أيام قرطاج إرادة الحياة من الشابي إلى درويش

أيام قرطاج إرادة الحياة من الشابي إلى درويش

ألقت الطائرة بالبحر وراءها وهى تستأذن فى الدخول إلى بلاط الخضراء الساحرة محلقة فوق البحيرة مع نسور قرطاج. كانت ضاحية «حلق الوادي» تبدو معالمها على اليسار؛ ومن الجهة اليمنى كان القلب يحلق فوق تونس الشمالية .. «قمرت» «المرسى» ومرتفعات قرطاج المهيبة التى تتمدد بيضاء موشاة بالأخضر كطائر الفينيق الأسطورى الذى ينبعث دائمًا من الرماد تحدوه إرادة الحياة.

إرادة الحياة التى أوقعت «عليسة ديدون» تلك الفينيقية الجليلة فى غرام تلك البقعة لتضع اللبنة الأولى فى صرح قرطاج المهيبة التى ولدت لتهز العروش فى أربعة أركان الأرض، من هنا انطلق «حنبعل» -هانيبال- ليزلزل عرش روما العتيد .. انخلع قلب روما أمام تصميم القرطاجى الباسل «حنعبل»، دارت الدوائر وقلبت الأيام ظهر المجن «لحنبعل» دك الرومان «قرطاج» سيدة الثلاثمائة مدينة حرقوها .. حرثوا أرضها وفرشوها ملحاً ..، لكنها لم تستسلم وعادت بعد مائتى عام لتنبعث من الرماد قوية فتية جسورة تحدوها «إرادة الحياة» التى اتخذت من تونس الخضراء موطنًا ومستقرًا ..، والتى أطلقتها الهيئة المديرة لأيام قرطاج المسرحية شعاراً لهذه الدورة مزينة بنضال اثنين من أحفاد «حنعبل» كرموز للنضال وإرادة الحياة .. هما «أبو القاسم الشابي» و«محمود درويش» ..، فكان الشعار «المسرح إرادة الحياة من الشابي إلى درويش» لعل الله يجعل لهذه الأمة يسراً وأملاً جديدين فى هذه اللحظات الفارقة من تاريخ العرب. وكان من أهم الروافد التى اهتمت الهيئة المديرة لأيام قرطاج المسرحية بالاحتفاء بها والتكريس لها رافدا الشباب والمرأة التى تعنى الكثير بما تحمل من معان للتجدد والخصوبة والاستمرار والخلق الجديد..؛ بما يعكس تماشياً مع شعار المهرجان وسياسة الدولة التى تهتم اهتماماً بالغاً بتلك الروافد.

أول القصيدة شوكولا

يؤكد المهرجان الحفاوة بالمرأة والشباب, متخذاً خطوة جريئة بمنح الفرصة لجيل الغد ..، وبعد كلمة بسيطة ومركزة لمدير المهرجان الفنان محمد إدريس افتتح المهرجان بالعرض السورى «شو كولا» وهو عرض مسرحى شبابى من إخراج المخرجة «رغداء الشعراني» وسبق له أن فاز بجائزة أفضل عرض مسرحى من مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبي. كانت أهم الدلالات التى أكدها عرض الافتتاح «شو كولا» أن المهرجان يؤكد منح أبناء الغد موقع الصدارة؛ فضلاً عن اهتمام خاص بالمرأة التى كان لها حضور خاص من خلال سبعة عشر عرضاً مسرحياً بطلاتها النساء سواء على مستوى التمثيل أو الإخراج أو التأليف .. كان أبرزها العرض السورى «شو كولا» والعرض العراقى «نساء لوركا» بطولة وتأليف «د. عواطف نعيم» ومعها نجمات العراق «شذى سالم» و«فاطمة الربيعي» و«إقبال نعيم».

ومما يحسب لهذه الدورة أيضاً حرصها على إتاحة الفرص لتلاقح وتلاقى أجيال مختلفة من المسرحيين مثلوا أجيالا مختلفة من الرواد الكبار وجيل الوسط .. وجيل الشباب الواعدين بمن فى ذلك الهواة منهم والمبتدئون..؛ والذى كان للمهرجان أعظم الأثر فى تشجيعهم..

من هنا كان حرص أيام قرطاج المسرحية على إلغاء التسابق ..؛ ففى ظل وجود تمثيل عربى وإفريقى ودولى يمثل مختلف الأجيال الموجودة على الساحة المسرحية العالمية..، ومع اختلاف السياق والملابسات على جميع الصعد بالنسبة للحركة المسرحية فى كل بلد, يصبح من الظلم الفادح المفاضلة بين عرض وآخر، وهو ما توخاه باقتدار القائمون على المهرجان العريق الذى نأمل أن يبقى على هذا التقليد الذى أتاح الفرص للجميع لكى يعبروا عن أنفسهم بحرية ودون خوف من حكم جائر لا يضع فى الاعتبار فارق الخبرة والإمكانات..

فعاليات موازية

كان لابد للشعر والموسيقى أن يكونا موجودين بقوة ومن هنا كان الحرص على تنظيم قراءات شعرية متنوعة المشارب لكبار الشعراء ..، فكان صوت الشاعرين «جمال الصليعي» ابن الصحراء .. و«خالد الوغلاني» يمتزجان بشدو «سونيا مبارك» وموسيقى الفنان «مراد الصقلي» ليخلقوا معا جواً من السحر والنشوة مع «عودة الثعبان المقدس» فى إشارة موحية لقصيدة الشابى الخالدة «فلسفة الثعبان المقدس»؛ تم توج الشعر العربى مرة جديدة مع الأمسية الرائعة التى شهدها جمهور غفير فى المسرح البلدى مع الشاعر الكبير محمود درويش..، الذى أعقبه حفل موسيقى تونسية فى فضاء «النجمة الزهراء» بسيدى بوسعيد لخماسى الفنان «مراد الصقلي». ودعا وزير الثقافة جمهور المهرجان لافتتاح المعرض الفوتوغرافي للفنان «برنار توران» الذى استعرض فيه مسيرة المركز الوطنى لفنون السيرك والفرجة الحية بتونس العاصمة فى حديقة البلفدير تحت عنوان «ميلاد».

أبناء الغد

كان العرض التونسى المتميز «انتبه أشغال» لطلاب المعهد العالي للفن المسرحى بتونس «مشروع تخرج» الفضل فى لفت الأنظار لحفاوة أيام قرطاج المسرحية بأبناء الغد؛ من هنا كان حرص عميد المعهد المسرحى الكبير د. محمد المديونى على إقامة فعاليات مستمرة فى مقر المعهد مواكبة للمهرجان عكست المستوى الرفيع الذى وصل إليه طلاب المعهد.

بالإضافة لمشاركات آخرى حملت المعنى نفسه من خلال مشاركات عدة ..، كمشاركة المركز الوطنى للفنون الدرامية والركحية بصفاقس بعرض «فرجة عربي» إخراج «الهاشمي العاني»؛ وعرض «عرس فالصو» من إخراج نادية بن أحمد إنتاج المركز الوطنى للفنون الدرامية والركحية بالكاف، فضلاً عن عروض أخرى لمؤسسات وشركات خاصة.

إهداء وتكريم وجائزة لدرويش...

أهديت الدورة الثالثة عشرة لأيام قرطاج المسرحية لفلسطين ولبنان والعراق .. تلك الدول العربية التى تمر كل منها بمحنتها الخاصة لكن مبدعيها لم يستسلموا لرسل الخراب والإرهاب وتمسكوا بإرادة الحياة لأمتنا العربية قاطبة فكان إهداء الدورة التى تحمل الشعار نفسه «إرادة الحياة» لهم.

وكان على رأس التكريم شاعر العرب وفلسطين «محمود درويش» الذى أقيم على متن الباخرة قرطاج فى ميناء حلق الوادى يحمل دلالات تونسية خاصة تنم عن الحفاوة بالمكرمين الذين ارتبط اسمهم بذلك الاسم العريق .. قرطاج. وتسلم درويش فى المكتبة الوطنية «جائزة 7 نوفمبر» التى منحها له الرئيس «زين العابدين بن علي» وأناب عنه وزير الثقافة التونسي «محمد العزيز ابن عاشور» ليسلمها له فى احتفال كبير فى المكتبة الوطنية.

عاصمة تنافس العاصمة

«لا إله إلا الله والفرح وافنا» كان لسان حال تونس العاصمة يشدو بلسان الفرح والأعراس وسط الزخم الاحتفالى «بأيام قرطاج المسرحية» وضيوفها ومكرميها؛ لكن صوت «القيروان» التى اختيرت عاصمة للثقافة الإسلامية بدأ يعلو من فوق مئذنة مسجد «عقبة بن نافع» فاتح الغرب الكبير الذى أعاد للأذهان أمجاد «حنعبل» .. هو ومن ساروا على دربه .. «موسى بن نصير» و«طارق بن زياد» والقائد «طريف» الذى عبر إلى الجزيرة الخضراء ليمهد للجيوش العربية الإسلامية فتح الأندلس وقهر «القوط» ..، لترتعد «بيزطنة» عاصمة الدولة الرومانية فرقاً من زحف أحفاد «حنعبل» لاستعادة مجدهم السليب ..؛ وها هى «القيروان» تذكر الجميع بأنها كانت القاعدة الأم لهذا الزحف الميمون وعاصمة الفاتحين ..؛ ولا تزال المنافسة بين علماء القيروان وعلماء جامع الزيتونة المعمور فى تونس تؤكد عمق جذور الحضارة العربية الإسلامية وأن حواضر الأمة لاتزال حية تتشبث بإرادة الحياة.

غياب

غابت السعودية ودول الخليج العربى لتزامن أحد مهرجانات الخليج المسرحية مع أيام قرطاج المسرحية الأمر الذى يجعل مسألة التنسيق بين المهرجانات العربية فى المواعيد أمراً ملحاً للغاية لتحقيق أكبر قدر من الاستفادة من مختلف الفعاليات العربية.. مع تقديرنا لصعوبة الأمر بسبب مواقيت الأعياد وشهر رمضان المعظم ..، ففى التوقيت نفسه تقريباً تداخل مع مهرجانات المسرح العربية مهرجانا القاهرة ودبى السينمائيان .. كما غابت كثير من الدول الإفريقية مع الأسف لأسباب اقتصادية ولصعوبة خطوط الطيران وتوقفها فى بعض الدول تقريباً.

ومع الأسف أصبحت دول الجنوب تعانى كل شئ، والأسباب: الفقر والجهل فى المقام الأول ما أدى إلى خفوت ضوء العقل فى هذه المنطقة المضيئة من العالم ..

وحسناً فعل مهرجان قرطاج بدعوته لإقامة ملتقى للحوار بين دول الجنوب والشمال، لإيجاد جسور تساعد فى التمويل والانفتاح على الآخر مع مراعاة إقامة حوار جنوب - جنوب أيضاً فى محاولة للتكامل الإبداعي.

كما أقيم ملتقى وورشة إبداعية للمؤلفين من أجل استفادة كل مشارك من تجربة الآخر، فضلاً عن ملتقى مفتوح لإجراء حوار بين المسرحيين لكى يطلع كل منهم على خصوصية تجربة الآخر، وملتقى شبكات التوزيع المعنى بخلق مصادر جديدة تساعد المبدعين فى تمويل أعمالهم والتنقل بحرية دون أن تكون الظروف الاقتصادية عائقاً ..، إدارة «للأسعد بن عبدالله» مدير مركز الحمامات الدولى للثقافة والإبداع.

كما كانت الورشة الخاصة بمسرح النو اليابانى إحدى أهم الفعاليات الموازية فى صلب المهرجان؛ إلى جوار معرض تقنيات الفنون المسرحية، وورشة الموسيقى الإلكترونية ولقاء معلمى المسرح، ومعرض مسيرة المدرسة الوطنية لفنون السيرك بتونس؛ والورشة المشتركة بين المدرسة الوطنية التونسية لفنون السيرك والمدرسة الوطنية الفرنسية لفنون السيرك، وعرض مشروع «أبو بور» للفن السينمائى، وتكريم المعلم «جاك لوكوك».

وقد فعّلت إدارة المهرجان لهذه الأنشطة فضاءات مهمة ومتنوعة للتعريف بخريطة الثقافة التونسية وخصوصيتها ومدى تطورها فى السنوات الأخيرة منها: «قصر المسرح بالحلفاوين»، «دار الثقافة ابن خلدون» «دار الفنون بالبلفدير»، «المعهد الأعلى للموسيقى»، «مربع الفن»؛ «المعهد العالي للفن المسرحي بالعمران» «التياترو»؛ «المونديال»؛ «المسرح البلدي» «النجمة الزهراء» بسيدى بوسعيد ..؛ «نجمة الشمال»، بالإضافة إلى قاعات بفنادق العاصمة؛ ولعب الدور الأساسى فى التنسيق لهذه الفعاليات كل من السادة «محمد إدريس»، «أحمد عامر»؛ «فريد العلمي»، «للأسعد بن عبد الله»، «فتحي العكاري»، «مراد الصقلي»، «نضال قيقة»، «كوثر الخليفي»، «هدى بن عمر»، «ماريان كتزاراس» وغيرهم ممن يحملون هموم الإبداع فى تونس من مختلف الأجيال وهو ما يحسب للمهرجان.

حين تصفر العشية

«حبى وجار عليا .. ورمانى فى القفار .. حين تصفر العشية نتوحش الديار»، من تراث المألوف التونسى ، حيث كانت اللقاءات أكثر حرارة بين المبدعين العرب وربما الأفارقة فالهم واحد والحوار ضرورة بين الجنوب والجنوب خصوصاً بين العرب والعرب. وللحق كان لأيام قرطاج أكبر الإسهام فى ذلك على مدى عقود ..، وكانت الديار التى يشتاق إليها هؤلاء المبدعون هى المسارح والفضاءات والشوارع التى احتضنتهم ليفكروا فى مستقبل أفضل .. وكلما «أصفرت العشية» يحن أولئك جميعاً كى يعودوا إلى الديار .. قرطاج

أقلمة شكسبير

لا أفضل استخدام مصطلح «التعريب» كى لا يحيلنا إلى معان أخرى ربما تحدث التباسا فى المفاهيم ..؛ فاستخدمت مصطلح «أقلمة شكسبير» أو بالأحرى «تونسته» نسبة إلى تونس، وحسناً فعل المخرج الكبير «محمد إدريس» باختياره نص «عطيلو» ذلك البطل المغربى «وكأن بضاعتنا ردت إلينا» من خلال عرضه المسرحي «نجمة النهار» من خلال قراءة معاصرة لرائعة «شكسبير» «عطيلو» التي أعدها فى «إطار أشمل» حسب تعبيره ليناقش قضايا سياسية وثقافية وحضارية عقائدية وعرقية ..، صدام الحضارات كما وصفة العديد من منظرى الغرب وعلى رأسهم «هنتجتون» و«فوكوياما» ..، الجنوب والشمال .. الشرق والغرب .. الإسلام والمسيحية، تلك القضايا التى تعيش الإنسانية معها اليوم لحظة فارقة قد تقود إلى حرب كونية تحمل معها «نهاية العالم» «هرمجدون» التى يسعى إليها مخبولو الغرب والشرق لاستعادة مسيحهم المخلص ومهديهم المنتظر..

وها هو «محمد إدريس» يعيد صياغة النص القديم بعد تفكيكه ليوسع مجاله من الشخصى إلى العام من خلال القضايا التى تعيشها الإنسانية اليوم حية ومتأججة.

كان أبرز سمات عرض «نجمة النهار» أو «عطيلو المتونس» الذى أنتجه المسرح الوطنى..، «السينوغرافيا» البديعة التى خلقت مشهدية موحية بحق اتسقت مع السياق المعاصر الذى تبناه النص من خلال الزمان والمكان «الزمكانية» والملابس، فضلاً عن النص ذاته، كما بدت واضحة سمات التجريب على مادة كلاسيكية فى جميع عناصر العرض بما فى ذلك الأداء المتميز لأبطال العرض وعلى رأسهم الرائع «صلاح مصدق» و«جمال ساسى» و«نادرة التومى» و«بشير الغرباني»، وبالرغم من معاصرة الأحداث فإننا كنا نلمح أشباح «ياجو» بكل خسته ودهائة ..، و«ديذدمونا» ببراءتها وغفلتها فى عصر لم يعد يحتمل الغفلة ولا البراءة ..، كانت شخوص عطيلو القديمة تحوم فى أجواء المكان ..، وهذه هى عبقرية تفسير «محمد إدريس» الذى جعلنا نستمتع بعرض دسم على مدى ما يقرب من ثلاث ساعات.

أقلمه لوركا.. بين جرحين.. بين نهرين

بالرغم من كل شئ الحرب والاحتلال والإرهاب والدمار تمسك محترف بغداد المسرحى ومشرفه العام الفنان الكبير «عزيز خيون» وشريكته فى مسيرة الفن والحياة «د. عواطف نعيم» بإرادة الحياة من خلال مواجهة رسل الموت فى بلاد ما بين النهرين .. ما بين الجرحين «العراق»..، وها هم أيضاً يؤقلمون أربعة نصوص كلاسيكية دفعة واحدة لشاعر إسبانيا الخالد «لوركا» لتتفق مع الواقع العراقى المعاصر عبر الشخصيات النسائية فى أربعة من نصوص «لوركا» ..؛ ولسان حالهم يقول للمبدعين العرب «مازلنا نبث جميعاً على موجة واحدة برغم اختلاف الظروف والسياق» .. فلا شك أن الهم واحد ويؤرق الجميع .. كان اختيار المرأة بكل ما تحمل من رموز فى التجدد والخصوبة والاستمرار والعطاء يحمل رسالة أمل فى غد أفضل برغم كل ما يعانيه العراق ..، النجمات الكبار .. «فاطمة الربيعي» «برناردا»، «عواطف نعيم» «العروس»، «إقبال نعيم» «يرما»، «سمر محمد» «ماريانا»؛ قمر بغداد «شذى سالم» «أديلا» .. التى حفظت دورها حواراً وحركة خلال أربعة أيام لتحل محل زميلة غابت عن العرض بسبب ظروف الحرب وتنقذ الموقف بإرادة حديدية..

مزجت «عواطف نعيم» بين النصوص الأربعة لتخرج بنص جديد, مثل صرخة ضد الموت والحرب تميز ببساطة «السينوغرافيا» على طريقة السهل الممتنع، وأداء لاهث عميق لنجمات عراقيات كل منهن تمثل مدرسة متفردة فى الأداء، مع تكثيف شديد للفعل الدرامى لتوصيل رسالة واضحة وجلية خلال ساعة تقريباً هى عمر العرض ..؛ الذى حمل هو الآخر عناصر التجريب على مادة كلاسيكية. ويخرج الجمهور مصراً على تمزيق الأكفان التى تحاصر واقعنا مسكوناً بعمق نظرات «شذى سالم» التى حملت كل المشاعر الإنسانية باقتدار .. لكنها أيضاً بلغت رسالة تحذير مما هو قادم .. إذا لم نستفق لتدارك الأوضاع المتردية فى كل شيء..

مهرة فتية نبيلة تنهض من عثرتها فى حماس وجموح هى هذه المرأة التى قدمتها د«عواطف نعيم» فى «نساء لوركا» ووضعت صورتها على ملصق الدعاية الخاص بالعمل..

خمسون.. جماليات الطرح.. وماذا بعد؟

الإرهاب .. ومن المسئول عن تفشيه ؟ ..، الكل مدان الأسرة؛ الأنظمة .. وحتى الأفراد والجماعات ..، هى ابنة أسرة يسارية مناضلة فى مكان وزمان ما، تتحول إيديولوجيا وتنضم إلى جماعة من جماعات الإسلام السياسى ..، ثم تقوم إحدى صديقاتها بعملية انتحارية فى باحة المعهد لتفتح على الجميع أبواب جهنم .. والكل مدان وعلى الرغم من أن الحكاية قد قتلت بحثاً فإن نص «جليلة بكار» المؤلفة وبطلة العرض التونسى «خمسون» قد حمل دلالات وجماليات خاصة تشعر فيها بطعم ورائحة «النوستالجيا» «استعادة الماضى والحنين إليه»..؛ وكأنها تتحدث عن أشخاص ووقائع حقيقية خصوصاً فى الجزء الذى تناول حقبة نضال اليساريين.

لكن الجمهور الذى كان ينتظر الكثير من المخرج الكبير «فاضل الجعايبي» خاصة على مستوى «الحركة» والذى كان من أهم مميزات المدرسة التى يمثلها «الجعايبي» .. لم يجد جديداً بالقدر الذى يتمناه، خصوصاً وأن «الجعايبي» بدا مصراً على تكرار المشاهد بإلحاح أدى إلى خلق حالة من التطويل والملل أصابت الجمهور بالضجر ..؛ بالرغم من براعة «الجعايبي» فى ملء الفراغ المسرحى وتشكيل سينوغرافيا موحية اعتمدت على الجسد والإضاءة ..؛ دعمها الأداء المنضبط لفريق العمل، والأداء التمثيلى الرفيع «لجليلة بكار» «وفاطمة بن سعيدان».

الافتتاح.. «شو كولا»

كانت جسارة تحسب لأيام قرطاج المسرحية أن تختار للافتتاح العرض السورى «شو كولا» لكن إيمانها بإتاحة الفرصة لجيل الغد من الشباب وفوز العرض ذاته بجائزة أفضل عرض فى مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى .. أعطى القائمين على التنظيم حافزاً قوياً لتشجيع أبناء الغد ..، أحلام ستة من الشباب وانفعالاتهم الداخلية بمفهومهم ومشاكلهم وعلاقتها بمجتمعاتهم وواقعهم المعيش تتجسد على المسرح فى إيقاع سريع وموسيقى موحية تراوح ما بين الشرق والغرب .. رصانة «أم كلثوم» وصخب الموسيقى المعاصرة ..، «ميزانسين» «حركة» تتماشى أحياناً مع الرقص الحديث واستخدام شاشة العرض السينمائى لتشترك فى خلق سينوغرافيا جديدة نسبياً أبرزت وعى المخرجة الواعدة «رغداء الشعراني» بتكامل عناصر العمل المسرحى بما يضعها فى صدارة سبعة عشر امرأة مبدعة مشاركة فى أيام قرطاج .. لكن لابد من التنويه إلى أن الإفراط فى استخدام تقنية شاشة العرض السينمائى ومنذ فترة فى عروض مسرحية متعددة، خلال أيام قرطاج بشكل خاص، والحركة المسرحية بوجه عام، قد يصبح لها مردود سلبي مستقبلاً بالنسبة لعناصر العرض المسرحي.

سينما.. تونسية

العرض التونسى «سينما» نص وإخراج «حمادى المزي» طرح عدداً من القضايا الإنسانية، والوجودية من خلال ست شخصيات تلتقى فى إحدى الخرائب لتخلق حالة جدلية مسرحية متميزة تشعرك بأنه ثمة حوار مختلف بين كل عناصر العمل المسرحى، كما تألقت الموهوبة «فوزية ثابت» بصورة لافتة فى دور بهجة الغانية، وزميلها الذى لعب دور «بهيرة» القواد ..، عنوان العرض لم يطغ على رؤية المخرج القدير «حمادى المزى» فلم يفرط فى استخدام تقنية شاشة العرض السينمائى إنما أراد أن نتطلع معه إلى سينما الحياة..

العرض المصرى «كلام فى سرى» تأليف «عز الدين درويش» وإخراج «ريهام عبد الرزاق».. طرح لمشاكل المرأة فى المجتمع الشرقى من خلال حياة ثلاث نساء شابات: راقصة وممثلة ومغنية..، يحلمن برجل مستحيل.. فأين هو الرجل الشرقى الذى يحترم آدمية الأنثى حتى النهاية..؟

كانت الرؤية الإخراجية بسيطة شابها بعض القصور فى التعامل مع الفراغ المسرحى..؛ ولم تنجح فى خلق إيقاع متناغم طوال فترة العرض..، مع ظهور قدر من العشوائية على مستوى «الميزانسين» أحياناً..؛ فوجود ثلاث ممثلات على الخشبة كان يقتضى وعياً أكبر لا تطغى فيه إحداهن على زميليتها..؛ مع تطلب وعى أكبر بخطة الإضاءة. وبالنسبة للمؤلف «عز الدين درويش» فهو مؤلف واعد إذا اهتم بإثراء قاموسه اللغوى ومرجعيته الفكرية..، ومع ذلك فإن العرض يستحق الإشادة به إذا وضع فى سياق أنه «عرض هواة» من أبناء الثقافة الجماهيرية التى يمثل مصر دولياً لأول مرة أحد عروضها. ولابد من شجاعة الاعتراف بأن كاتب السطور هو الذى رشحه للهيئة المديرة لمهرجان قرطاج التى اهتمت بتشجيع المواهب الواعدة.. خاصة وأن العرض قد فاز فى مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى بجائزة «أفضل عمل جماعي» وهو مايميز دائماً تلك العروض التى يحدوها الحماس والحب والنضال الذى تتسم به روح الهواية التى تفعل المستحيل، وكان القدر لابد أن يستجيب لحلم الصديق النبيل الشهيد د.محسن مصيلحى أول من حلم بأن تشترك مثل هذه العروض فى التمثيل الدولى وهو ما أخذته فى الاعتبار الهيئة المنظمة التى نوهت من جديد كما فعلت فى الدورة الماضية بكل شهداء حريق «مسرح بنى سويف» كرموز للنضال المسرحي.

جدارية إرادة الحياة

اختتمت أيام قرطاج المسرحية فعاليتها على جزأين .. الأول كان بعرض المسرح الوطنى الفلسطيني «جدارية»، والثانى كان حفل استقبال على شرف الضيوف أعقبه احتفال ساخن مع «طبول برازا».

عرض «جدارية» الذى حمل اسم قصيدة «محمود درويش» التى تتشبت بالحياة من خلال التبصير بأن الموت النهائى هو موت اللغة والهوية والمعنى ..، كان بمنزلة رؤية حداثية للمسرح الشعرى قدمها باقتدار المسرح الوطنى الفلسطينى نص «محمود درويش» إخراج «أمير نزار الزغبى»، كانت حفاوة الجمهور كبيرة بالعودة القوية للمسرح الشعرى عبر رؤية حداثية لكل عناصر العرض المسرحى..، خاصة «السينوغرافيا» البدعية التى خلقها تكامل الديكور متعدد المستويات والإضاءة مع «الميزانسين» الذى رسمه المخرج متناغماً مع «الرامب» الذى تصدر خلفية خشبة المسرح واستخدامه صعوداً وهبوطاً .. وأمامه «سرير المستشفى» و«الكرسى المتحرك» مقدماً تفسيره الخاص لتماهى نص «محمود درويش» مع قصيدة الطلاسم لـ«إيليا أبي ماضى» لخلق جدلية حول الوجود والكينونة الإنسانية, لتوليد طروحات جديدة، من خلال العمل المتميز الذى أكد «جمال غوشة» مدير المسرح الوطنى الفلسطينى أن العمل المضنى الذى قام بتجسيده ممثلو «مسرح الحكواتى» كان من أبرز العناصر التى ساهمت فى تأكيد رسالة العمل وصدقيتها..، وعلى رأس هؤلاء الفنانين «مكرم خورى»، «خليفه ناطورى»، «ريم تلحمى»، «ربابلال».

برزافيل تعانق تونس

بعد حفل استقبال أو بالأحرى «وداع على أمل اللقاء من جديد»..، بدأت أجساد المبدعين تتمايل إلى أن وصلت إلى حد الاهتزاز الحميم مع «طبول برزا» تلك الفرقة «الكنغولية» التى شردها تيه الحرب الأهلية فى «الكونغو» سنة 1997 إلى أن أستقرت نهائياً فى فرنسا فى عام 2001..، كانت الطبول الإفريقية وأصوات «الهيب هوب» وموسيقى الجاز والآلات الحديثة تستدعى لغة الجسد التى تغنى عن الحوار المنطوق كى تفجر لحظات النشوة المجنونة لينصهر الكل فى بوتقة واحدة .. الشرق والغرب، الشمال والجنوب، البحر المتوسط والمحيط الهندى، برازافيل بغداد وبيروت والقاهرة.. الكل فى واحد ذلك الوعاء التونسى الحنون «مولد ولكن صاحبه حاضر» يذكرك بأجواء الحضرة فى موالد الأولياء..، أردد فى شجن كلمات العم «فؤاد حداد» شاعر العرب الكبير «ياتونس ونسينى كل الزمان نسينى.. ما تختلفش فى نسبة أحمد بن عروس كان من صعيد مصر أو من تونس الخضرا.. هناك بنوا له مقام فوق الجيل محروس.. وهنا بنوا له فى أوطان القلوب حضرة»، ها هى حضرة المبدعين وحاضرتها الكل يذوب لتبقى لحظات الإنسانية لحظات العشق المقدس «للحق والخير والجمال».

أعمال كثيرة استحقت الإشادة لكن كثرة الأعمال المقدمة فى المهرجان لم تترك لنا متسعاً إلا للتنويه .. منها العرض التونسى «جاى من غادى» نص وإخراج «نور الدين الورغى» بطولة «ناجية الورغى» و«جمال مدانى»، العرض الفلسطينى عرس الدم نص فيدريكو جارسيالوركا إعداد «جورج إبراهيم» وإخراج «نجيب غلال».. لمسرح القصبة..؛ والعرض البلجيكى الفذ، والعروض التونسية.. «انتبه أشغال» نص صمويل بيكيت .. اقتباس «غازى الزغبانى وناجى القنواتى» إخراج «غازى الزغبانى»، وعرض «بوراشكا والفلايك ورق» نص «رضا بوقديدة» إخراج «جعفر القاسمي»، وعرض «رهائن» نص «ليلى طوبال» وإخراج «عز الدين قنون» إنتاج مسرح الحمراء..؛ ومما هو جدير بالذكر أن العرضين الأخيرين كانا من العروض التى اهتمت مجلة العربى بالتقديم لها وكان لها فى ذلك قصب السبق بين الدوريات العربية.

«تكلم حتى أراك»

«تكلم حتى أراك».. هكذا تكلم الفيلسوف سقراط. وها قد تكلمت «تونس الخضراء» بلسان «قرطاج الجليلة» وأيامها السعيدة التى مرت كلمح البصر أو أسرع ..، رحلت الأجساد وبقيت الأرواح والقلوب تحلق فوق مرتفعات الشمال تهفو اللقاء يبدل العسر يسرا.... كل من يعمل عملاً ينتظر الثناء ولكن بحسب من ينظم مهرجاناً «أن ينجو من اللوم» تماماً كمصنفى قواميس اللغة، كما قال د. جنسن...؛ لكن اللغة القرطاجية كانت أسمى لأنها تكلمت بلسان الحب.

 

 

خالد سليمان 





الجيل الجديد أكد حضوره في مهرجان قرطاج





بعض العروض احتفت بالأداء على حساب الحوار





الممثلون العرب تنافسوا في الإجادة





أداء تمثيلي لفت انتباه جماهير قرطاج





المسرحيات المشاركة اهتمت كثيرًا بعناصر مسرحية مختلفة