور يهديها لنا في فازة اللوحات، محتفيا بنا، ومحبا، وقد بدت في اللوحات مدى استفادة عبدالعال من دراسته للديكور والتي تخرج فيها بإمتياز سنه 1967 من كلية الفنون الجميلة، أيام كانت كلية الفنون الجميلة تتلقف الموهوبين، ولعل تقديرة العالي يعكس لنا مستوى هذا المبدع منذ كان طالبا. وبعد تخرجة التحق الفنان افترة تجنيده بالقوات المسلحة، التي كانت مرتبطة على ضفاف القناة، وشارك في أجمل سنوات كفاح مصر في القرن العشرين حتى حضر أنبل انتصارات شعبه في العاشر من رمضان ـ أكتوبرـ 1973، وتلك الحرب التي وضعت العدو في مكانه الطبيعي، وجعلته يفيق من غروره المسكر، هذه الحرب كان أبناؤها يحملون إنتماء لا حد له.

وحين خرج الفنان من القوات المسلحة بعدما عاشت لوحاته أحداث الوطن وعانقت عيناه الماء والرمال ووجوه الرفاق، وأفاقت الروح وذاق طعم الفرح والذي احتل مساحات كبيرة من وقتها في إبداعات هذا الفنان.

البنات .. أحلى الكائنات

اختيارات عبدالعال للبنات تأكيد لكلمات صلاح جاهين فهن احلى الكائنات.. هي جميلة في الحقل، وجميلة في السوق، وجميلة في الانتظار، كما هي جميلة في لحظة الوجد، جميلة الملامح وذلك اختيار نبيل الفنان والذي يؤكد في إبداعه لها جمال الروح، هناك لوحتان كمثال لفتاتين الأولى عائدة من السوق، والثانية ذاهبة إلية، الأولى الخلفية واضحة يزغرد خلف الفتاة اللون الدافئ الساخن، وفي الأمام مع حركة الدابة "حمار" تبتسم الفتاة وكأنها ، موفورة الأمان، والثانية يسبق اللوحة ابتسامة الفتاتين الركبه والراجلة، والخلفية تأثيرية، يلفها غموض القادم وكأنه معنى لعدم معرفة الرزق المرتقب، هنا تتضح قدرة الفنان على التعبير عن الحالة الوجدانية والنفسية بشخصيات لوحاته .. عنزة .. يملئ وجهها بالترقب المتفائل، تحس وكأن الابتسامة تقف خلف باب الفم تنتظر إذن الأمان للدخول، ولوحة أخرى، وجة يمتلئ بالصحة ، به شجن وليس حزناـ أمام الوجة مساحة من اللون الشمسي الأصفر، والخلف من الأزرق الأمام شروق والخلف غروب إنه يتطلع دائما لأن يصحب بناته المرسومة إلى الصباح. أليس هذا حباً؟!

وفتاة أخري في لوحة راعية الغنم جبل من الحزن والتفاءؤل في فورم إنساني ليست به تجاوزات وملامح ودودة جميلة، وملابس غامقة لتدع الوجه يظهر كشمعة وسط الظلام وفي الخلفية أيضا عنزة وتحولت الخلفية الأخيرة إلى مسطحات لونية تغطي إيقاعات تدريجيا كي تنطق بقدرات الفنان على عمل التوازن اللوني والذي مؤكدا هو عاليا في التكوينات المرسومة بوعي وتمكن. هناك لوحة أخرى "ذات قيمة" تبدو فيها الفتاة يحاط وجهها بوشاح به فورم نحتي والجلباب بالمدرجات الزرقاء وقميصها البادي أسفلة أبيض وفوقه على صدرها معلقة تحمل كلمة الله وكأنها ترديد باللون لما سوف نقوله عن أعماله، أما الوجه فهو جميل به غموض مستحب ونظرة عميقة تأخذك معها، وتجذبك إليها.

أمال أعلى الوشاح فهناك غطاء باللون الأحمر، إنههنا يلعب بالألوان وكأنه يرص جماله في غرفة راحته كما يشاء وهكذا ينطلق في أكثر من أربعين لوحة عن البنات.

عبدالعال حسن إن شئنا أن نصفه، بالحق هو واحد يحمل الآن على كاهل فرشاته مسئولية استمرار فناني البورترية الذي يحفظ اسم أحمد صبري ومحمد حسن ويوسف كامل والبناني وبيكار وصبري راغب وجمال كامل وعز الدين حموده، يحمل هذه المسئولية ووراءه جيل ينظر إليه بحب وإعجاب لأن الفنان المتخصص في البورترية نادر، لكنني أعرف أن محمد طراوي وفرحات زكي وإبراهيم غزالة وغيرهم من الجيل الجديد يهتدون بعبد العال، ذلك الفنان الذي مزحت اعمالة عدة مدارس كالتأثيرية، والانطباعية والواقعية ، لكي تصلنا لوحاته تحمل معاصرة، واستشرافا، مع الالتزام والتمكن.

... إنه يذيب اللون فيذوب الحس، ويمزح الدرجات فتمزج اللمسات، فتؤثر، وتنطلق باحلى النغمات.

هذا الفنان محب ومؤمن، وما أحلى أن تكون اللوحة قربان محبة للإنسانية.

 

إبراهيم عبدالملاك

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




وجه نسائي يكتنفه الشجن .. ولكن هناك ثمة أمل





في الأسواق حيث يزدحم البشر





ترك الشجن على وجهها أثرا ولكن الفنان متفائل





ذاهبتان إلى السوق ترتقبان نصيبهما المجهول من الرزق