أوجين بودان شاطئ تروفيل

أوجين بودان شاطئ تروفيل

على الرغم من مشاركته في أول معرض انطباعي عام 1874، فإن أوجين بودان هو واحد من ثلاثة رسامين مهدوا الطريق لظهور الانطباعيّة. والاثنان الآخران، هما الهولندي جونكند، والإنجليزي تورنر اللذان تأثر بهما بودان إلى حد بعيد.

ولد بودان عام 1824 في مدينة لوهافر الساحليّة في شمال غرب فرنسا، ثم انتقل إلى باريس مع والده الذي كان حرفيًا يصنع إطارات للوحات. وبعد أن بدأ أوجين العمل في ورشة أبيه وهو في الخامسة عشرة من عمره، افتتح لاحقًا متجرًا للإطارات خاصًا به، الأمر الذي أتاح له مجال الاحتكاك بالكثير من الفنانين الناشئين آنذاك، ومن بينهم كلود مونيه.

وفي سن الثانية والعشرين، تفرغ بودان نهائيًا للرسم.لازم بودان صديقه مونيه طوال العامين 1856 و1857، فكان الاثنان يرسمان معًا ويتبادلان الآراء والتقنيات. وعلى الرغم من انخراط بودان في شلّة الانطباعيين، فإنه بقي متميزًا عنهم قليلًا، حتى إنه لم يكن يعتبر نفسه «مطورًا راديكاليًا». ولكن أين صلة القربى بين هذا الفنان وزملائه الانطباعيين؟

مال بودان إلى رسم المناظر الطبيعية أكثر من غيرها، مع تركيز واضح على مناظر الشواطئ والآفاق البحرية العريضة في مدينتي دوفيل وتروفيل الفرنسيتين على ساحل المانش، ومن ضمنها هذه اللوحة التي نقف أمامها هنا، وتعود إلى عام 1864، أي إلى عشر سنوات قبل أول معرض انطباعي.

تتميز هذه اللوحة أولًا بأفقيتها إذ يبلغ عرضها 47 سم نحو ضعف ارتفاعها 24 سم فقط، الأمر الذي سمح للرسام بالتعبير عن أفقية المشهد، رغم وجود بعض المباني التي «تسد» المنظر من الجهة اليمنى (وهو أمر نادر في لوحات الشواطئ التي رسمها الفنان).

وفوق شاطئ رملي لا يحتل أكثر من الربع الأسفل من اللوحة، نرى السماء الغائمة جزئيًا تمثل ثلاثة الأرباع المتبقية، وكأنها هي الموضوع الرئيسي وليس عشرات المتنزهين الصغار جدًا على الشاطئ.

إن الشغف برسم التحولات اللامتناهية للسماء وغيومها هو شغف بعالم الضوء المتحول، وهو نفسه ما يميز أعمال تورنر وجونكند، وإن كان عند بودان أقل شاعرية مما هو عند الآخرين. فالسماء هنا هي السماء الشماليّة فوق بحر المانش، الكثيرة الغيوم. إنها أقرب إلى الواقع من سماوات المغيب الناريّة عند تورنر، لا بل إنها تشي بحال الطقس المتقلب من خلال اختلاط بعض الغيوم البيضاء بأخرى سوداء وسط انفراجات زرقاء. وفي رسم هذه السماء نرى تقنية مختلفة تمامًا عن تقنية رسم المباني. فضربات الفرشاة العريضة تحررت من قيود الخط والهندسة، وتداخلت ببعضها لتؤلف مساحات لونيّة لا حدود واضحة لأي منها. هذه الحرية في استخدام الفرشاة كانت من أهم التقنيّات التي سمحت لاحقًا للانطباعيين بالتعبير عن تلاعب الضوء واللون في المكان الواحد.

وهذا التجديد في رسم السماء هو ما جعل الشاعر بودلير يعتبر بودان أستاذ عصره في رسم السماوات، ودفعه إلى تبني هذا الرسام وتقديمه إلى الجمهور العريض كواحد من أفضل رسّامي المناظر الطبيعيّة في ذلك الوقت.
------------------------------
* ناقد تشكيلي من لبنان.

 

 

عبّود طلعت عطية*