ملف خاص عن حمد عيسى الرجيب

ملف خاص عن حمد عيسى الرجيب " 1922- 1998 " إشراقة لا تغيب

في وقت مبكر من زمن نهوض الأمم، يضطلع رجال استثنائيون بمهمات عديدة متنوعة فكأن الواحد منهم مؤسسة كاملة ، إنسانية وثقافية متعددة الاهتمامات، وهذا الملف يحلق في آفاق نموذج منهم.

شأنه شأن أغلب الكويتيين من جيله، كان ارتباطه بالكويت وفنونها وتاريخها ورجالها، ارتباط الوريد بالشريان، كانت هي عشقه الأول وألاخير، وبوصلته التي توجه مسيرته، حمل شئونا وشجونها في وجدانه، منذ كان صبيا يافعا في المدرسة المباركية في الصف الأول الثانوي وعرض عليه سكرتير مجلس المعارف في ذلك الوقت " 1939" الأستاذ عبدالملك الصالح "رحمه الله" أن يكون مدرسا في المدرسة الشرقية، ويواصل دراسته في المباركية لتغطية عجزفي المدرسين ، كان امتحانه على الأبواب، وهو المولع بالدراسة الراغب في التفوق، لكن نداء الواجب عنده، منذ ذلك الزمن الباكر وحتى آخر أيامه، كان هو الأقوى من أي مصالح شخصية، وهو الأبقى من أي منافع، وظل هذا الواجب يرافقه طوال حياته سواء كان متنقلا بين التدريس والنظارة، أو خلال بعثته التعليمية إلى القاهرة عام 1945، حين اختير ليرتب جوازات السفر له ولبقية افراد البعثة ولقائه أثناءها رائدا من رواد النهضة التعليمية المرحوم الأستاذ عبدالعزيز حسين وتعلقه به وإعجابه بشخصه، ومساهماته هو ورفيق دربه الشاعر احمد مشارى العدواني في مجلة البعثة التي يرأسها عبدالعزيز حسين وفي اثراء انشطة بيت الكويت الثقافية، ثم بداية دخوله محراب المسرح الحقيقي بعد أن أ؛به وهو بعد تليمذ عندما التحق خلال وجوده بالبعثة بمعهد التمثيل في القاهرة، ودرس فنون المسرح على يد رواد فن المسرح في ذلك الوقت، من امثال زكي طليمات ويوسف وهبي كما أتاح له وجوده في القاهرة، وكانت تشهد نهضة مسرحية في ذلك الوقت، من خلال احتكاكه يفرق مسرحية عديدة كفرقتي الريحاني وعلى الكسار وغيرهما، وارتوائه في هذا الجو الفني بحبه الكبير والأثير للنغم وعالم الموسيقى، ودراسته لها دراسة أكاديمية في معهد الموسيقى المصري، كل ذلك اشاع روح الفن والإبداع لديه. وظل هاجس تقدم الوطن ورقيه، يلازمه وهو يؤسس دائرة الشئون الاجتماعية بعد ذلك عام 1954، وحين عاد للوطن وعمل فترة مريبا وناظرا، ثم مؤسسا لنادي المعلمين، وجذبه حسه الإنساني ليترك عالم التربية والتعليم إلى عالم أرحب، يستطيع أن يعبر فيه عن ذاته أكثر وأن يخدم مجتمعه أكثر، فقبل عرض اللجنة التنفيذية اليعا "مجلس مصغر للوزراء" بأن يؤسس دائرة الشئون، ويكون أول مدير لها، نظرا للحاجة الماسة الى تنظيم استقدام العمالة الأجنبية، خاصة بعد اكتشاف النفط وبدء تصديره ، وفي هذا العمل الإنساني القائم على عون ومساعدة الكثيرين، وتقديم الخدمات لمحتاجيها، وجد حمد الرجيب ضالته في تحقيق أمانيه وفي خلق نهضة مسرحية وموسيقية في بلده، فكان أن استقدام زكي طليمات ليجري دراسة على أوضاع المسرح في هذا المجال، وبعد تقييم الوضع أنشأ أربعة مسارح هي المسرح العربي ومسرح الخليج والمسرح الشعبي والمسرح الكويتي. ولأن إيمانه بالفن وأثره في تقدم الشعوب ورقيها كان كبيراً، لذلك أسس مركزا للدراسات المسرحية الذي تحول إلى معهد الفنون المسرحية فيما بعد، وانخرط فيه عدد كثير من الشبان والشابات الكويتيين، وعدد لا بأس به من شباب دول الخليج، كما أسس مركز الفنون المسرحية، وكان هذا المركز شعلة نشاط ومركز تدريب واكتشاف المواهب الموسيقية، يمضي اليه الرجيب ما تبقى له من وقت بعد دائرة الشئون ، ليشارك الفرقة الموسيقية التي أسسها تدريباتها ويدرب الأصوات الكويتية الموهوبة على الغناء.. وخلال تلك الفترة اهتم بتسجيل الألحان الموسيقية والأغاني التي لحن بعضها لكبار المطربين كويتيين وعربا للإذاعة الكويتية، بل إن إذاعة القاهرة سجلت له أو لحن موسيقي، وضعه " البوشيه " ثم أسس مركز آخر لحفظ التراث وقام برحلة إلى البحرين لتسجيل التراث، كما جمع أغاني البحارة وقصائد شعراء النبط وسجلها خوفا من الضياع، وتوالت مؤلفاته الموسيقية في هذا الجو المفعم بالحيوية والإبداع، فألف قطعا موسيقية عديدة منها " طيبة" على اسم زوجته وساحل الفنطاس وغيرهما الكثير، وهكذا كان لحضوره ومواهبه الموسيقية والإبداعية ، أثرها البعيد في بداية مرحلة أكثر خصوبة وعمقا في عالم المسرح والموسيقى بالكويت، وأصبح امتهان الفن شيئا مشرفا بعد تصدي حمد بنفسه لإبراز قيمة الفن، وحينما اعلن اعتزازه بهويته كفنان وموسيقار .. ومنذ عام 1954 وحتى عام 1966 وهو يدعم الخدمات الإنسانية التي تؤديها دائرة الشئون بجهده الشخصي بجانب الرسمي، واستطاع أن يجعل الأندية الثقافية والرياضية أكثر فاعلية وعطاء في مجالها بعد ضمها لدائرة الشئون وأعطى لهذه المؤسسات دعما غير محدود وساندها في شتى المناسبات واستخدم صلاته لدعمها وتفعيل انشطتها. هكذا كان كل شيء عند حمد الرجيب يدور وجوداً وعدما مع مصلحة الكويت ومن أجل نهضتها، وليس لمجده الشخصي، حتى حين اختير عام 1966 ليكون أحد فرسان الدبلوماسية الكويتية فوجي بتعيينه سفيرا، لأنه كان يرفض دائما هذا المنصب، نظرا لأن طبيعة هذا العمل كانت بعيدة عن شخصيته وسجي ته الفنانة المحبة للحرية .. لكنه من أجل الوطن ورجال يحترمهم ويجلهم لا يستطيع أن يخذلهم أبدا، ولو كان ذلك ضد طبيعته وضد مصلحته .. وكان هذا السبب ذاته هو الذي دعاه إلى قبول منصب سياسي "وزير الشئون" بعد أن رفضه مرارا، واضطر من فرط حرجه تجاه شخصية يجلها كثيرا " الشيخ عبدالله السالم حاكم الكويت في ذلك الوقت " أن يقطع على نفسه وعداً بقبولها في مرة قادمة..

واضطره ذلك للوفاء بوعده حين عرض عليه سمو ولي العهد هذا المنصب بعد ذلك، فكان أن فضل قبول منصب لا يحبه احتراماً لقائد يحبه ولمصلحة وطنية. شيء آخر، لقد نجح رحمه الله ايما نجاح في عمله الدبلوماسي حيث كانت ديوانيته في القاهرة والمغرب " حين كان سفيرا لدى كل منهما " تضم صفوة السياسيين وزبدة المجتمع الثقافي والفني ، وقام بدور مهم في تلك المرحلة من مراحل النضال القومي وشارك في صنع احداث مهمة ، واطلع على خبايا الجراح العربية، وساعده على نجاح هذا الدور شخصيته كفنان ومحدث ممتع فكان له حضوره المفيد والفعال في هذا المجال المهم في تلك الفترة الحاسمة والحساسة من تاريخنا العربي. كان حمد الرجيب هو كل الفنان والدبلوماسي والإنسان، وكان قبل كل هذا محبا لكل ما هو أصيل وجميل، عاشقا للكويت وفخورا برموز نهضتها مزهواً بديمقراطيتها ومساحة الحرية التي يتمتع بها شعبها .. كان منتميا بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان منتميا لماضي وطنه وحاضره، ومؤمنا بمستقبلهن وبأن الله حافظه لأنه ديرة خير ومحبة، وكان متعلقا بالعروبة حتى النخاع. وقد عبر عن ذلك بإسهاب في مذكراته الرائعة "مسافر في شرايين الوطن" التي سجله فيها عشقه الذي لا يغيب عن كل شاردة وواردة في هذا الوطن، وارتباطه بقيم دينه الحنيف، ذلك الارتباط الذي ميز الكويتيين منذ أن وجدوا على حد تعبيره رحمه الله ، كما لوكان الرجل ذا وفاء نادر لأصدقائه في زمن عز فيه الوفاء.

حمد الرجيب
وفن صناعة البدايات
بقلم: الدكتور سليمان الشطي

من أي طرف نمسك برداء الحديث عن حمد الرجيب معلم، ممثل ، مخرج ، مؤلف ، رجل مسرح ، ملحن ، مؤسس للنشاط الاجتماعي، رجل دولة يتولى فيها أعلى المناصب.

وتبقى الفراغات بين الكلمات لتملأها مساحات من القول تتحدث عن جهود كثيرة بذلها جيل من رواد يقف حمد الرجيب في منتصف العقد الجامع بينهم، مقدما لنا شخصية من أولئك الرجال المتميزين الذين يصنعون الأعمال الرائدة كما يتنفسون ، فتأتي طبيعية تسكن في موقعها، كأنها إلهام، او قطرة قطر عليها صاحبها، أو هي تأتي تدفعها ريح سلسلة سهلة لينة، يوحي مظهرها بهذان ولكن حين التأمل ترى أن الخطوط من تحتها تشير إلى ذلك الجهد الخارق والذي يسبقه وعي حصيف يضرب في الجذور الت تنبثق منها أكثر من زهرة متفتحة . إننا عندما نلتفت هنا في الكويت- نجد أن حمد الرجيب كان حاضرا دائما ، ففي الوقت المناسب، لصناعة شيء جميل يبهج الحياة أو ليؤسس عملاً راقياً يرفع من قامة حياتنا الحضارية، وجدناه معلما- في المعنى المحدد للكلمة ، فقد اختير ليكون معلما للمراحل الأولى وهو لا يزال بعد في مقتبل العمر، وفي الصف الثاني الثانوي- وهو معلم في المعنى الشامل أيضاً، حيث تجاوز جدران الفصل إلى صناعة التوجه العام ، فهو مؤسس من مؤسسي النشاط المدرسي ، وفي اطار زرع في النفوس التوجه الفني نحو المسرح، ومد نشاطه إلى خارج الجدران المدرسية، ثم استكمل طريقه في ترسيخ مجالات البحث في الفنون الموسيقية والتراث الشعبي ولم يتوقف عن هذا الحد بل دخل ليكون مؤلفا وموزعاً للموسيقى، ومحلناً رائداً، وكان جهده المثابر يشير إلى أن اهتمامه يتجاوز عنايته بأعمالة الفنية الخاصة ، ولكنه يتخطى هذا الجانب ليفتح الأبواب لكل من معه من جيله، يمهد الأرض، ويعد السبل ، ويقوم بدور الرائد الموجه، وكأنه لم يكتف بممارسة فن الإخراج في المسرح الوليد، في تلك الفترة المتقدمة، بل أراد أن يلبس لباس المخرج ويتسربل بهمومه في كل المجالات التي تعلم تأصيل الفنون في وطنه. واكتمل عقد البدايات التي ابتدأها حينما جذر الإحساس الاجتماعي، ببعده الإنساني ، ودس الرعاية الفنية ضمن هذا الإطار الحضاري عندما كان يؤسس ويقوم بعبء إنشاء وزارة الشئون. وكان قبل هذا قد شهر قلمه كاتباً وداعية ومبشرا. إذن القبض على طرف من ذلك الرداء الكبير الذي بسطه حمد الرجيب يجب ألا يحجب الرؤية الشاملة لأعمالة الكثيرة. ولكن حسبنا أن نمسك طرفا من جهوده ، ومنها هذا التأصيل لنشأة المسرح والذي كان حمد الرجيب جوهرة بداياته الاولى المتألقةن حيث ي قف في مسيرة المسرح ، عند نقطة البداية الأولى ، فامسك بأهداب المبادرة ليحفر المجرى الكبير الذي سارت فيه حركة المسرح.

مساحة طموح

بين أوراق الفنان يوسف وهبي رسالة لها من التاريخ نصيب، لها من الدلالات أنصبة كثيرة، تقول الرسالة:

"حضرة صاحب العزة يوسف بك وهبي مدير الفرقة القومية تحيه وبعد ،،

أنا طالب من طلاب البعثة الكويتية، أدرس في المعهد العالي للتمثيل العربي، وأود أن أحضر إخراج بعض المسرحيات التي يتولاها سيادتكم، لأزيد من ثقافتي المسرحية، وأستفيد من تجربتكم وخبرتكم.

إمضاء
ولدكم حمد عيسى الرجيب "

رسالة طريفة ودالة، ودلالتها عندي أنها تشير، ابتداءن إلى أمرين، أولهما أن كاتبها يملك طاقة غير عادية، أو أن مساحة طموحه اتسعت فلم يكتف بالواجب ولكن إلى ما هو أبعد من الواجب، وأنه يريد أن يختصر ويعتصر كل الإمكانات المتاحة له، فنهم المعرفة قد ملك عليه أمره، ودليل هذا هو : أن حمد الرجيب عندما أرسل هذه الرسالة كان في السنة الأخيرة من بعثته "1949"، وكان يدرس علمين في آن واحد، الدراسة الاولى صباحية ، وهي دراسته الأساسية التي أرسل من أجلها، وكانت لدراسة التربية وعلم النفس، فحمد الرجيب يعلم أن فن المسرح ليس من الفنون التي يمكن أن ترسل له أو تفرد له البعثات العلمية، لهذا أضاف إلى هذه الدراسة الصباحية دراسة أخرى مسائية في المعهد العالي لفن التمثيل العربي، لقد تحمل عبء دراستين في آن واحد وتمكن من النجاح فيهما في المدة المقررة "1945-1949".

كان يدرس إذن دراستين في آن واحد، الأولى يحكمها الواجب الوظيفي والثانية تقودها الموهبة والميل الفني، وفي هذا جهد جهيد، ونضيف إلى هذا كله قائلين أنه أيضاً لا يغيب، فهو حاضر في كل المساهمات ومشارك، إن لم نقل مؤسس، في كل نشاط كانت تقوم به البعثة التعليمية آنذاك في القاهرة، لقد كان طموحا متحركا لا يرتضي السكون، فنراه يحرر في مجلة " البعثة " . والمتصحف في اعدادها الأولى لا يراه غائبا بل مشاركا في التحرير والكتابة، وإلى جانب هذا نلحظ نشاطه الأساسي في توليه الإعداد والإخراج والتأليف للمسرحيات التي كان يقدمها بيت الكويت في القاهرة في المناسبات الدينية والاجتماعية، ولعله كان وراء ذلك التقليد الذي يحتفل بالمناسبات ويقدم الأمسيات المسرحية والموسيقية، وقد شهد بيت الكويت في القاهرة عددا من المسرحيات التي أخرجها حمد الرجيب وشارك في التمثيل فيها.

طاقة غير عادية ، أو لنقل طموح جموح ورغبة في تقديم كل جهد للوطن وللفن الذي اختار، وبذل أقصى طاقة ممكنة ، لذا لم يكتف بما أشرنا إليه، فضم إليه هذه الرغبة في التعلم خارج إطار المؤسسة التربوية، وبمبادرة شخصية ، فاختار أشهر رجل مسرحي في عصره ليتعلم على يديه.

وأفهم من هذه الرسالة التي خاطب بها يوسف وهبي شيئا آخر، متصلا بطبيعة الفن نفسه، فنحن نعلم أن أستاذه المباشر في المعهد هو الاستاذ زكي طليمات الذي سيكون له، بفضل سعي حمد الرجيب ، دور مهم في مرحلة تالية من تاريخ المسرح في الكويت.

كان طليمات يمثل ويبشر ويعمل للمسرح من خلال منهج وأسلوب تربوي أكاديمي مغاير، بل معاكس لما يدعو إليه الأستاذ يوسف وهبي، وهما اسلوبان متنافسان ، أولهما يقدم منهجية تربوية والثاني يعايش العمل الفني بممارسة عملية تتحسس حاجة الجمهور، وقد تؤثر في ذوقه وقد تخضع له ، وكان من المتوقع ألا يخلط الطالب بين الطريقتين، ولكن الرجيب- وبمبادرة فردية كما ذكرنا- ولغرض عملي مع رغبة في أخذ واكتساب كل ما يمكن اكتسابه، حاول الجمع بين الطريقتين ، أو على الأقل القيام بالتعرف المباشر عليهما، ليجمعهما في حقيبة خبرته، وفي هذا وعي من نوع خاص يتميز به الرواد الذين تلقى على أعتاقهم وضع علامات البدايات الجادة.

ولم يقصر حمد الرجيب تلقيه على هذين، فقط أضاف إليهما ثالثا، كان دائما على مقعده- كل خميس- في مسرح الريحاني ليتابع لونا آخر يقدمه مبدع من مبدعي عصر الازدهار والطموح.

انه دأب الرواد الذين يردون كل الينابيع.

وتبرز صفة أخرى من صفة الريادة، وهي صفة يتشابه فيها الرواد، ونعني بها تجاور الوعيين- العملي والنظري- وفي هذه النقطة يحضر أمامي الرائد مارون النقاش، فثمة عنصر تشابه ألمسه بينه وبين حمد الرجيب، فالرواد عادة تكون منطلقاتهم متقاربة، وأوجه التشابه قائمة بل وجلية، فمارون النقاش الذي تقف تجربته على قمة الهرم الذي انحدر منه المسرح العربي الحديث، يجمعه بحفيده حمد الرجيب خيط ذهبي ليس هو فقط فكرة البداية من حيث إنها بدايةن فثمة ما هو أعمق وأشمل ، فالمشابهة ليست خارجية، ولكنها مؤشر له اعتباره في تحديد جوهرية البداية المؤسسة على الوعي والإدراك والإحاطة وشمول النظرة ، فالبداية عندما تكون مؤصلة ترشح منها دلائل الوعي والتصورات المتكاملة. هذا التلاقي في طبيعة البدايات ، لايصبح مصادفات يقذف بها الزمان دون تخطيط أو منهجية ولكنه يدل على عقول وعزائم تتوثب في دماء النابغين من بني البشر.

مدارك البحث

وهذا الوعي الذي نتحدث عنه هو ما نلاحظه فيما سجلته المصادر عن تلك اللحظة التاريخية التي وقف فيها مارون النقاش ليقدم بين يدي تجربته الأولى : مسرحية " البخيل " تلك الخطبة التي كشف فيها عن اختيار مدروس، فهو لم يكن عينا مبهورة التقطت ونقلت شكل المسرح إلينا، ولكنه كان عقلا رائدا ينظر ويدرس، لذلك وجدناه ينتقي من يتحدث إليهم ويقدم تجربته الأولى لهم، فهم على حسب تعبيره " أصحاب الإدراك الموقرونن ذوو المعرفة الفائقة ، والأذهان الفريدة القائمةن الذين هم عين المتميزين بهذا العصر" . ومن ثم فهو يقدم لهم " مرسحا ادبيا- وذهبا افرنجيا مسبوكا عربيا "، ويشرح سبب اختياره للون من ألوان المسرحيات دون غيره، ثم يبسط مهمة المسرح في الكشف عن عيوب البشر واكتساب الناس التأدب وكسبهم النصيح .. الخ . " انظر الخطبة في كتاب محمد يوسف نجم : المسرحية في الأدب العربي الحديث ".

هذا الوعي التاريخي والنظري والعملي نجد نظيره ومشابهة عند حفيده في عالم الريادة، حمد الرجيبن الذي انغمس مبكرا في التمثيل والإخراج وقبل أن تتفتح عنده مدارك التأصيل والبحث ، فقد وقف وقفات تبشيرية تواكب النشاط المسرحي الأول الذي كنا منغمسا فيه، ولأنه، يدرك أهمية التبشير وزرع الوعي الفني والتفهم الاجتماعي، فنجده يسير الخطوات نفسها- ولكن ليس عن طريق المخاطبة المباشرة، وإنما عن طريق الكتابة، ففي بعض كتاباته المبكرة، تجلي وعيه الثقافي ، حيث نشر في مجلة " البعثة " مقالة عن نشأة المسرح اليوناني والأصل الديني له ، وهي ثقافة اكتسبها من دراسته في معهد التمثيل العربي، ولكن رسالته الاجتماعية المباشرة في الدعوة إلى فن المسرح وضحت تماماً في مقالته عن " المسرح وأثره في المجتمع "، والأثر المشار إليه هنا هو ذلك الأثر الإيجابي ، مؤكدا أن المسرح ليس لهوا وتسلية، ولكنه مدرسة، تهذب النفوس، وتصلح المجتمع، بل ترقيه وتنميه فهو تثقيف ومواجهة للمشكلات. ويقدم أمثلة على اهتمام الدول التي سبقتنا من حيث اهتمامها، وكانت مصر هي القدوة التي قطعت شوطاً كبيرا، فيضرب امثلته التي شاهدها وخبرها فيها.

هذا الوعي الذي أصلته وأنطقته الثقافة الاكاديميةن سبقه حسه مرهف واندفاعه فطرية وضحت من اللحظات الأولى التي التقى فيها مع الفن المسرحي، لقد روى حمد الرجيب لنا بدايات تلمس للفرقة الأولى للمسرح، والذي نشأ في حضن المدرسة ، مشيدا في البعثات العربية التي كان لها فل زراعة البذرة ورعايتها، فيقول :

" أذكر ان شيئا غير عادي بالنسبة لنا أن نمثل ونتعلم كيف نحفظ نص المسرحية، كنا مبهورين بفن الإلقاء والموسيقى المصاحبة للنص والديكور والملابس مع أن كل ذلك كان في ابسط الصور، وأبعدها عن العمق.. لكن شيئا كان واضحا وهو ان هذه البذرة ستثمر، فقد كان الحماس عارما والإقبال مشجعا- وكان أم من هذه كلهن هناك رغبة حقيقة لدى الحكام المسئولين في التطوير والإصلاح. كانت التقاليد والقيم السائدة في المجتمع ، غير مهيأة لتقبل هذا الفن، ولكن خفف من حدة هذه العقبة وجود مسرح في المدارس الكبيرة، كالمباركة والأحمدية حيث كان نوعا من الترفيه الخاضع للإشراف الأبوي متمثلا في النظار والاساتذة المدرسين، حيث يختارون النص وهو في الغالب تاريخي إسلامي وله مغزى تربوي رفيع أو هدف عظيم".

ويشير في هذه البداية إلى لقطة لطيفة تؤكد تفانيه وتحديه واندفاعه الذي لا تردد فيه نحو المسرح، ففي أول رواية مثلها مع أستاذه محمود نجم كانت " إسلام عمر " ، وقد قام الأستاذ بدور عمر بن الخطاب، وبقي دور شقيقة عمر، وكانت هي البطلة الموازية له، والتقاليد كما نعلم حاجز وسد منيع، فللرجولة فيها مقام رفيع، لا يسمح بأن يقوم شاب أو صبي بدور أمراة، وهو مجتمع يجهل حدود وطبيعة هذا الفن الجديد " وحاول الأستاذ أن يجد بيننا من يرضى بأن يقوم بدور فاطمة شقيقة عمر" ، لكن الجميع رفضوا، فتقدم حمد الرجيب ليقوم بهذا الدور، وحتى تخفف صعوبة هذا الاختيار على المجتمع، أعطاه الأستاذ في التمثيلية نفسها دور آخر لرجل هو " سراقة " ، "فكان الأستاذ اراد أن يثبت رجولتي بعد ان قبلت دور امرأة ..".

ان التخوف الأول تلاشى عندما تغلبت عناصر التفتح على التزمت، فلاقى قبولا ونجاحا حتى من والده الذي كان فخورا به.

وقد شهد زميله المرحوم صالح شهاب له قائلا :" .. كما أسند إلى الأخ عيسى الرجيب دور فاطمة رضي الله عنها ، وهو دور من الأدوار المهمة التي لا يمكن أن يؤديها بإتقان إلا من تتوافر لديه الموهبة والقدرة على التمثيل وعلى ما يظهر لي أن هذه الموهبة والاستعداد الجيد في التمثيل اللذين كان يتمتع بهما الأخ حمد عيسى الرجيب قد اكتشفا في هذه المسرحية التي أجاد بها إجادة تامة ونال إعجاب الجمهورة ".

وسائل بسيطة

هذا الاندفاع المبكر للمسرح والموهبة المتفتحة ما لبثا أن أخذا موقعهما الذي ستنطلقان منه ن فقد أمسك الرجيب بأول الخيط، ولاقت حماسته ارضا متعطشة لكل جديد، وكان أبناء وطنه مستعدين لتحمل أعباء المرحلة الجديدة، لذا وجدنان في هذه البدايات تخلق الاندفاع الجميل الذي يحرك العزائم ، فقد كان وزملاؤه الطلاب مع تحملهم اعباء الحفظ والتدريب استعدادا للعرض المسرحي ن يقومون بإعداد الإعلانات يدويا ويجوبون الشوارع لبيع التذاكر، ويستعيرون مستلزمات التمثيل من سيوف وبنادق ويشرفون على إعداد الملابس. وكان حمد الرجيب يقوم بجانب الإشراف والإخراج والتمثيل بتصميم الديكور وعمل المكياج. ونتوصل إلى أنه أتقن الصنعة بوسائله البسيطة حتى انه لم يخدع أو يوهم الجمهور فقط بما فعل، بل إن من المسئولين من انزعج عندما رأى على خشبة المسرح المدرسي تلك الفتاة التي وضعها حمد الرجيب على المسرح، خروجا على التقليدن فقد ترك مدير المعارفن آنذاك ، مقعده معتقدا ان حمد الرجيب فضحهم بوضعه فتاة بين الطلاب، ولم يتبينوا انه لم يكن إلا فتى أتقن حمد الرجيب صناعة المكياج له. وقد خرج مع الفتى بعد العرض ليثبت لهم ان الماثل أمامهم فتى وليس فتاة.

هذه الجذوة التي تفتحت مع نهاية الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات خلقت وعيا وأججت جذوة من النشاط المسرحي الذي كان حمد الرجيب قائده الأبرز، فاشترك في النشاط المسرحي الذي كان يقدم آنذاك ، فقدم وشارك في مسرحيات مثل " ابو محجن الثقفي " و "تاجر البندقية" و " الميت الحي " و " من تراث الأبوة " وغيرها.

وكان الأهم هو تبشيره بفن المسرح، رعايته لجبل من الطلبة الموهوبين، ولعل من أبرزهم الفنان المسرحي محمد النشمي الذي التقى أستاذه الرجيب مبكرا في المدرسة الأحمدية، فتلقف هذا الفن ، ونحا فيه منحى شعبيا، فأصبح النجم الساطع في أوائل الخمسينيات.

كانت هذه البدايات المشجعة كافية لمن يريد ان يستثمر النجاح- ولكنها ليست مرضية لمن يحكمه طموح التأسيس العلمي المنظم، والباحث عن الأسس المعرفية التي تؤصل حركة ثقافية، فقد صح العزم عنه على تأكيد الموهبة بالدراسة، فالتحق بالبعثات التي بدأت بشائرها تتجه إلى القاهرة وبيروت ولندن، فكان ضمن أكبر بعثة ترسل في الأربعينيات لينضم إلى قبضة الرواد الأوائل مثل المرحومين عبدالعزيز حسين وأحمد العدواني، اللذين سبقاه ببضع سنوات ، ووجدناه- كما أشرنا من قبل- لم يقصر اهتمامه على دراسته الأساسية، ولكنه كان حاضرا نشطا أينما كان ، وليس أدل على حضوره أن مغادرته للكويتخ خلفت فراغا- فبعد تسعة اشهر فقط من مغادرته دعى، على عجل، ليعد لإخراج مسرحية " صلاح الدين الايوبي " ، هذا العودة التي ركب فيها لأول مرة طائرة بحرية وكان سير رحلته من روض الفرج في القاهرة مرورا بالبحر الميت فالفالوجا ثم العشار في شط العرب ليركب السيارة إلى الكويت، واستغرقت رحله الطائرة اثنتى عشر ساعة، ،"وصف الرحلة في كتابه مسافر في شرايين الوطن".

الفنان الشامل

وفي القاهرة قضى السنوات الأربع ، وفيها أخذت أهدافه شكلها النهائي ، فتيقن أن ظروف مجتمعه الناهض تتطلب منه تجاوز حدود التخصص الوحيد أو المجال الضيق، فالحركة الثقافية والفنية حلقات لا يقوم بعضها إلا قيام الآخر واستواء عوده، لذلك كانت اهتماماته تتجاوز تخصصاته، لذلك كانت اههتماماته تتجاوز تخصصاته، برغم اتساع أفقها ، فجعل إطار الفن المتسع منطلقة العام، كما أنه حين لامست قدماه خشبة المسرح أرتدى أو ارتدته هموم المسرح كاملة، فرأى نفسه موكولا بأن يمارس كل تفصيلاته ، والتي يقوم بها في الأحوال الطبيعية أكثر من شخص، لقد تمثلت به- في مجال المسرح- تلك الصفة التي يتجاوز بها صاحبها التفصيلات ليشرف على كل اجزاء العمل الفني، لذا لم يكن الرجيب ممثلا أو مخرجا أو مؤلفا ولا مدير لمسرح ، لقد كان هو كل هؤلاء ن نراه " رجل مسرح" بل " مؤسسا لحركة مسرحية" ، فمن حقه أن ننظر إليه فنانا شاملا ، لا يحصر نفسه في جزئية ولكنه يخوض غمار هذا كله ويتحمله كاملا كما رأينا، يمثل ويخرج ويعد الديكور بل يضع المكياج، وقد استمر يمارس كل هذه المهن حتى مرحلة متأخرة من نشاطه المسرحي المباشر.

ولأن رجل المسرح لا يستطيع أن يتجاوز التأليف، فإننا نجده أيضاً وضع نفسه في خانة المؤلفين الأوائل، لقد كتب ونشر مسرحيتين هما " من الجاني؟" و " خروف نيام نيام " ووضع فكرة المسرحية الشعرية " مهزلة في مهزلة " . في مسرحيته الأولى " من الجاني؟"- وهي من فصل واحد- كشف فيها عن توجهه الاجماعي الذي سيكون احد أهم أنشطته البارزة فيما بعد، ففيها يعرض ضياع الشباب وجريرة الآباء، ويبشر بالتفاهم بين الأجيال، ويدعو إلى العلم طريقا وحيدا للسلوك السوي ، لم تكن المسرحية إلا محاولة أولى تغلبت الفكرة فيها على الصياغة، وبدت نزعة الوعظ غالبة عليها، وبعض شخصياتها تنقلب من النقيض إلى النقيض بطريقة مفاجئة، ولكنها في تقنينها الفنية كشفت عن وعي في الدخول المسرحي وتوالي الأحداث ن وتركيز الحوار.

لقد كانت مسرحيته الثانية والطويلة " خروف نيام نيام " أكثر نضجا، ففيها انتقل إلى تسليط الضوء على الإصلاح في القمة، حيث الفساد الذي يصيب قمة الهرم، فموضوعها علاقة الحاكم بالمحكوم، فيتناول فيها توتر تلك العلاقة التي حكمها منطق التسلط من جهة والخوف في الجهة الأخرى، وقود هذا الانحراف حاشية الملك باسم الملك، فنسمع عن الخروف " شمعدان " وهو خروف الملك الذي يغرر بنعاج الآخرين فتتبعه ، وفي مملكة نيام نيام- وللاسم دلالته الواضحة- لا يستطيع أحد أن يقف امام ذي القرنين، فخروف الملك ملك حتى على سائر البشر، وعندما يحاول صاحب النعجة أن يسترجعها يلتقي الفساد والخوف المستشرين بين الناس، فالناس ينقسمون بين من يعرف الحق والباطل معرفة صادقة ولكنهم لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر ، وصنف لا يهمهم إلا المراكز والمقعد الوثير، ولو كان هذا على حساب كرامتهم، ونوع ثالث لا يضر ولا ينفع. وتتوالى الأحداث وتتكشف حقيقة المكيدة التي دبرها الملك ليعرف حقيقة من يعتمد عليهم، وليكتشف أن من اتخذهم وسيلة لإسعاد الشعب والنهوض به هم الذين يجلبون هياج الشعب وغضبه.

المسرحية محاولة للاستفادة من الإطار التاريخي ليسقط عليه افكار إصلاحية واضحة المقصد، تنفذ إلى مناطق الإصلاح في قمة الحكم، وتتعرض لحاملي الإمانة العامة، في جو مسرحي لم يتخل عن طابع البهجة ويحقق عنصر الترفيه والإيحاء والتأثير، وساعدت مساحة العمل الممتدة وتشابط أطرافه على تحريك عدد كبير من الشخصيات، وليقدم مشاهد متتابعة ، مع حوار طيع فيه دعابة جادة. لقد كانت مسرحية " خروف نيام نيام " عملا أوليا كان من الممكن أن تتبعه أعمال تتصاعد جودة لولا أن حمد الرجيب كان يسخر طاقته كلها، ليس لجانب واحد من جوابن الأعمال الفنية، ولكنه كان يطمح إلى أن يؤسس حركة فنية عامة لمجتمع كان يخطو خطواته المنظمة الأولى لكل مناحي الفنون.

حركة مسرحية متكاملة

لقد تجزأت هذه الرحلة الفنية لحمد الرجيب إلى محطات بدأت أولاها لحظة الانفتاح الأولى على حقيقة المسرح في مرحلة التعليم الاولى والتي ختمها معلما يختاره أساتذته وهو على مقاعد الدراسة للمساعدة في التعليم، وفي هذه المحطة كان اندفاعه منبهر متفتح على فن جديد يتعرف عليه أول مرة ، ثم جاءت محطة البحث والدراسة ، تلك التي امتدت منذ منتصف الاربعينات حتى اواخرها، حين طوى حقائبه عائدا إلى الوطن مع إطلاله الخمسينيات فبدأت محطة جديدة تشير إلى أنها ستثمر عن مخطط جديد طموح يسعى حمد الرجيب إلى تحقيقه مستفيدا من وضعه الجديد، فحمل معه رغبة الاستمرار والتطوير لفن المسرح، فرافقه هذا الفن، وهو معلم وناظر ومشرف على النشاط المدرسي ونقابي حين رأس نادى المعلمين.

كان حمد الرجيب في كل هذه المواقع، والذي كان عضوا فعالا في الاسرة التربوية وراعيا للنشاط المسرحي على الخصوص، يركز فكرة المسرح في الأذهان، ويرعى النشاط المسرحي الذي كان خلية نشاط، في الفترة الممتدة من عام 1950 إلى عام 1954 "انظر حصاد هذا النشاط في كتاب خالد سعود الزيد : المسرح في الكويت: مقالات ووثائق".

وشهد أواخر عام 1954 تغيرا في مسيرة حمد الرجيب، حيث أسند إليه تأسيس دائرة للشئون الاجتماعية، وإذا كانت هذه النقلة ذات بعد اجتماعي في حياة حمد الرجيب، فإنها كانتن في الوقت نفسه، نقطة تحول في تاريخ الفنون والمسرح بالذات ، فقد كانت هذه مناسبة لتخرج الرعاية المسرحية من نطاق المدرسي المحدود أو الهواية والحماية الفردية، إلى مستوى من التنظيم والتخطيط. لقد آن الآوان ليحقق ما حلم به من قبل ودعا إليه في مقالاته أو أحاديثهن كانت طموحاته تمتد إلى تأسيس حركة مسرحية وليس فقط نشاطا مسرحيا، حركة لها مقوماتها وخططها وبرامجها ومرافقها العامة المخصصة لها، ولن يتم هذا إلا عن طريق التخطيط والدراسة والمنهجية العلمية وتوفير الشروط الموضوعية، وهي واضحة في ذهنه، فقد كان دارسا دراسة منظمة في معاهد أكاديمية، واقترب من أساتذة لهم بصماتهم في تأسيس مراكز الفنون، ونتذكر هنا إعجابة الذي أبداه نحو رعاية الدولة المصرية في الأربعينات للمسرح ، وقام بعرض ونشر قرار مجلس الوزراء الخاص بهذه الرعاية والتعليق عليه بحسرة متمنيا أن يكون في وطنه مثل هذا الاهتمام . فهو يعلم أن تأسيس وتطوير الفنون لا يتم إلا من خلال قوة نافذة ومقتدرة، وهو واجب منوط بالدولة الحضارية.

لقد آن الآوان أن يضع يده في يد من يشاركونه الطموح، فعمل على إنشاء أول مركز للفنون الشعبية " عام 1956 " وفيه بدأ العمل على تسجيل وتطوير الفنون الشعبية، ودخل الرجيب في هذا المجال إداريا إضافة إلى كونه موسيقيا محلنا وموزعا.

وهذه البذرة تلاقت مع حركة تطوير أخرى تخص المسرح، حيث بدأ التفكير الجدي في تنشيط جبهة المسرح، من خلال تنظيم الجهد القائم، وكان مسرحاً ارتجاليا بطله الأول هو المرحوم محمد النشمي، التلميذ الذي تلقى بدايته المسرحية على يد حمد الرجيب في مطلع الأربعينات، لذا صح العزم على القيام بتنظيم هذا الجانب. وفي الوقت نفسه كان التفكير منصبا على الاتفادة من أستاذه الفنان زكي طليمات، والصلة لم تنقطع بينهما، منذ أن غادر القاهرة متخرجا في معهد التمثيل العربي، فكانت الدعوة موجهة إليه ليكون في أول الأمر زائرا محاضرا ضمن الموسم الثقافي الذي كانت تقيمه دائرة المعارف آنذاك، ليتحدث عن المسرح العربي وعن أثر المسرح في الحياة. وكانت زيارته الثانية ثم إقامته الطويلة التي أشرف ليها على تأسيس فرقة مسرحية وتدريب وتعليم هواة المسرح، ووضع أسس إنشاء الفرق المسرحية الرسمية، ثم عمل على إنشاء مركز الدراسات المسرحية وهذا الدور مثبت وموثق في كتب تاريخ المسرح في الكويت ومنطقة الخليج. وواصل حمد الرجيب سعيه في تثبيت حق الفن المسرحي بالوجود والرعاية الشاملة من الدولة فأدخل ضمن خطط إنشاء وحدات الجمعيات التعاونية إقامة دور عرض مسرحية ، كانت الأولى في منطقة الخليج، فكانت أهم إنجاز مسرحي على مستوى الإعمار، حيث تم- ولأول مرة- تشييد ثلاث دور للعرض المسرحي. لقد كان حمد الرجيب هو العقل المخطط واليد القوية التي كانت تدفع بقوة هذا الجهد إلى الإمام، والذي امتد من عودته من القاهرة عام 1950 حتى عاد إلى القاهرة مرة أخرى سفيرا عام 1966، فقد اقتنصته الدبلوماسية، أو آثرت نفسها به . عندما غادر وزارة الشئون والعمل، واسلم قيادة ورعاية الفنون لغيره كان ثمة وليد قد استوى عوده، ورسخت أقدامه، واشتعلت الساحة الكويتية بنشاط مسرحي قائم وحركة فنية مندفعة تعتمد على نفسها وعلى أجيال صاعدة هي أفضل غرس غرسه هذا الرائد المتميز. لقد ودع وسلم قيادة موكب الفن إلى الجيل التالي بعد أن أثبت حقا مهمان ترى رمزه واضحا، ففي وزارة الشئون وفي مكان بارز منها كانت هناك لافتة تقول : مؤسسة المسرح والفنون : تأكيد الحق وتثبيتا لجهد استمر ما يقارب من ثلاثين عاما.

أخي حمد .. طوبي للغرباء
بقلم : الدكتورة لطيفة الرجيب

ماذا يمكن أن أقول عن أخي حمد ذلك الذي كان مشعلاً يضيء حياتنا نحن افراد أسرته؟. ومن أين لي البلاغة لأصف مسيرة إنسان كان نموذجاً يحتذى ليس لنا فقط بكم رابطة الرحم، بل لكل من يحب القيم الجميلة وينتمي إلى عالمها الملئ بالطمأنينة والاستقرار؟

لن اتحدث عن حمد كعطاء متواصل في مجالات شتى شهد له الكثيرون فيها بالإخلاص والولاء لوطنه. لأن شهادتي مجروحة، لكني سأقتصر على حمد الإنسان وحمد ذلك الكيان الفكري الذي حمل إلى عالمي وإلى كل موقع مر به عطر الحضارة.

أتذكر أول نسمة حضارة عطرت حياتنا وحياة من شاركنا هذه اللمسة المضيئة ، وكيف أصبحت أيامنا نحن أسرته عامرة بالمودة والتواصل الاجتماعي، كنت في ذلك الوقت الباكر في المرحلة الثانوية، وكانت مدرساتنا اغلبهن قادمات من فلسطين أو مصر أو سوريا، وكانت هذه الفئة تخضع لنظام صارم من وزارة التربية، لا يخرجن من السكن إلا بإذن من الوزارة، لا يزورهن أحد أو يزرن هُنّ أحداً من العائلات الكويتية إلا بإذن ، وكنا نحن شقيقاته وأسرته نمضي الوقت بعد العودة من المدرسة في البيت لا نزور أحداً من صديقاتنا ولا نزار. كان هو مختلفاً يؤمن بأن الحياة بغير ترويح عن النفس سجن لا يطاق، وأن هؤلاء المربيات الفضليات ، يحتجن للإحساس بالمطأنينة، وأن يتعرفن على الأسر الكويتية، ليكون هناك معرفة بقيم وتقاليد هذا المجتمع، ولا يشعرن بالغربة والعزلة لأنهن ضيفات كريمات على مجتمعنا ، جئن لتأدية رسالة لفتيات وبنات هذا الأسر، كنا فعلاً كوكيتيين نحس بصعوبة وضع مدرساتنا، وكنا نتحدث أنا وأخي والوالد رحمه الله يشاركنا الحوار، حول هؤلاء الغريبات المعزولات واللاتي هن اخوات لنا يحتجن إلى الإحساس بالطمأنينة الاجتماعية. وانتهى الحوار بأن اقترح أخي أن ندعوهن في ضيافتنا على شاي وحلوى، ليتعرفن على الأسر الكويتية ويكون هناك حوار ودود بين البيت والمدرسة في حدود قيمنا وعاداتنا، وافق والدي بعد أن تأثر بمعاناتهن، وكان أن تقدم اخي حمد بخطاب لوزارة المعارف، يستأذنها في دعوة مدرساتي إلى بيتنا على فترات، مع بعض المدرسين المتزوجين من الجنسيات المختلفة. كانت هذه ربما أول دعوة للاختلاط في مجتمعنا، وتتم بمسمع ومرأى من وزارة التربية، وكان إعجابي وذهولي في نفس الوقت بموافقة الوزارة على الطلب، وترحيب أبي به، وبالطبع كانت هذه لمسة حضارة أدخلت بعض الدفء على جفاف الحياة الاجتماعية التي نعيشها، واصبحت العلاقة بيننا وبين مدرساتنا اكثر مودة، كما كان لزيارة الأسر من مدرسين وزوجاتهم لنا عامل مودة وبهجة قلبت حياتنا إلى الأجمل والأفضل واستطاع أخوة لنا أن يجدو في تلك الساعات المحدودة نوعا من الترفيه النظيف يدخل البهجة على حياتهم.

وأذكر أنه كان يستأجر لتلك الزيارة المحببة الينا، والتي كنا ندعو إليها صديقاتنا والقريبات، كنا نستأجر آله عرض ، وفيلما سينمائيا يعرض على شاشة الحائط في بيتنا ن وكان والدي يحضر هذه الديوانية المختلطة ويتناول الحديث الودي مع تلك الأسر، ثم نشغل الفيلمن وبعده نقدم لهم الشاي والحلوى والمرطبات . كانت هذه الجلسات قصيرة لا تدوم كثيراً، ولكنها كانت تحمل معاني كبيرة. كان يحس بإحساس الغرباء، والقيود الواردة على حريتهم الشخصية في مجتمع مغلق كمجتمعنا ، في ذلك الوقت، خاصة أنهم جاءوا من مجتمع منفتح ولا يعاني من هذه الضغوط، وهكذا اراد أيضاً أن يبدو وطنه بمظهر حضاري مع الغرباء، حضاري لا تشوبه أدنى شائبة، وبمباركة وحضور أسرة كويتية محافظة، أيضاً هي تؤمن بالتقاليد وبالخلق السوي وبالقيم النبيلة إيمانها بالخالق عزوجل . هذه الحالة.

الشيء الآخر عندما ذهبت ضمن بعثة تعليمية للدراسة في الجامعة بمصر عام 1959 كانت ترافقنا في وجداننا تقاليد الكويت وقيهما الاجتماعية ولم نكن نرغب في الخروج على هذه التقاليد. لكن الحياة من حولنا في مدينة كالقاهرة كانت تختلف، كان من حظنا أننا ذهبنا في عصر المد القومي العربي، حيث كان في أوجه، في عصر الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، وكنا بوجداننا ولا نزال حتى الآن، ورغم كل ما حدث لنا، ننتمي إلى العروبة ونجاهر بهذا الانتماء، كنا بالطبع شأن كل الشباب العرب في ذلك الوقت من المحيط إلى الخليج، نتعلق بالقيم القومية التي يدعو لها الرئيس عبدالناصر، ونشتعل حماساً لمواقفه القومية المليئة بالعزة والكبرياء . كان الرئيس عبدالناصر في تلك الآونة عام 1962 سيلقي خطاباً سياسياً مهماً، أحسنا انا ورفيقات البعثة بضرورة حضوره كانت معنا الأخت غنيمة المرزوق والآخت آمنة الحمدان والأخت حصة العدواني والأخت موزة العبدالرزاق والأخت سارة السلطان وشريفة الصقر وغنيمة المطوع وغيرهن ممن لا تسعفني الذاكرة بأسمائهن ، كان حماسنا كبيراً لخطورة هذه الخطبة وسماعها منه شخصياً في مكان إلقائها، وكان بحكم تقاليد بيت الطالبات ممنوع علينا الخروج وحضور مثل هذه المحافل إلا بإذن ، ذهبنا إلى السفارة والمكتب الثقافي، رفضوا اعطاءنا الإذن ن وقالوا لابد من موافقة مكتوبة من الأهل. ولم يكن متبقي على الحفل إلا أيام معدودة، ارسلت في الحال خطاباً لأخي استأذنه لأن والدي كان قد توفى رحمه الله وأصبح هو ولي أمري، ، جاءتني موافقته بأسرع مما تصورت، وحينما علمت زميلاتي بموافقة أخي حمد قلن بالاجماع وبصوت واحد، ما دام حمد الرجيب قد وافق، فإننا متأكدات من موافقة أولياء أمورنا، وبالفعل عندما أرسلن لأهاليهن يطلبن الموافقة، ذهب الأهالي لحمد وخطوا رسالة واحدة وعليها تواقيعهم جميعاً، وأعطوها لأخي الذي أرسلها مباشرة للمكتب الثقافي، وحضرنا نحن فتيات الكويت هذه المناسبة التاريخية التي لا يحضرها إلا كبار الشخصيات الرسمية.

وكانت هذه لمسة ثانية من لمساته الحضارية وفرحة كبيرة لشابات في مقتبل العمر مثلنا. شيء آخر أعمق وأكثر تأثيراً في حياتي كان بفضل هذا الأخ رحيم القلب بعيد النظر، حقيقي الثقافة والذي يدرك أن الإنسان لا يرتبط بجنسيته بل بقيمه وسلوكياته في الحياة وما هو عليه من خلق ودين. تعلمت منه هذه المفاهيم واحترمتها تماما طوال حياتي . شيء آخر فيه من عطر الحضارة وعبيرها، كنت عائدة بصحبة زوجي رحمه الله من لندن حيث كان يعمل الزوج كنا في إجازة نمضي بعضاً منها في القاهرة وكان أخي رحمه الله جالساً في بيته مع صديقه الأديب المصري أمين يوسف غراب والأستاذ الشاعر الكويتي أحمد مشاري العدواني " رحمهم الله جميعا " دخلنا عليهم وسلمنا، كان اليوم يصادف مناسبة عزيزة ، مرور عام على زواجنا، وكنا نعتزم الاحتفال معاً في أحد الفنادق بهذه المناسبة، فقال أخي حمد موجهاً كلامه لزوجي: اذهبا وحدكما وتمتعا بمباهج الحياة، فلطيفة ابنتي وليست أختي، وهي إنسانة متفائلة ولها في الحياة أهداف تصر عليها، فحاول أن تحقق لها ذلك. وأذكر أن العدواني علق قائلاً : يبدو ذلك من نظرة عينها ياحمد. وأكمل الأديب أمين يوسف غراب بتعليقاته المرحة " واغنم من الحاضر لذاته فليس من طبع الليالي الأمان " . وهذا ما حدث بالفعل في السنوات القليلة اللاحقة. المهم في هذا الموقف أنه كان يحب ان يستمتع كل من يحبهم بحياتهم وكان يسعده أن تظللهم السعادة، كان ذلك واضحاً مع أسرته ومع غيرها . واستطاع أخي بروحه المحبة للحضارة أن يجمع القلوب حوله . وكانت ديوانيته في القاهرة خير مثال على ذلك، كان منتدى ثقافيا وفنيا يجمع السياسي والروائي والشاعر وكل فنون الحضارة.

رجل النهضة
بقلم : الدكتور خليفة الوقيان

الفقيد الكبير حمد الرجيب واحد من رموز ما يمكن ان نسميه " جيل النهضة" في الكويت، وهو الجيل الذي تفتحت مداركه على حقبة الحرب العالمية الثانية وتداعياتهان ونكبة فلسطين، والتحولات الفكرية التي رافقت تلك المرحلة.

وقد تسلّم هذا الجيل مشعل التنوير من أيدي الرواد الأوائل ليواصل المسيرة ، مسلحاً برؤية مستنيرة ، متسقة مع طبيعة المرحلة، وبإصرار على حرق المراحل على طريق النهوض بالمجتمع، وتكسير أغلال التخلف، التي تحاول تقييد انطلاقته.

وكان العطاء بحجم الطموح،ولذلك لم يكن من الأمور المستغربة أن نجد رموز جيل النهضة يعملون بلا كلل، ويعطون في أكثر من ميدان، ويحققون في سنوات قليلة ما يحتاج إنجازه إلى عقود ممتدة.

إن ما تنعم به البلاد الآن من مكاسب وإنجازات سياسية واجتماعية وثقافية ما كان ليتحقق لولا الجهود غير العادية التي بذلها جيل الرواد الأوائل للتنوير، والجيل الذي أعقبه.

وحين نلقي نظرة خاطفة على مسيرة الفقيد حمد الرجيب بصفته واحداً من رموز جيل النهضة فسوف نجده متعدد الاهتمامات ، متنوع المواهب، دائم التفاؤل بتحقيق الأهداف ، فضلاً عن خصال ذاتيه تجعله محبباً لدى الجميع.

عشق حمد الرجيب المسرح والموسيقى ، فكان رائداً في المسرح ، وعلماً في الموسيقى. وقد أطنب مؤرخو الحركة الأدبية في بيان دوره في التأسيس لحركة مسرحية جادة، تقوم على أسس علمية.

أما دوره في الموسيقى فلم يقتصر على الأعمال القيمة والمتطورة التي أبدعها، بل امتد إلى الإسهام في انتشال التراث الموسيقي الكويتي من الضياع، والعمل على حفظه وتوثيقه ، ومن ثم تطويره، وذلك من خلال الجهود التي قام بها مع زملائه في لجنة التراث الشعبي.

وامتدت جهوده إلى العمل الصحفي والتربوي والدبلوماسي فكان مخلصاً في عمله، ومتسقاً مع قناعاته.

أما الخصال الذاتية فلعلها أكثر ما يلفت النظر في شخصية الفقيد الكبير، فقد استطاع ان يغزو قلوب من عرفوه، ويستحوذ على حبهم وتقديرهم ، فهو يمتاز بالتواضع والسماحة والأريحية وسرعة البديهة، والروح الفكهةن وحب الحياة والناس والتفاؤل الدائم.

أصبح سفيراً ثم وزيراً لسنوات عديدة فلم يتغير مسلكه في التواضع والتواصل مع الآخرين، ولم يهجر عشقه او رسالته في خدمة الحركة المسرحية والموسيقية، والثقافية بعامة.

لم تفارق الابتسامة وجهة، ولم يغادر المرح روحه، وإن كان- في السنوات الأخيرة- يحترق وهو يرى قوى الردة الظلامية تضع العصي في عجلة تطور المجتمع ورقيه، وتمد معاولها إلى صروح النهضة محاولة تحطيمها وتدميرها.

وعلى الرغم من إيمانه وأبناء جيله بأن الزمن لايعود إلى الوراء عادة- وإن تعثرت المسيرة بعض الوقت- غير أنهم لا يستطيعون إخفاء حزنهم وهم يرون أبناء الجيل الجديد يتعرضون لعمليات غسيل منظم للأدمغة ، الأمر الذي سوف يؤدي إلى شل طاقاتهم ، وتعطيلهم عن المشاركة في تنمية مجتمعهم والنهوض به.

وبعد، فإن افضل تكريم للفقيد حمد الرجيب وزملائه من جيل النهضة هو إبراز المنجزات التي تحققت على أيديهم- كل في مجاله- وتعريف الجيل الجديد بهم ، بوصفهم من الرواد الذين قادوا المسيرة في ظروف بالغة الصعوبة.

معه من قريب
مسافر في شرايين الوطن

بقلم : زكريا نيل

ليس هناك من شيء يصيب نفسيّه الإنسان بالانكسار، أكثر من أن يتلفت حوله فيجد كل الصحبة من أصدقائه قد غابوا واحداً وراء الآخر. وعندها لا يلبث أن يجد نفسه في عزله أشبه ما تكون على درب الاغتراب!

من قبل رحلنا عنها رمز الحركة التنويرية ومربي العديد من الأجيال الكويتية " عبدالعزيز حسين " ومنذ فترة غاب عنا في هدوء كالهدوء الذي كان إحدى سماته البارزة، رائد حركة النهضة الفنية والمسرحية والرعاية الاجتماعية في الكويت حمد عيسى الرجيب!

والحقيقة أن الإنسان في حيرة من أمر نجومية هذا الصديق الراحل " حمد الرجيب" على الرغم من أن الانطباع الغالب عليه هو الهدوء. وعلى الرغم من ان كل المناهل التي كان يصب فيها عطاؤه، كانت تغلب عليها الحركة الدائبة. سواء عندما كان يلعب في لحظات صفاء على أوتار عوده أو على آله قانونه. أو عندما كان يعتلي خشبة المسرح في بداية حركة النهضة المسرحية التي أخذت تدب في شرايين الجيل الأول من المسرحيين الكويتيين، أو عندما أحدث ضجيجاً بألحانه التي قدمها لكل من كان يطرق بابه من الشبيبة الكويتية أصحاب المواهب الصوتية الجديدة . وكان لا يقبل عليها أجراً، خاصة ان معظم الهواءة بدأو أول ما بدأوا بترديد الغناء العاطي. وغدت القلوب والمشاعر، سواء في البدو أو في الحضر متلهفة لقبول مثل هذه الأغاني وخاصة الأغاني المعجونة بلوعة العاشقين. والعجب أن " حمد الرجيب " في ألحانه التي أذاب فيها الحديث مع القديم، وقفز بها من فوق التقليدية الحدائية في عشق أهل البادية، لم تحدث ما كان متوقعاً من ثورة القديم على الحديث الا قليلا. بل إن بعض عشاق الغناء الخليجي التقليدي من المصريين كان لهم نصيب من كرم هذا الفنان المعطاءا .

عرفت "حمد الرجيب" طيب الله ثرى التربة التي يرقد عليها- من عدة نوافذ، أطللت عليه من خلال طوال السنين العشر التي قضاها في القاهرة سفيراً لدى مصر ومندوباً دائماً للكويت لدى جامعة الدول العربية. وعندما كنت التقيه كلما زرت الكويت ، كا هو هو واحد من الوزراء الشعبيين لم يغلق باباً في وجه أي طارق . كان- وحده- يمثل عالماً يعج بالحركة والعطاء واكتساب العديد من الأصدقاء من مختلف الطبقات. كان أول سفير كويتي في مصر مزج الدبلوماسية بالفن بالسياسة. وكان منتداه الليلي مفتوحاً أمام مختلف رواد الثقافة العربية . ومع أنه كان يتردد قليلا على الموسيقار الراحل " محمد عبدالوهاب " وكان ينتظر أن يزوره في منتداه الليلي مع عشاق فنه، إلا أن عبدالوهاب " كان يكتفي بالاتصال الهاتفي مع " حمد الرجيب " وبعد حوار كانت تسمع من خلاله ضحكات متبادلة بين الرجيب وعبدالوهاب، يبدي في لطف اعتذاره عن عدم الحضور بحجة الخوف من " البر " الذي كان وسواس عبدالوهاب الوحيد!

وفي إحدى المرات وكان الصحفي الأثري الراحل كمال الملاخ موجوداً طلب ان يلتقط سماعة الهاتف لكن حمد الرجيب قال له : بعد الاستئذان وضحك، وكان رد عبدالوهاب- هاته أحسن لسانه طويل- وبعد دقيقة انتهت المكالمة دون تعليق!

كان منتدى " حمد الرجيب " في القاهرة لا يخلو من الظرفاء الذين لا يمل جلوسهم الحاضرون. من هؤلاء الشاعر الراحل " محمد مصطفى حمام " كان شاعراً بالسليقة. في أي وقت يطلب منه شعر يفرك أصبعيه " الإبهام والسبابة" في حركة دائرية ثم عكسية ، وبعدها بسليقته الخفيفة الروح يسعد الحاضرين ببعض الابيات التي كثيراً ما تكون " توصيفة هزلية أو انتقادية لاذعة" ! وكان أغلبها عن الفقر مثلاً، أو عن الحب، أو عن سيجارة يريد تدخينها وجيبه خال من ثمنها، أو عن خروف صغير " أوزي " يتغزل في شوائه. ودون ان نعلم تحل كل طلباته، وخد يا شعر" يلعلع " حتى منتصف الليل ولا يسكته غير " الشواء" الذي يظل يتغزل في لونه وجماله ورائحه مائدة الرجيب!

ومن عجبي أن هذا الصديق النقي السيرة والسريرة لم يملس في كتابه " مسافر في شرايين الوطن " من قريب أو من بعيد ذكر الكثير من نجوم الأدب والشعر والقصة الذين كانوا يترددون على " منتداه المسائي" ومنهم زكي طليمات وأمين يوسف غراب، ويوسف السباعي وكمال الملاخ والشاعر محمد مصطفى حمام. وغيرهم وغيرهم الكثيرون. ومن الظرفاء أيضاً كان الراحل " الأزهري المعمم " الشيخ عبدالحميد قطامش" وكان ملتزماً بلبس الزي الأزهري ولديه مكتب محاماة أمام المحاكم الشرعية، ولأن مشكلته كانت وسيلة المواصلات ، في ملاحقته للعديد من القضايا في بعض المحاكم المتباعدة، قرر حل مشكلته " بشراء موتوسيكل" فكان أول أزهري معمم يستخدم الموتوسيلك في الانتقال. وفي منتدى الليالي كنا في عشاء بدعوة من الأديب الكبير الراحل " يوسف السباعي " واقترح " الشيخ قطامش" أن يكون العشاء في كازينو الحمام، على ضفاف النيل بضاحية الجيزة ، لأنه مشتاق للحمام الذي اشتهر به هذا المطعم. وللمصادفة انتهى العشاء مبكراً ، وكان المرحوم " الرجيب " قد أعطى موعداً متأخرا لعودة سائقه، وألح الكثيرون عليه بتوصيله، الا أن الشيخ قطامش أقسم باليمين "المعروف " ألا يركب إلا معه، وركب رحمه الله خلفه وهو يطلق ضحكته النقية حين صفق الجميع له عندما انطلق الموتوسيكل. لكن عندما وصل أمام أحد مقاهي الجيزة وكان معروفاً بأنه مقصد الشعراء والأدباء الساخرين وبعض كتاب القصص الشعبي، وشد هذا المشهد المثير كل من فيه ووقفوا مصفقين ومهرجين لمنظر شيخ معمم يقود موتوسيكلاً بينما المغفور له حمد الرجيب يحاول تغطيه وجه حتى لا يعرفه أحد من رواد هذا المقهى الشهير.

"حمد الرجيب" كانت روحه تمثل كما قلت من قبل " خامة إنسانية نادرة " من القلائل الذين لا يعرفون غير الحب، وكان أيضاً لا يعرف كلمة " لا " لكل من يطرق بابه. وكان بابه مفتوحاً دائماً، على غير ما عرف عن التقاليد الدبلوماسية التي لا تعرف غير الجلوس وراء الأبواب المغلقة. اللافت للنظر أن جانباً كبيراً من السيرة الذاتية للفقيد المحبوب " حمد الرجيب " تم الجانب المثير منه على أرضية وادي النيل. فالرجل كان فعلاً عاشقاً لمصر. ثم ظهر انه كان أكثر عشقاً لشخصية زعيمها الراحل " جمال عبدالناصر" وكان لا يفتأ يذكر كيف كانت آخر نظرة ألقاه عليه وكانت قبيل ساعات من الإعلان المفاجئ عن انتقاله إلى جوار ربه. وكان آخر من ودعه بمطار القاهرة من رؤساء قمة القاهرة الطارئة المرحوم الشيخ صباح السالم الصباح ثاني أمير لدولة الكويت بعد الاستقلال، وكان أحد شهود هذا المشهد ولي عهد الكويت الحالي ورئيس الوزراء الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح " أطال الله عمره" ولا ينسى كل من كان في المطار كيف أن عبدالناصر توقف والتفت إلى الشيخ سعد- وكان مشاركاً في القمة أيضاً- وقال ستبقى عندنا يا شيخ سعد بضغة ايام للراحة.

ثم التفت إلى كبار موظفي الرياسة قائلاً خذوا بالكم من الشيخ سعد، ولم يدر رحمه الله عليه أنها كانت النظيرة الأخيرة قبيل رحيله إلى جوار الله ! لا أكون مسرفاً في توصيف حب " حمد الرجيب" لمصر ومدى ما كان يتمتع به من شعبية تلقائية ن لدى الكثيرين حيث كان يتمتع بشريحة واسعة من الأصدقاء العديدين . وفيه وفي حياته بمصر الكثير مما لا تستطيع أن تحيط به عدة وريقات.

غواص خلف الفن
بقلم: أحمد باقر

كلنا نعرف عن حمد الرجيب أداءه كسفير دوبلوماسي وتفوقه في هذا الأداء أيضاً حين تولى مسئولية سياسية. لكن بالنسبة لي يظل هذا الرجل متميزاً في شيئين: فنه وأعني به بهاءه الموسيقي الثري على قلة هذا العطاء. نظراً لأن الدبلوماسية والسياسة أجبرتاه على هذا الإقلال. ويأتي تميزه الكبير والمحبب في مواطنته وأسلوب أدائه لهذه المواطنة.

وحتى يكون لهذا القول مدلوله من واقع صلتي بالفقيد.

لابد من أن أعود للوراء أقلب صفحات العلاقة التي ربطت بيني وبينه برباط من الصداقة والاحترام.

كان أول تعرفي عليه- رحمه الله- في نادي المعلمين، كان النادي أثناء رئاسته له يموج بالنشاط والحركة وليس فقط في المجال التربوي، وإنما أيضا كان هذا النادي يشهد نشاطا ثقافيا وفنيا كبيرا، ذهبت إلى هناك كفنان يهوي الموسيقى ورغم أنني لم أكن أعمل بدائرة المعارف ولست مدرساً أو ناظراً حيث كانت العضوية في نادي بالطبع لهؤلاء، إلا أنني أصبحت عضواً في هذا النادي وقبل معي في العضوية بعض الأصدقاء من الفنانيين وكان وراء مدير النادي الأستاذ حمد، الذي رأى بثاقب بصيرته أن شركة الفنانيين سوف تثري العمل في النادي وتمد الحفلات التي يقيمها النادي بما تحتاج إليه من موسيقيين وفنانين في المجالات الأخرى، كان النادي يقدم مسرحيات في نهاية العام الدراسي حضرها جمهور كبير من المواطنين. وقد اشتركت معهم في ذلك ببيت في مسرحية "قيس وليلى" وكان الأستاذ حمد مخرج المسرحية، ودوري دور الشاعر القريظ، وهو شاعر معروف كان بالشعر يغني، كذلك قمت ببعض أدوار ثانوية في المسرحية وكان الأستاذ حمد رحمه الله يتولى عمل الماكياج لي ولغيري، كان الجميع يشارك في أي عمل تحتاج إليه المسرحية، بعد ذلك أسس الأستاذ حمد مركز رعاية الفنون الشعبية هو وبعض الأصدقاء، كان فارق السن بيني وبينه يضع مسحة من الاحترام لصداقتي ومع ذلك كنت أذهب إلى المركز في الشامية لألتقيه به وأمارس نشاطي الموسيقي بين وقت وآخر، ثم أصبحت أتردد عليه يومياً في المساء، وفي كل مرة تتوطد العلاقة بيني وبينه، وتزداد محبتي له، مركز الفنون كان تابعا لدائرة الشئون في ذلك الوقت وكان هو رحمه الله مدير الدائرة وكان رئيسها الشيخ صباح الأحمد. وقتها كنت أعمل في دائرة الميناء، أحسست أن مكاني الطبيعي كموسيقي وفنان محب للموسيقى- كنت هاوياً ولم أكن دارسا في ذلك الوقت- يجب أن يكون في مركز الفنون الشعبية، وعرضت على الأستاذ حمد الفكرة، فرحب كثيراً ونقلت إلى المركز، ولم تمر أشهر قليلة على نقلي حتى جعلني الأستاذ حمد رئيساً للمركز. كان لنا اجتماع ليلي يدور حول هدف واحد هو أن نجيد العزف، كان كل منا يعزف على آلته وكان الأستاذ حمد يشاركنا بالعزف على آلته "القانون" وأنا أعزف على العود. كان معنا المرحوم الفنان سعود الراشد والمرحوم أحمد الزنجباري والمرحوم الأديب الكبير أحمد البشر الرومي والمرحوم الشاعر أحمد م شاري العدواني كل يعمل في مجاله سواء العزف أو التأليف "الكلمات" أو الغناء وكان هو المايسترو الذي يدير هذه الخلية من الإبداع، ولم يكن يجلس وراء مكتب يعطي التعليمات، كان واحداً منا يتدرب ويشارك، وأنا أحكي هذه الملامح لا لأقص تاريخي الشخصي ولكن لأبين إلى أي حد كان الفن هاجسه ورفيقه الدائم وكيف كان تشجيع المواهب ووضع الإنسان في المكان المناسب عمله الدءوب، كان من الذين يساعدون الشباب الموهوب، سواء كان موسيقيا أو مسرحياً، وكان يواصل متابعته لهذه المواهب، اقتراح رحمه الله عليّ أن أعود ومعي شهادة تؤهلني لإنشاء وتأسيس معهد الموسيقى، وقد حدث ما أراده، لأنه كان لا يقول كلمة إلا يفعلها ويتابع عمله بجد ودأب، وكان هو وراء هذا المعهد الذي يخرج الآن شباباً كويتياً دراساً يحمل الرسالة. لقد كان له باع طويل في هذا الشأن ذلك لأن حسه الوطني كان عميقاً، وقد تابع هذا الحس بإنشاء المسارح القومية الأربعة واستدعى الفنان زكي طليمات للمشاركة في تقديم مسرحيات ذات مستوى متطور مع الممثلين الكويتيين وكذلك لكي يعطيهم من خبرته ولم يشغله منصبه الوظيفي عن المشاركة في هذه الأعمال والمتابعة لكل كبيرة وصغيرة فيها.

كما اهتم رحمه الله بجمع التراث الموسيقي من خلال هذا المركز "مركز رعاية الفنون الشعبية" وقام بمسح للأغاني الكويتية مسحاً ميدانياً، تم فيه تسجيل وتصوير العديد من الأغاني الشعبية والتراثية. إلى أن رادوته فكرة تسجيل وتصوير رحلات الغوص، تلك التي كان يمارسها الآباء والأجداد، وكانت هذه خدمة كبيرة للتراث، حيث إن هذه الرحلات تصاحبها أغاني خاصة ومميزة، وذهبنا بسفينة غوص حقيقة ببحارتها وكان الأستاذ حمد هو الموجه لكل أعمالنا على ظهر السفنية، كنت مكلفاً التسجيل الصوتي للإغاني المصاحبة للرحلة ولعمل البحارة بكل خطواته، وكان معنا مصور سينمائي هو مصطفى الحموري، وبعد انتهاء عملنا، كنا قريبين من دولة البحرين ففكر البعض في أن زيارتها ستكون مفيدة وعرضنا الأمر على الأستاذ حمد فوافق. كان يرافقنا في هذه الرحلة المؤرخ سيف مرزوق الشملان والأستاذ أحمد البشر الرومي رحمه الله، وكن يشجع هذا العمل معنوياً ومادياُ الشيخ جابر العلي رحمه الله "كان مديراً لدائرة الأنباء والنشر" وكن يرافقنا في بداية الرحلة حتى منطقة "المشعاب" ثم انتظرنا عند العودة في المشعاب ليطمئن علينا. تماماً كما كان يحدث في رحلة الغوص الحقيقة حين يستقبل البحارة من أعلى سلطة في البلاد. كان يمارس عمله بحب وفن وإحساس مواطنة راق، ذلك لمعرفته بأثر هذه الأعمال في الوجدان الكويتي.

هكذا كبرت العلاقة الأخوية القائمة بيني وبينه رحمه الله وتبلورت وكبرت مع الزمن. لقد كان لي ولكل من حوله بمنزلة أخ أكبر وليس صديقاً فقط. ولا أنسى أثناء دراستي في مصر، عندما كان سفيراً للكويت فيها، كنت أذهب للقائه وكان يتابع أمور دراستي ويهتم بتحصيلي العلمي فيها، وانقطع عنه فقط أيام الامتحانات، وعند نجاحي وتفوقي كان أول المهنئين لي وأكثرهم فرحاً بقرب عودتي إلى الوطن لأتولى مسئوليتي التي كان يراها الأستاذ حمد بالغة الأهمية في تلك المرحلة.

ولا أنسى في هذه الحقبة ديوانيته في القاهرة وكنت من روادها، كانت ليالينا لا تخلو من حديث الأدب والشعر والموسيقى ولا تخلو من الطرب. وقد لاحظت كيف كان رحمه الله يمارس عمله الدبلوماسي بفن جذب إليه الكثير من الشخصيات المهمة سياسياً وفنياً. عدت أنا إلى الوطن ونقل الأستاذ حمد سفيراً لدى المغرب وعاد هو بعد ذلك للوطن ثم تبوأ منصبه السياسي كوزير، وشغلتنا أعمالنا ومشاغلنا الخاصة عن اللقاء المنتظم، لكن كنا نغتنم الفرص المتاح للقاء وحوار كان دائماً موصولاً بيني وبينه في شئون الفن والثقافة وشجونها. هذا هو حمد الرجيب الذي كان دون شك فناناً موهوباً، لكن حاجة الوطن إليه في مجالات أخرى، وعدم تردده في أن يلبي نداء الوطن جعله يضع نفسه في خدمته، هذا الإحساس العالمي بالواجب أضاع منه الكثير في مجال الفن. ومع ذلك فإن عطاء القليل قياساً بحياته الدبلوماسية يدل على غزارة في الموهبة وإن قلت إنجازاتها.

لقد خسرت الكويت واحداً من كبار فنانيها، لم يبخل عليها بكل ما أعطاه الله من فن وقدرة على القيام بالكثير من الأعمال والمهمات التي تحتاج إليها الكويت. تغمد الله روحه بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته.

مرايا البسمة وصفاء القلب!
بقلم: عبدالرزاق البصير

كان فقيدنا المرحوم حمد الرجيب يتحلى بخصال متعددة أود أن أقف على واحدة منها في هذا الحديث القصير، هذه الخصلة التي أعنيها هي أنه كان لا يشرك أصدقاءه فيما يعانيه من حزن أو أسى أو ما يواجهه من مشاكل أو ما يداهمه من مرض مهما نتج عن ذلك المرض من آلام مبرحة، فهو يواجهك دائماً الابتسامة التي توهمك أنه يحيا في أحسن حال. ولقد زرته مرة في مستشفى الصدري وكان يعاني من أزمة قلبية ولما سألته عن معاناته أجابني ضاحكاً إن هؤلاء الأطباء واهمون وهم يتعبون أنفسهم دون داع لقد سألوني عما أشعر به من ألم فأجبتهم افحصوا لعلكم تجدون الألم أما أنا فإني لا أشعر بشيء. ضحكت قليلاً ثم قلت له أبا خالد ليست هذه طريقة صحيحة وإنما عليك أن تخبر أطباءك بما تشعر به، فأجابني إذا شعرت بشيء من الألم فإني سأقول للأطباء وقد حصل مثل ذلك حين صرعه المرض في أبوظبي وإن كان الاحتفال يقام في ذكرى المرحوم الشاعر أحمد العدواني، أما آخر مهاجمة الأمراض له فقد كان على وجه غريب في يوم 10/5/98 وقد كان هجوم المرض هذه المرة كاسحاً جعله في غيبوية وكان كل من زاره يعود بحسرة ولوعة.

أخبروني بذلك ولكنني أبيت إلا أن أذهب إلى ريارته غير إني يخفي حنين" كما يقولون فلم أسمع منه شيئاً ولم يسمع أما وقد قضى فقيدنا العزيز إلى جوار ربه فإني استطيع أن أقول إن أبا خالد حمد الرجيب قد اتخذ له قاعدة سار عليها حياته، وتتمثل هذه القاعدة في أن يعقد جلسة مع أصدقائه حتى عندما كان ناظراً في مدرسة الصباح فقد كنا نزوره فنجده أخاً كريماً تبسط معنا كما يتبسط مع زملائه المدرسين بل كان يتبسط مع الطلاب تبسطاً لا يذهب بوقاره. وكنا نزوره في لجنة الفن وكانت هذه اللجنة تتألف من المرحوم حمد الرجيب وأحمد البشر وأحمد باقر والأخ المرحوم أحمد العدواني وشادي الخليج عبدالعزيز المفرج وكانت تتخذ بيتاً قديماً متهالكاً مقراً لها بالقرب من شيراتون وكان شيراتون لم يشيد في ذلك الوقت، وأكثر الألحان الأصلية التي نسمعها الآن قد صيغت في ذلك المكان البسيط وهناك ألحان يعرفها الأخ الفنان أحمد باقر قد تمت وربما لا يعرفها إلا القليل، وعلى كل حال فإن ما لحنه الأخ أحمد باقر للسيد الجليلة "عالية حسين" لابد وأن تكون في ذلك المكان القديم وفي تصوري أن المغرمين بالغناء الكويتي الرصين مازالوا يستعمون إليها بشغف وإعجاب. لقد خاض المرحوم حمد عيسى الرجيب في بحر الصحافة فأصدر هو وصديقاه فهد الدويري وأحمد العدواني مجلة أطلق عليها مجل البعث وأذكر أن الأخ بدر الخالد البدر كلفني عندما كنت أميناً لمكتبة وزارة الإعلام أن أجمع الصحف الكويتية. لقد فرحت بهذا الأمر وذهبت إلى المرحوم حمد الرجيب أسأله أن يعطيني أعداد مجلة البعث كما أني سألته عن هذا الاسم الذي أطلقوه على مجلتهم قال إننا نقصد أحدث وعي لجماهيرنا العربية وهو وعي ثقافي أبعد ما يكون عن السياسة، أما أن تجد لدينا إعداد مجلة البعث فإن ذلك من الصعوبة بمكان فقد تكون الأعداد موجودة عند أناس آخرين.

وفي جواب الأستاذ حمد الرجيب دليل على أنه وأخاه أحمد العدواني كانا يكتفيان بإيصال آرائهما إلى القراء.

أما الاحتفاظ بنسخ من هذه المجلة التي تشتمل على علاج المشاكل الاجتماعية والسياسية فهو أمر يدفع تواضع هذين الفنانين إلى عدم الاحتفاظ بنسخ من هذه المجلة، وهذا بطبيعة الحال تواضع لا أبالغ إذا دعوته بالخطأ لأن مثل هذه الآثار الفكرية كان من المفروض أن يحتفظ بها بكل قوة لأنها جزء مهم من تاريخ الفكر في الكويت.

وقد كان تعيين حمد الرجيب سفيراً في القاهرة مدعاة لمزيد أشواقنا إلى القاهرة فكنت أذهب إلى زيارة مصر في السنة ثلاث أو أربع مرات أمكث فيها شهراً أو أكثر وكان رحمه الله يدعوني وصاحبي بإلحاح إلى زيارته في السفارة وإلى زيارته في منزله والحق أن مجلسه كان متعة لا تعادلها متعة إذ كان يحضر إلى مجلسه أساتذة في النقد والأدب والشعر والمسرح أمثال المرحوم أحمد مخيمر وعوض الوكيل والدكتور سمير هلال وعبدالحميد قطامش وكان يخصص بعض ليالي الأسبوع لمجيء أم كلثوم فكانت مجالسة تطرد الهم والغم عن النفس ولاسيما حين يتحاور عبدالحميد قطامش وأمين يوسف غربا فإنه كاتب قصة يجذبك إليه حين تقع في أيديك إحدى قصصه وكان قد طبع له بطاقة شخصية ظريفة كتب فيها أمين يوسف غراب قصاص لا يحمل أي شهادة وعبدالحميد قطامش متخصص في الأحوال الشخصية ولا تسأل عن ظروف الحوار الذي يجري بين هاتين الشخصيتين فقد يشتد أحياناً ذلك أن قطامش كان يجلس في وسط المجلس وكان يشير بإصبعة إلى أمين يوسف غراب ليأتيه ببعض الطعام أو الشراب الحلال وهنا ينشب حوار بينهما ويتوسط المرحوم حمد في فض النزاع. وما أظن أني أبعد عن الصواب إذا قلت إن لفقيدنا المرحوم حمد رأيا في السياسة العربية لم أسمعه من سفير ولم أقرأه في صحيفة أو كتاب وهو رأي بسيط يدل على أن البساطة وصفاء القلب يسكنان نفس " أبي خالد" فلنستمع إليه وهو يقول :

" .. وبعد خبرة 14 عاماً في مجال الدبلوماسية سفيراً لبلدي في كل من مصر والمغرب خرجت بقناعة نقلتها بأمانة ووضوح لسمو أميرنا المرحوم الشيخ صباح السالم الصباح وتتلخص في أن العلاقة بين الدول العربية علاقة لا تحتاج إلى وجود سفير ونفقات وإجراءات تقديم أوراق اعتماد وخلافه. ذلك لأنه في الأمور الحساسة بين هذه الدول عادة ما يرسل رئيس الدولة وزير خارجيته أو مبعوثه الشخصي إلى رئيس الدولة الأخرى إذا ما رغب في إبلاغها بأمر ما أو معرفة موقفها من القضايا".

وبعد، فقد عرفت فقيدنا وصحبته ناظراً في مدرسة الصباح وصحبته وزيراً للشئون الاجتماعية وجلست معه كثيراً حين كان سفيراً للكويت في القاهرة، فما وجدت فيه تغييراً في تواضعه وكرمه واستقباله لاصدقائه وكان بعض أصدقائه إذا تقدم إليه يصعب تحقيقه يجد من المرحوم حمد رداٌ فيه كل الإقناع على أن مطلبة غير ممكن التحقيق. فهو إنسان بكل ما في هذه الكلمة من معنى يحاول قدر استطاعته أن يشيع السرور في أقاربه وأصدقائه، وما سمعت إنساناً يذكر أنه لقيه إلا وحصل منه على مايريح نفسه.

كان مراده الإخلاص
بقلم : سيف مرزوق الشملان

تعرف فقيد الأستاذ حمد عيسى الرجيب وبدأت علاقتي به منذ كان طالباً في المدرسة الشرقية وكان رحمه الله يدرسني عام 1941 / 1942 واستمرت علاقتنا حتى رحيله. وكان عمره آنذاك يربو على العشرين وفي المدرسة كان بمنزلة أخ أكبر لنا نحن تلاميذه ، وكنا نجله ونحترمه ونحب حصته كثيراً، ذلك لأنه كان يتميز بالمرح وخفة الدم فكان الوقت يمردون أن نحس به.

ثم توطدت صلتي به أكثر حين جمعتنا رحلة تسجيل التراث التي كانت إلى البحرين وكان الاستاذ أحمد البشر الرومي رحمه الله هو المسئول عن هذه الرحلة وأنا مساعده ، أما أحمد باقر فكان مسئولاً عن التسجيل وكان الأستاذ حمد يشرف على حسن الترتيبات ويدير الرحلة باعتباره مديراً للشئون . كان ذلك عام 1961 وكانت الرحلة تضم سفينتين واحدة شرعية عليها حوالي أربعين بحاراً، تقوم برحلة بحرية تماماً كما كان يحدث أثناء الغوص ونحن فريق العمل لتسجيل أغاني التراث البري والبحري في لنش كبير مرافق للسفينة ومعنا صور سينمائي وقمنا بأعمال مهمة خدمة للتراث في هذه الرحلة، كان رحمه الله خلال الرحلة يمزح وكنا سعداء بهذا الإنجاز وبهذا التجمع، وأنجزنا فيلما سينمائيا عن الغوص عن اللؤلؤ، وقتها كان الشيخ جابر العلي رحمه الله رئيساً لدائرة الكهرباء والماء وهو الذي تكفل من ماله الخاص بتجهيز السفينة واللنش والصرف، على هذا العمل، وقد رافقنا في البداية حمد المشعاب، ثم انتظرنا عند العودة في نفس المكان وكان عملاً ممتعاً ضم صفوة من المهتمين بالتراث وكم كان وجوداً الأستاذ حمد معنا يضفي جواً من البهجة والمتعة على الرحلة.

بعد ذلك غادر الاستاذ حمد الكويت إلى العمل الدبلوماسي ثم عاد للوطن، وكان هو هو لم يتغير عن أستاذي الذي عرفته في المدرسة، بنفس التواضع، لم يغيره منصب ولا مكانه

 

 

حمدية خلف

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




حمد عيسى الرجيب





حمد الأب والسفير في منزله بالشامية





سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد العبدالله وحمد الرجيب والمؤرخ سيف مرزوق الشملان والقاص فهد الدويري





حمد الرجيب الفنان يعزف على القانون في مناسبة عامة





حمد الرجيب مشاركا في إحدى المناسبات الثقافية وبجانبه محافظ حولي وعدد من السفراء العرب والأجانب





حمد الرجيب يتسلم درعا تكريمية من رئيس اتحاد المسارح الأهلية الكويتية فؤاد الشطي





حمد الرجيب يشارك في مناسبة عامة... وبجانبه الشيخ جابر العبدالله الصباح ويعقوب الغنيم والمرحوم الشيخ عبدالله الجابر الصباح





نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع الشيخ سالم الصباح والمرحوم حمد الرجيب والفنان إبراهيم الصلال





حمد الرجيب





حمد الرجيب وزير الشئون والإسكان عام 1983 وبجانبه السفير عبدالله بشارة والدكتور إبراهيم الشاهين





حمد الرجيب مع محافظ حولي الدكتور داود مساعد الصالح