هجرة قصيرة من بيروت

هجرة قصيرة من بيروت

نحن ثلاثة أصدقاء اعتدنا أن نلتقي في مقهى من مقاهي بيروت.. وهل لنا غير بيروت لنلتقي بها؟ لكن ذاك النهار.. البارحة.. قلت لمَ لا نخرج خارج بيروت.. إلى الضاحية مثلاً.
- أي ضاحية؟ وهل بقيت في بيروت ضاحية؟

كنّا في سيارة صديقي.. سيارة نحبّها.. بيجو.. فرنسية.. ومن لا يحب أن يركب سيارة فرنسية؟ لونها قريب من اللون الأشقر.. إلى آخره.. وسرنا.. بل سارت بنا الشقراء وخرجنا من بيروت متجهين صوب الشمال.. وصلنا إلى جونيه.. سأل صديقنا صاحب السيارة إذا كنا نريد أن ننزل في جونيه ونجلس في أحد المقاهي.. لا جواب منّي ولا من الصديق الثالث.. هذا يعني للصديق السائق أن أكمل وسر فعين الله ترعاك. وهذا ما حصل، فعين الله رعتنا وأوصلتنا إلى جرود جبيل.. الله! تنفّس صديقناصاحب الشقراء.. قلت أنا يا عين! قال ثالثنا: سبحان الخالق.. وانتهينا هنا. والمناظر تتغيّر لحظة بلحظة والشقراء، ومحرّكها يترنّم بلطف كأنه يقول: الله يا عين، سبحان الخالق. أنا اعتبرت أننا لم نكن ثلاثة أصدقاء بل إن صديقة كانت ترافقنا.

***

جلسنا على صخرة رمادية اللون ملساء نستمع إلى صمت الطبيعة، لكنّا لم نبق صامتين.. وإذا أردت أن أفسّر عدم دوام صمتنا مع الطبيعة، فهذا يعود إلى مدينة بيروت.. التي وسّخت وأهينت وسرق منها جمالها وحدائقها وياسمينها، وسكنتها وعشعشت فيها حيوانات راجلة وحيوانات من تنك تنفث الأمراض والدخان الأحمر الذي يدخل في أنوف الناس وهم سعداء.. بهائم.. يبتسمون ويغضبون ويلعنون ويسبّحون بحمد الله وشكره وكرمه، لاعنين كل من يتقدم عنهم في السير أو في السيارة والحمدلله على كرمه.. هكذا يدخلون الآيات بالمسبّات والله غفور رحيم.

قلت إن سبب عدم صمود صمتنا يعود إلى بيروت التي صارت لا تحيا سوى بالضجيج.. في كل أنواعه، الجميع في حركة غنية بالفوضى والناس فيها يهجمون ولا يسيرون وأفواههم مفتوحة للشتم والتذمّر ولا يدرون أنهم هم سبب التذمّر.

***

لنعد إلى جرود جبيل، لم نستطع أن نبقى صامتين مع الطبيعة، إذ هبط علينا حزن مفاجئ، وكأن عزيزًا فقدناه، والعزيز كانت أجواء بيروت الصاخبة، بعد لحظات دار حوار بيننا:

- آه!
- ما أجمل!
- أوه!
- عجيب!
- جميل!
- أوه.
- هل تسمعون.. هل تسمعان هذا التغريد؟
- تغريد.. ذكريات.. أعادتني إلى سنوات.. كانت تغريد حبي الأول.
- مازلت. أو ما زالت تغريدًا تغرّد في ذكرياتك.
- آه.. ما أجمل..
- ما أجمل ماذا؟
- كل شيء جميل.. هنا.. انظر منذ زمن لم نرَ خضارًا.. شجرًا.. وصخورًا.

لم أجب وصاحب الشقراء لم يجب، هذا كان شوقًا للعودة.. للعودة إلى بيروت وفوضاها الساحرة.. بقي صاحبنا يتغنى بخضار شجر الصنوبر والسنديان والأعشاب بألوانها المختلفة والزهور البرية.. وأنا وصاحبي ننظر إلى البعيد.. إلى خليج جونيه حيث تبدأ الفوضى الحبيبة ومنها تقفز أنظارنا نحو بيروت الحبيبة التي ينزف منها عرق الناس والشوارع والبنايات البشعة.. هذا هو الحب.. حب مدينة أو حب امرأة يتشابهان.. سبب الحب ليس الجمال أو البشاعة.. الحب سببه.. أو.. نقع في الحب دونما سبب ما.. لهذا فبيروت عشيقتنا.. ولكن لماذا؟ صراحة وصدقًا وإخلاصًا أقول: لست أدري!

سارت بنا الشقراء الفرنسية وصلنا إلى الدورة، إلى شركة الكهرباء، إلى مار مخايل.. يا ساتر.. من بعيد تسمع أصداء بيروت.. وصلنا إلى الصيفي.. إلى ساحة الشهداء.. استقبلنا الباطون.. وصلنا إلى جامع الأمين إلى كاتدرائية مارجريس، وما إن وجدنا مكانًا للشقراء الفرنسية، حتى علت مآذن الأمين الكهربائية وما لبثت أن شاركتها أجراس كاتدرائية مارجريس.. وراحت السيارات تزعق بزماميرها خالقة من هذا الجمع من الأصوات والضجيج سيمفونية عصرية مميتة.

نظرت إلى صديقيّ قائلاً..
- إيه! وصلنا.
- هه!
- لم أسمع.. ماذا تقولان؟
- المهم أننا وصلنا.. عدنا.
----------------------------------
* فنان تشكيلي وكاتب من لبنان.

 

 

أمين الباشا*