قاهرة المعز تُبعث من جديد مصطفى نبيل عدسة: رضا سالم

قاهرة المعز تُبعث من جديد

حين تدخل من باب زويلة ببرجيه, فكأنك تنزلق إلى عصر آخر. يظهر المشهد المهيب, وتجد نفسك أمام مدينة جليلة, فتطل أبواب القاهرة على أروع الآثار الفاطمية, وتجذب هذه الآثار ريشة عدد من الرسامين, نقلوا الكثير من اللوحات للعصر الفاطمي بتجلياته التي تميزت بالسحر والخفاء, وهناك لوحة شهيرة لباب زويلة بشموخه مع مسجد المؤيد لدين الله والساحة أمامهما.

أنت في شارع المعز لدين الله, وجها لوجه أمام فن العمارة في القرون الوسطى, تقرأ هذا التطور على الحجر, وتلمس التناغم العميق بين البشر بروحهم الساحرة ووجوههم السمراء, مع القباب والمآذن التي تتضرع إلى السماء.

وتبدو واضحة تأثيرات العمارة الأرمنية على أسوار القاهرة وأبوابها, فقد أقامها بدر الجمالي الأرمني الأصل, ولم يتبق من السور الفاطمي سوى الجزء القائم بين باب الفتوح وباب النصر, أما بقية السور فقد بني أيام صلاح الدين.

لم تقم القاهرة بين يوم وليلة, إنما هي عصارة الفن والفكر لأجيال متعاقبة, وهي لهذا تفتن زائريها, مبان عتيقة يتراكم عليها التاريخ, آية في جمال فن المعمار, وتقدم هذه المباني نماذج تحكي في صمت حكاية تتابع أجيال من البنائين العظام, هؤلاء الذين عكفوا في العمل في تبتل وصبر, ومضوا, لم يذكر أحد أسماءهم.

وربما منعهم من تم تسجيل أسمائهم, كما نرى في عمارة مدن القرون الوسطى, لأن السلطان أو الأمير يحجبهم!

الأزهر الشريف

أقيمت القاهرة الفاطمية, حول الأزهر الشريف, بعد أن تحلقت حول قصر الحاكم, وهنا نحن في قلب الشارع الأعظم الذي أطلق عليه شارع المعز لدين الله, وهو الشارع الذي يربط بين باب الفتوح وباب النصر شمال المدينة, وباب زويلة جنوبها,  والذي تقع منطقة بين القصرين في وسطه, والذي كان من أطول شوارع القاهرة المعزية, يصب فيه العديد من الدروب والأزقة, ويضم الكثير من الآثار, يصفه المقريزي بعد ذلك.. (كان به أكثر من 12 ألف دكان, يباع فيه أشكال البضائع مختلفة الأنواع).

يحيط بالقصر قصور الأمراء والوزراء, وفي الدائرة الأوسع التجار والعامة, وعند أطراف المدينة تمتد المزارع ومن يفلحها.

وبعد أن انتقل القلب - الحكم والقادة - من هذه المنطقة تحولت بالتدريج إلى مخازن ومتاجر وورش, وأقيمت دور متداعية تتساند, فوق خرائب قصور الخلفاء, وعلى الرغم من ذلك ظل التاريخ منقوشًا على جدرانها, ومسجلاً على نواصي دروبها.

وقدر لهذه المنطقة أن تضم أقدم جامعة في الدنيا, جامع الأزهر, أحد مفاخر الدولة الفاطمية, والذي ظل جامعًا وجامعة, ومنارة مضيئة, كان في بدايته مركزًا للمذهب الإسماعيلي, واسمه تيمنًا باسم السيدة فاطمة الزهراء, وظل الأزهر كعبة للراغبين في المعرفة, ويقف إلى جانب جامع القرويين في فاس, وجامع الزيتونة في تونس.

وكان الأزهر يدرس المذاهب الفقهية الأربعة, وأضاف الشيخ محمود شلتوت المذهب الجعفري.

ولا يحتفظ مبنى الأزهر, إلا بالقليل من بنائه الأصلي وزخرفته القديمة, فأخذ الحكام يضيفون إليه على توالي العصور.

ومنذ القرن قبل الماضي, أخذت المدينة تهجر ظلال المقطم, وتزحف نحو نهر النيل, وينتقل القلب نحو الغرب, ويمكن متابعة انتقال القلب من الأزهر والموسكي إلى العتبة والأزبكية, ومن القاهرة العتيقة إلى القاهرة الحديثة. أي انتقل القلب من سند جبل المقطم ليطل على النهر.

وقديمًا أخذت تبتعد عن النهر, الفسطاط والعسكر والقطائع, وأقدم أثر إسلامي هو مسجد ابن طولون, الذي أقيم فوق ربوة عالية, وبعدها صعد صلاح الدين الأيوبي إلى قلعة الجبل, وتظل الجمالية على اسم بدر الدين الجمالي, والغورية على اسم السلطان الغوري, ولم ينقل مقر الحكم من القلعة إلا في عصر الخديو إسماعيل.

نقش الزمن

والجولة في هذه المنطقة, جولة في الزمان والمكان, فما تراه ليس مجرد أحجار مرصوصة, بل نقوش تركها الزمن, ونتوقف أمام بعض هذه الآثار, نتأملها, ونحاول فك شفرتها, حتى تروي لنا الوقائع وتستحضر الأحداث والتاريخ, ونتحاور مع أيام عزه ولحظات انكساره.

كانت هذه البقعة يومًا, مدينة ملكية مقدسة, تعيش داخل الأسوار, وتغلق أبوابها ليلا, ولا يسمح لأحد من الأهالي بتخطي تحصيناتها, تحتضنها السفوح والتل من الشرق.

ويروي هذ المكان تاريخ الدولة الفاطمية, قيامها ونهايتها, وجانبًا من تاريخ القاهرة, يوم كانت عاصمة الشرق ومقر نصف الخلافة الإسلامية التي تقاسمتها مع الخلافة العباسية, وقلب العالم الإسلامي, وكانت قبلها ولاية تابعة, وأصبحت الرأس والعاصمة, تضم كلا من شمال إفريقيا غربًا والشام شرقًا واليمن جنوبًا.

نقطة البدء تلك الأطلال التي كانت يومًا مركزًا للدولة, تلمح هنا بقايا مجد قديم, وتختلط بعض المباني التاريخية العريقة مع علب الأسمنت, وتحمل المنطقة اسم (بين القصرين), قصرا الخليفة الشرقي والغربي, وإذا كانا قد اندثرا, فقد ترك كل من المؤرخين والرحالة وصفا دقيقا لأيام العز, فقد كانا من عجائب الدنيا عمارة وفنا.

وعرف هذا الشارع تاريخيًا باسم الشارع الأعظم, وأطلق عليه اسمه الجديد أي شارع المعز لدين الله سنة 1937, وكتب المستشرق الفرنسي جاك بيرك يصف تعرجه, أنه يهدف إلى حماية رواده من أشعة الشمس الحارقة طوال فصول العام, ويتعدد فيه التوجيه بالنسبة للشمس والرياح, ويعطي رواده فرصًا أرحب للتهوية والظل.

ويثور بين وقت وآخر السؤال التالي.. أين مشروع إحياء القاهرة المعزية? ولماذا تأخر استكمال هذا المشروع, الذي يجعل للقاهرة العتيقة حرمتها, ويحظر فيها مرور كل أنواع المركبات, وتزال منها العشوائيات, وتنقل منها الورش الضارة بالآثار, وهو المشروع الذي يقضي بترميم آثارها وصيانتها?!

فهذا الشارع وما يصب فيه من حارات, وما يحيط به من رموز, مثل واضح لما كانت عليه القرون الوسطى, هو أغنى مناطق العالم بالآثار الإسلامية, التي قاومت عوامل الزمن, وتضم آثارها كل مراحل تاريخ مصر الإسلامية, آثار أيوبية, ومملوكية, وعثمانية.

اكتشف المسئولون أهمية هذا المشروع, عندما لاحظوا, أنه لا تزور شخصية مهمة مصر, إلا وتطلب زيارة هذا الشارع, مثل الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا, وهيلاري كلينتون زوجة الرئيس الأمريكي السابق, وغيرهما من السياسيين والمفكرين والأكاديميين.

ولم يعد مقبولاً أن تظل هذه المنطقة على حالتها المزرية.

ويأمل أهل القاهرة أن يصبح شارعهم مثل الشوارع القديمة في روما, إحدى عواصم الفن في العالم, والتي حافظت على مبانيها بطابعها وعمارتها, والذي يزورها, يشعر بأنها (متحف مسكون) يجمع بين الحيوية والعتاقة!

ولا يجوز تغيير طراز المباني القديمة, ويعاد طلاؤها بالألوان ذاتها, ويمكن لصاحب البيت أن يغير داخل بيته, على أن يحافظ على واجهة المبنى, ويرسمه طبقًا لقواعد خاصة.

ويدهشك أن تفريغ هذه المنطقة, وترميم آثارها كان موضوعًا متكررًا في المجالس النيابية المتعاقبة, وقدمت الحكومات المختلفة الكثير من الوعود التي لم تنفذ, منذ سنة 1881.

وعلى الرغم من قطع شوط كبير في إحياء شارع المعز, وبالرغم من ترميم عدد من الآثار, والذي بدأ بترميم بيت السحيمي ومنطقة الدرب الأصفر. والغريب, أنه كلما زادت المطالبة بترميم الآثار والحفاظ عليها, زاد تدهور حالها, وعانى الشارع من الشيخوخة وانسداد الشرايين, وكأن طاقة الإنقاذ أكثر وهنًا من تأثيرات الزمن, وطاقة الصيانة أضعف من عناصر الانهيار.

ولم يقصر الكتاب - يومًا - في التحذير من إهمال الآثار, والمناداة بإنقاذها, واستوحى الروائيون والتشكيليون من عراقة هذه المنطقة عددًا من أعمالهم, وعلى رأسهم كل من نجيب محفوظ وجمال الغيطاني, وتركت القاهرة القديمة بصماتها على أهلها, وقامت الكثير من الجمعيات الأهلية التي تبدي استعدادها للمشاركة في حماية الآثار.

تزخر المسافة بين البابين (الفتوح) و(زويلة), بما يزيد على خمسة عشر أثرًا, إضافة إلى أضعاف هذا العدد في الحارات, أسواق ومساجد وحمامات وخانات وأسبلة.

يستمر المقدس وتزول القصور.

تظل الجوامع وتندثر المدارس والخانات والحمامات!

نقطع الطريق المتعرج, ونشق طريقنا بصعوبة وسط الزحام, ويصر قائد شاحنة على أن يشق طريقه وسط هذا الصخب, ولا يرفع يده عن بوق سيارته, ولا يدرك إلى أي حد يخدش حرمة المكان!

تحول الكثير من التعديات دون رؤية جمال معمار الكثير من المباني, حتى أنها تغطي الأكشاك والمحلات بالكامل, على واجهة جامع صالح نجم الدين أيوب!

ويختلط عطر الماضي بروائح بقايا المأكولات, وتتشبث الصناعات التقليدية بآخر معاقلها.

ومن رأى ليس كمن سمع, أقطع الشارع أكثر من مرة ذهابًا وإيابًا, وأتوقف أمام علامات رئيسية.

الحاكم بأمر الله

أقف مأخوذًا أمام مسجد الأنور, الذي أتمه الحاكم بأمر الله, بعد أن بدأه ولم يكمله العزيز, تظهر المئذنتان المميزتان بطرازهما الخاص, وتتداخلان مع باب الفتوح. الشارع مازال يتعرض لعمليات حفر لتجديد شبكات المياه والصرف الصحي, والعمل على خفض الشارع حوالي متر حتى يكون عند مستوى الآثار.

وهذا المسجد من أوائل المساجد التي تم ترميمها بمبادرة من جماعة (البهرة), ويماثل تخطيطه جامع ابن طولون, وأخذت أتأمل مدى ازدهار الفنون كالتصوير والخزف والخشب, ويصف المقريزي صورًا ونقوشًا ملونة اندثرت, من بينها صورة لسيدنا يوسف في الجب, ووصف لمخطوطات فاطمية مزينة بالصور لم يصل منها شيء!

ويذكر الرحالة ناصر خسرو.. أن الحاكم اشترى مسجد عمرو بن العاص, كما اشترى المستنصر مسجد ابن طولون بثلاثين ألف دينار!

وسادس الخلفاء الفاطميين, الحاكم بأمرالله, هو الإمام الإسماعيلي السادس عشر, يمثل أحد الألغاز والشخصيات التي يختلف حولها المؤرخون اختلافًا واسعًا.. يقدره البعض إلى حد التقديس ويتهمه البعض الآخر بالجنون, فسيرته تزخر بالغرائب والتناقضات, يقول المقريزي, (كان يعتري الحاكم جفاف في دماغه, لذلك كثر تناقضه, وكانت أفعاله لا تعلل, وأحلامه ووساوسه لا تئول..).

ويصفه المستشرق الألماني ميللر.. (مازال الحاكم لغزًا.. فهو من أعجب وأغمض الشخصيات التي عرفها التاريخ).

أما من يرونه أحد الشخصيات التاريخية البارزة, فلأنه أنشأ (دار الحكمة) دار العلم الشهيرة, وتجديده الجامع الأزهر, وأنه لم يغرق في أبهة السلطة ومظاهرها, وعف تمامًا عن مال الأهالي, ووضع نظامًا خاصًا للبر بالفقراء, وأعتق كل ما يملك من الرقيق, حتى قال عنه الأنطاكي.. (إنه أظهر من العدل ما لم يسمع به..), ويصفه عبدالله عنان.. (اشتهر الحاكم بالزهد والورع والتقوى), أمن الناس على أموالهم, ولكنهم غير مطمئنين على نفوسهم! فهو كثير العبث وسفك الدماء, حرم بعض الأطعمة مثل البقول والجرجير والملوخية, وفي عهده حرقت الفسطاط, كما فكر في نقل الحج من مكة إلى القاهرة!

حتى أنه أصبح خطرًا على مستقبل البيت الفاطمي, فتصدت له أخته سيدة الملك, وأمرت بقتله, عندما امتطى دابته وصعد إلى جبل المقطم متأملاً, وزعم بعض الغلاة أنه رفع إلى السماء, وظهرت طائفة من أتباعه هم الدروز.

جامع الأقمر

نقف أمام أجمل الآثار الإسلامية وأخلدها, أمام جامع الأقمر الذي يقع في منتصف شارع المعز, وتروي زخارفه جانبًا من تاريخ الفن, أقام هذا الجامع الخليفة الآمر تخليدًا لذكراه, والتي كانت حياته خليطًا بين الملهاة والمأساة التاريخية, وقد لقي مصير الحاكم ذاته!

على أي حال, إنه أول جامع يقام داخل القاهرة منذ بنى الحاكم جامعه, وله واجهة كانت الأولى من نوعها, ونقلها المتحف القبطي عام 1903 مع تغيير بعض رموزها, فقد تميزت الفنون الفاطمية برهافة الذوق وبراعة التصميم, وقدم هذا العصر  تحفًا شهدت ثورة في الفن, فلم يكتف الفنان بالزخارف النباتية والهندسية, بل ظهرت موضوعات زخرفية تستمد موضوعاتها من الحياة, ولعل متحف النسيج وما يعرضه من قطع فاطمية دليل على ذلك, وهو المتحف الذي أقيم في سبيل محمد علي, والذي كان مدرسة النحاسين المواجهة لمجموعة برقوق, وهو جزء من مشروع القاهرة المعزية.

وتتميز العمارة في جامع الأقمر, باستخدام الحجارة في البناء, والعناية الخاصة بصقلها مما أدى إلى جمال الواجهة, ويلاحظ أن بناء القباب جزء من تطور تقاليد العمارة الفاطمية.

وهي أول واجهة تبنى بالحجارة لمسجد بالقاهرة, وعني بزخرفتها, وظهر في واجهة المسجد أشكال المقرنصات لأول مرة.

وقتل الآمر مثل جده, ولكن ليس وهو يصعد الجبل ليتأمل, وإنما وهو في طريقه إلى جزيرة الروضة, للقاء عشيقته إحدى الجواري البدويات التي أقام لها بناء مثل الهودج..!

وتحصل مأساته من امتزاج العشق بالسياسة, واختلاط الحب بالموت, فقد نجح النزاريون في الوصول إليه, أي اتباع نزار الابن الأكبر للمستنصر, وعلى الرغم من ذلك أبعد, واختير الأخ الأصغر المستعلي, المتزوج من ابنة بدر الجمالي, الوزير الذي يمسك بين يديه بخيوط السلطة, وكان ما جرى بمنزلة انقلاب, وقتل نزار, وظل أتباعه وعلى رأسهم حسن الصباح الذي زار القاهرة وسجن فيها سنة 496هـ.

وكان للآمر ابن كتم أمره, وتم تهريبه إلى اليمن, فأصبح على رأس دعوة جديدة انتشرت في اليمن والهند.

وتنقسم الحركة مرة أخرى إلى طيبية مستعلية, نسبة إلى الطيب ابن الآمر, وحافظية نسبة إلى الحافظ عبدالمجيد, وسقطت الدعوة الحافظية مع سقوط الدولة الفاطمية.

الشقاق!

ظل الفاطميون يحكمون من مدينتهم المقدسة, وكانوا مقتنعين بصحة أفكارهم ومواقفهم, وأقاموا علاقات تجارية واسعة مع جنوب غرب أوربا. وقوة الخلفاء في الاستفادة من الجميع, فأصبحت مصر مركزًا مهمًا, وبرز تنوعًا وثراءً في كل المجالات.

وقام الإسماعيليون بدور فعّال على مسرح التاريخ الإسلامي, ولا يظل شيء على حاله, وظهر أحد أسباب ضعف الدولة, باعتمادها على الأعقاب, من الأب إلى الابن الأكبر, وتلاعب الوزراء بالأمر, يختارون الإمام الذي يريدونه حتى لو لم يكن صاحب الحق, ووصل صغار السن إلى الحكم, فتولى الخلافة تسعة, بينهم ثلاثة من المراهقين, وخمسة لم يبلغوا الحلم, وكانت النهاية تحالف الوزراء مع بعض أمراء الفرنجة خلال الحروب الصليبية, خلال الصراع بين شاور وضرغام, وعندما عجز شاور عن الدفاع عن الفسطاط أمر بحرقها, والذي استمر خمسة وأربعين يومًا.

ووصلت الدولة الفاطمية في أوائل حكم المستنصر إلى أقصى اتساعها, فضمت مصر والشام وشمال إفريقيا وصقلية والساحل الإفريقي للبحر الأحمر والحجاز واليمن وعمان والبحرين والسند.

واتسعت الدولة الفاطمية بواسطة الدعوة وليس عن طريق الحرب!

داعي الدعاة

وارتكزت الدعوة على تنظيم محكم, ودعاة يصلون بدعوتهم إلى كل مكان, وعلى الرغم من أن معظم كتابات (الإسماعيلية) قد اختفت بعد سقوط دولتهم, فإنه جاء صوت من الحاضر يكشف قدرة الدعاة على إقامة تنظيمات سريّة قوية, تأخذ بالكتمان وتلزم الخفاء.

وهو صوت داعي الدعاة المؤيد لدين الله الذي روى سيرته الذاتية, وهو الكتاب الذي عثر عليه وقدمه, د.حسن إبراهيم حسن, وكشف الكثير من المسكوت عنه, في مرحلة تزخر بالغموض والإثارة, ورسخت تقاليد الستر من الخوف على (الإمام).

وتروي هذه السيرة, الحياة السياسية في القاهرة, وما أحاطها من دسائس الوزراء ومؤامراتهم, ويلفت نظره الفارق الواسع بين الدولة الحلم, والواقع الذي يحكمه الهوى, والفجوة بين الطبائع والشرائع.

ومن رحم هذه التنظيمات السرية ظهر الحشاشون, وقامت أول فرقة إرهابية وسط دروب القاهرة وحواريها - والتي قامت في لحظة تاريخية فارقة خلال الحروب الصليبية - بدور مؤثر في صدام أقدار, ومع الانقسام الحاد في عالم الإسلام.

وأوحت هذه الفرقة وما قامت به لعدد من الروائيين بأكثر من عمل روائي.

أولهم.. جرجي زيدان خلال روايته (صلاح الدين, ومكائد الحشاشين), ومن بعده, فلاديمير بارتسول (1903 - 1967) وهو أديب من سلوفينيا, في رائعته (ألموت) التي صدرت عام 1938, وأخيرًا تناول الروائي اللبناني أمين المعلوف مغامرات هذه الفرقة في روايته (سمرقند).

وتناول هذه الفرقة دانتي في النشيد التاسع عشر من الجحيم.

وظهرت هذه الجماعات, عندما كانت الخلافة الفاطمية في طورها الأخير, وبعد أن أنهكتها الكوارث.

وتعيش في عصرنا الراهن, التكوينات التاريخية مثل الجيولوجيا وطبقات الأرض يعلو بعضها بعضًا ويتناسخ الفكر القديم في صور جديدة, وتحول التشيع في مصر إلى التصوف, ففقه الشيعة هو الأقرب لفقه الإمام الشافعي السائد في مصر, وقامت جماعة (آل البيت) التي تجعل لبيت النبي (ص) مكانة خاصة.

وتقف أفكار القرون الوسطى جنبًا إلى جنب مع العصر الحديث.

يشمل مشروع القاهرة المعزية إعادة هذا الشارع إلى سابق عهده, وإذا انطلق الخيال, وتصورنا هذه المنطقة وقد استردت مكانتها, وهي تضم الأزهر الشريف والمسجد الحسيني, مع كل آثار شارع المعز وبواباته, وجعلنا من المنطقة حرمًا لا تدخله المركبات بكل أنواعها, ونقلت منه الورش والعشوائيات, وظهر للزائر الطراز المعماري الفريد, وعادت مقاهيه وحماماته وأسواقه إلى الحياة,عندها سيصبح واحة ساحرة لا نظير لها تجذب الزوار من كل أنحاء العالم, وتجذب إليها التواقين للمعرفة والمهتمين بفنون الأجداد.

وهذا المشروع ليس بعيدًا عن تقاليد هذا الشارع, فقد ظل طويلاً يتمتع بمكانة خاصة, وله تقاليد صارمة, مثل عدم مرور حمل تبن أو حمل حطب على ظهر جمل, خشية عرقلة السير, ولا يمر به سقاء إلا وراويته مغطاة حتى لا تتلوث المياه, ويلتزم صاحب الحانوت أن يعلق على حانوته قنديلاً موقدًا طوال اليوم, وأن يعد (زيرًا) مملوءًا بالمياه لمواجهة احتمالات الحريق, وكلف بعض الأفراد بالحراسة أو النظافة. ولن يتم هذا المشروع إلا إذا توقف المنطق الذي يقول.. (الحي أبقى من الميّت!), و(الحاضر أهم من الماضي), وأن مشروع القاهرة المعزية يقوم على حساب أهالي المنطقة.

إذن, فشرط نجاح المشروع, أن يجد الأهالي مكانًا, ويجد صاحب المسكن مكانًا يؤويه أكثر رحابة, وأن يجد صاحب الورشة مكانًا يعمل فيه أكثر حداثة, فتأييد الأهالي للمشروع أحد شروط نجاحه.

ويمثل التضارب بين الجهات المختلفة, إحدى عقبات قيام المشروع, وكذلك الخلافات القائمة بين الآثار والمحافظة, حول نقل أو بقاء جسر الأزهر, بعد إقامة النفق الذي يمتد من ميدان الأوبرا حتى شارع صلاح سالم, والذي أقيم كبديل للجسر وحماية الآثار من الاهتزازات والتلوث.

ويؤدي التضارب إلى عرقلة المشروع, والناتج عن غياب هيئة مستقلة ذات شخصية قانونية مستقلة, تضم كل الأطراف ذات الصلة بالمشروع, وتتفق على (خطة حاكم), وأن تحصل هذه الهيئة على صلاحيات كاملة, وتضع جدولاً زمنيًا وبرنامجًا محددًا لإتمام المشروع, حتى تفوق هذه المنطقة أي بقعة أخرى في العالم.

أسطورة القاهرة

(من لم ير القاهرة, لم ير شيئًا) .. كثيراً ما تتردد هذه العبارة في ألف ليلة وليلة, وكثيراً ما تختلط الحقائق بالأساطير, والتاريخ بالحكايات التي ينسجها بالخيال.

وحملت القاهرة العديد من الحكايات, فهي إحدى العواصم القليلة التي تثير الخيال, وتبعث صوراً بعضها جميلة والأخرى قاسية, الخلود وبناء الأهرام, بما يذكره (كتاب الموتى), الذي يصحبه الفراعين معهم في رحلة الخلود, ورسوماته السحرية..

وما أكثر تلك الأساطير, هناك صخرة تحمل آثار أنامل النبي موسى, وتوجد في (المطرية) شجرة مقدسة يعتقد أنها أظلت السيدة العذراء مريم وأرضعت تحتها الطفل عيسى. وهناك عمود في جامع عمرو بن العاص يقال إنه انتقل طائراً من مكة إلى الفسطاط.

وتؤكد الأساطير أن النيل نبع من الجنة من الهضبة الإفريقية. وفي الأساطير يطير الآدميون من مكان إلى آخر, وتظهر كائنات نصف آدمية, وبعضها يعظم حجمها حتى تصبح جزيرة قائمة في عرض البحر, فتنبت عليها الحشائش ويطير فوقها الطير, وعندها المراكب!!

وهناك جزيرة في النيل للنساء اللائي يعشن منعزلات عن الرجال, وفي بحري مصر الأحمر أو الأبيض جزر بها أشجار تثمر آدميات معلقات من شعورهن, يرددن (واق .. واق, تبارك الله الخلاق).

ولا يرى المتعلقون بالأساطير حفرا في صخر أو نقشًا في حجارة, إلا ويعتقدون أنه لم يعن الأعداء, أو يمنع الآفات.. وهنا وهناك يظهر ملوك يفهمون منطق الحيوان ولغة الطير.

***

وتكثر الأساطير في حكاية القاهرة, التي أنشأها المعز لدين الله الفاطمي, الذي لم يكن مجرد رجل قتال لا يعرف غير القوة بل رجل دولة, يعرف كيف ينتصر في القتال ويعرف كيف يبني دولة.

وكان أبرز أعماله تأسيس القاهرة, ويروي المقريزي قصة إقامة القاهرة, وما شملته من أساطير .. أن جوهر الصقلي قائد جيوش المعز, كان مراده تشييد قلعة تحمي الفسطاط من الغزاة, لا مدينة توفر بحر الحماية لسكانها, وكان للمعز رأي آخر..

وتحكى أسطورة قيام القاهرة, أن جوهر اختار موقع المدينة, بناء على تنبؤات فلكية, رسم على الموقع مربعًا طول ضلعه ثلاثمائة وستون متراً, ورسمت على طول محيطه أعمدة متصلة بحبال عُلقت فيها أجراس. واجتمع الفلكيون يتطلعون إلى السماء حتى يحددوا لحظة بدء العمل, بناء على حركة الفلك في السماء, حينما يظهر في السماء كوكب أو فأل حسن... عندها يهز الفلكيون الحبال, وهي إشارة البدء للعمل في كل أنحاء المدينة.

وخلال انتظارهم دق الأجراس, إذا بغراب يحط على الحبال المشدودة, وتدق الأجراس. ويتصور الموكل إليهم البناء أنها الإشارة المنتظرة. ويشرعون في العمل, عندما كان كوكب المريخ صاعداً, وهو قاهر الفلك.. مما يعني أن المدينة الجديدة ستقهر كل من يعتدي عليها, لذا سماها المعز (القاهرة), على اسم ذات الكوكب الذي ظهر في السماء أيام بنائها.. وأقيمت المدينة على أن تنافس بغداد .. وأن تليق عمارتها بدولة عظيمة.

القاهرة المعزية في أعمال نجيب محفوظ

يقول نجيب محفوظ في أحد لقاءاته الصحفية..

(انعكست حياتي في الطفولة في (الثلاثية) وفي (حكايات حارتنا), (انتقلت إلى العباسية عام 2914, وعمري اثنا عشر عاماً, وظل المكان الذي بقيت مشدوداً إليه هو منطقة الجمالية, ظل حنيني إليها قويا, ولم يكن ممكنا الراحة من الحنين إلا بالكتابة عنها.. , .. أملك عين الطفولة التي رأيت وأحسست بواسطتها الأشياء على نحو لا يتغير في مراحل النضج. ولا يتدخل الوعي في حياة الطفولة, إنها المادة الخام, ترى الأشياء والكائنات كما هي.. هناك معالم في المنطقة علقت في ذهني, القبو, والتهكمية والخلاء).

ولد نجيب محفوظ في الجمالية وبالتحديد في بيت القاضي, وتعلم منذ نعومة أظفاره الإصغاء عميقًا لصمت الجدران العتيقة, ونبض الشارع. وتظهر عناوين رواياته هيمنة المكان على أعماله (خان الخليلي) سنة 1946, و(زقاق المدق) 1947 التي تناولت ما يدور في الشوارع الخلفية القريبة من بيت القاضي و(بداية ونهاية) 1949, وظلت مصر التاريخية في مخيلته, استوحى من الحارة (حكاية حارتنا) و(ملحمة الحرافيش) والتي تدور عن الفقراء والصعاليك في مكان محاذ لجبل المقطم و(بين القصرين) و(قصر الشوق) و(السكرية).

واختار محفوظ الإطار المكاني, الذي يضم ويتسع لنماذج مختلفة يحفل بها الحي الذي ولد فيه, في بيت القاضي, والصراع الذي يدور بين المصري والأفكار في عوالم مختلفة جنباً إلى جنب. ولم يعد الأشخاص والأحداث مطلوبين لذاتهما بل صارا أقرب إلى الرمز, والمكان أصبح الخلفية لفترة الأحداث يؤثر فيها ويتأثر بها, يجمع بين الواقع الدنيوي والخالد السرمدي.

وإذا أخذنا بعض الأمثلة على تأثير المكان على أعمال محفوظ, نجد شخصية الحسين, تهيمن على المكان, فسيدنا الحسين شخصية حية في أعماله, ضريحاً ومسجداً ومكانا, توارى المكان وبقي الحسين مهيمنا على الحي الذي كان يعيش فيه, وواضح في الثلاثية تأثيره على شخصية أمين وعلى كمال عبد الجواد, فهو أداة بركة, ووسيلة حماية.

ويبدو مسجد الحسين لأمينة. كائنا خرافيا يفوق كل ما عرفت.. وداخل المسجد تختلط مشاعر أمينة وتتعاون روحها ودموعها في التعبير عن الأحاسيس الفياضة التي تشعر بها وهي لدى الحسين, والحسين هو السلوى والعزاء, عندما تضيق الدنيا وتتراكم الأحزان.

ولا يكاد يغيب الحسين إلا ويظهر من جديد في أعماله, ففي (صباح الورد) لا يختلف الراوي وعائلته, تتساءل الأم: عندما تعرف انتقال جيرانهم إلى العباسية: هل هان عليهم حقاً أن يهربوا من الحارة التي هي أصل الخير والبركة.. ويبعدوا عن الحسين !!

فالحسين المسجد والحي, وحدة متماسكة وحياة كاملة. المسجد هو رمز الحي, ومقصد المحبين والزائرين والداعين والمريدين, وإذا كانت مئذنةة الحسين هي إحدى المآذن, فتبعاً لحسب صاحبها, فإن أحمد عاكف (خان الخليلي) القادم إلى الحي حديثاً, يتأمل من نافذة غرفته, ويرى مئذنة الحسين في علوها الشامخ, تبارك ما حولها.

وعرف عن محفوظ ارتياده المقاهي, وهو أشهر الكتاب جلوساً على مقاهي القاهرة والإسكندرية, ومقهى الفيشاوي في خان الخليلي هو المميز عنده. فهو مكان له خصوصيته وعبقه الشعبي وملتقى لنماذج من البشر, والمقهى من مكونات الكثير من أعماله التي تتشابك مع الأحداث.

ونذكر هنا, مقهى زقاق المدق, ومقهى خان الخليلي, ومقهى محمد عبده في السكرية, ومقهى الكرنك, ومقهى قشتمر, فالمقهى هو من بين صور تحسين واقع الحياة في القاهرة, وفيه يمكن التعرف على نماذج البشر وصراع المصائر والأقدار.

 

مصطفى نبيل 





صورة الغلاف





 





شارع المعز لدين الله الفاطمي يزدحم بالآثار الاسلامية. مساجد وأسبلة وحوانيت وقصور قديمة قاومت عوادي الزمن وتتوسط الصورة مأذنة مسجد الناصر برقوق





باب زويلة أحد البوابات المهمة في سور القاهرة سمي باسم قبيلة مغربية كانت تقيم بجواره وعلقت عليه جثة آخر سلاطين المماليك مشنوقا





مشروع ضخم يهدف إلى إعادة ترميم سور القاهرة القديم. كان هذا السور يحيط بالقاهرة المعزية كلها ويغلق في المساء ولا يفتح إلا بأمر الخليفة وقد جلبت أحجار الترميم الجديدة من نفس المكان الذي بني منه السور الأصلي من جبل المقطم





جامع الأزهر الشريف أقدم الجامعات الإسلامية وكان دوما مكانا للعلوم الإسلامية وللنضال الوطني





في ساحة المسجد وسط الهدوء الذي تفرضه قدسية المكان وجدت هاتان الطالبتان الفرصة للاستغراق في المذاكرة





الساحة الداخلية لمسجد الحاكم بأمر الله. السلطان الغامض, الذي اختفى وهو صاعد إلى جبل المقطم كي يقضي الليل في إحدى  المغارات. ويقال إن أتباعه من أنصار المذهب الإسماعيلي مازالوا ينتظرون عودته حتى الآن





حراس المساجد. يتحولون إلى مرشدين سياحيين في بعض الأحيان, حيث إنهم يحفظون أدق تفاصيل تاريخ المكان





مسجد الأقمر واحد من أجمل مساجد القاهرة الإسلامية وأغناها بالذخرفة المعمارية وقد ساهمت الترميمات الحديثة في أن  يستعيد هذا المسجد بعضا من الرداء القديم





جلسة مع الشيشة في واحد من أقدم المقاهي في القاهرة هو مقهى الفيشاوي. ويكمن جزء من شهرة المقهى في أنه في مكان ساحر في قلب القاهرة وأن الاديب الكبير نجيب محفوظ كان واحدا من رواده





القاهرة في لحظة الغروب. مدينة مليئة بالعظمة والبؤس. تاريخ حافل تراكم على بيوتها ومعالمها وساحاتها وناسها وكل شيء ينتظر لحظة انعتاق نحو المستقبل





أرغفة من الخبز هي زاد اليوم, ونظرة حزينة, وتاريخ طويل من الصبر والانتظار





بائعة القطن الزهر. في واحد من  العديد من المحلات الموجودة في سور القاهرة. قديما كانت كل هذه المحلات ملكا للخليفة الفاطمي وكان يؤجرها للناس





بائع البطاطا في ظل الأسوار الشامخة. يحفل شارع المعز بالعديد من الأعمال الهامشية التي تشوه جمال المكان ويحتاج إلى نظرة لإعادة تخطيط المنطقة كلها من أجل الحفاظ على آثارها الثمينة