أرقام

أرقام

حضارة الهيروين

المخدرات هى الوصفة السحرية للهروق من الواقع ، ورشفة ، أو قرص ، أو سيجارة ، ثم ينتقل الإنسان إلى عالم آخر يظن أنه عالم السعادة !

وقد عرف الإنسان المخدرات قديما من خلال النباتات الطبيعية ، ثم عرفها حديثا من خلال تركيبات ، والجدير هو ما حدث في صيف عام 1998 .

فى ذلك الوقت أذاعت وزارة الداخلة البريطانية تقريرا خطيرا عن إدمان الهيروين ، أخطر أنواع المخدرات .

وفى التقرير ما أثر الانزعاج ، وما يدعو لتأمل القضية .

يقول التقرير- الذي اهتمت به الصحف حينذاك- إن ثلث المراهقين البريطانيين دون سن السادسة عشرة اعترفوا بأنهم يتعاطون هذا المخدر ، وأن أحد الأسباب الرئيسية لذلك : تطور أساليب الترويج من جانب شبكات الجريمة المنظمة التي أسسها تجار المخدرات.

المثير هنا نوع المخدر ، ونوع المستهلك ، وحجم الظاهرة .

فالمخدر هو الأخطر قياسا لأنواع أخرى من المخدرات ، والمستهلكون صبية أو شباب صغار ، والنسبة تعنى أن شابا بريطانيا من كل ثلاثة شبان يتعاطى الهيروين!

وربما كانت هذه العناصر الثلاثة وراء الاهتمام الرسمى في بريطانيا ، والتي كانت مشغولة حينذاك بقضية الطلبة والشباب والشعب حتى أنها استصدرت قانونا يسمح باستخدام الضرب في المدارس.

ولكن ، هل هى قضية " بريطانية " ؟

الجواب بالنفى ، إنها أوسع من ذلك.

تشير تقارير عن هيئة الأمم المتحدة ومنظماتها ومجالسها المتخصصة أن قضية المخدرات قضية عالمية تؤرق بال المجتمع الدولى ، إنها صناعة وتجارة ضخمة وهى صناعة تجذب في بعض الأحيان صفوة المجتمعات وكبار المسئولين فيها ، جنرالات ووزراء ورجال أعمال!

قضية سياسية واقتصادية أيضا

وقد انتقل الأمر من قضية أخلاقية إلى قضية سياسية واقتصادية ، فحراس المال الحرام وتجار الموت البطئ كثيرا ما يكونون في مواقعع السلطة ، وأموال المخدرات جزء رئيسى من قضية أوسع اسمها " غسيل الأموال " ، والأموال المحرمة تقتطع جزءا كبيرا من الدخل القومي تتعالم وتقوم على إدراتها حكومات سرية من مافيا المخدرات الذين يملكون المزرعة ، والمصنع ، ووسائل النقل ، والبنك الذي يخدم ، والميلشيات المسلحة التي تحرس كل ذلك.

هم أكثرة قوة من بعض الحكومات النزامية لأن العمل السري يقتضى الردع والانضباط الشديد ، وهو أكثر كفاءة من أجهزة إدارية تملكها الحكومات لأنهم يعتمدون في تنظيماتهم السيرية على خطوط اتصال جرى تحديدها بدقة وعناية ووفق نظام آمر ، نهايته القتل من يخالف.

إنها مجموعة جرائم تشابكت وترابطت فخلقت طابعا خاصا لعالم المخدرات ، كما خلقت جبهة مضادة من الحكومات و المنظمات الدولية والمؤتمرات والمعاهدات الجبهتان تتصارعان ، لكن الظاهرة تنتشر ، وثلث المراهقين في بريطانيا يتعاطون الهيروين!

إذا سألنا طبيبا نفسيا عن الظاهرة وعن سبب ذلك الميل النفسى الذي يدفع إنسانا لأن يبحث عن متعة زائفة أو يهرب من واقع سيئ ، فسوف يغوص بناء في الدوافع ، والنوازع ، والرغبات ، وكيف تتحول العادة إلى إدمان يصعب التخلص منه.

ولكن إذا أعدنا السؤال مرة ثانية أو طرحناه على عالم اجتماع فقد يمتد الحديث لظاهرة اجتماعية وليس مجرد خلل نفسى.

وقد يقول البعض : إنها مجتمعات الرفاه ، فعندما توافر أساسيات الحياة يبحث الإنسان عن اللذة أو المتعة.

.. والمخدر من وجهة نظر فئات من الشباب وربما الشيوخ أيضا تساعد على ذلك ، إنها بوابة الدخول لعالم من الخيال والتصور!

ومجتمعات الندرة أيضا

قد يحدث ذلك في مجتمعات الوفرة ، لكن التفسير برغم ذلك تفسير قاصر لأن مجتمعات الفقرة والندرة تشهد نفس الظاهرة ، مع اختلاف أنواع العقار أو الخدر ...، و ... لكل مجتمع مخدراته طبقا لظروفه الاقتصادية والأمنية.

هل يكون سبب الظاهرة- إن اتفقنا أن النسبة العالية للمتعاطين تبرر استخدام كلمة ظاهرة- هل يكون السبب هو القلق الذي قال البعض عنه إنه مرض العصر؟

ربما ، برغم أن عوامل القلق تختلف من مجتمع إلى مجتمع ، فقد تكون البطالة أو يكون العوز وغياب الأمان المادى سببا للقلق في بعض المجتمعات ، وقد تكون سرعة التغيير والعلاقات الأسرية الفقيرة والجافة سببا للقلق في مجتمعات أخرى ، وقد تكون صدمة التكنولوجيا . في كل الأحوال واسعة منه ، عنصر عدم الاطمئنان على المستقبل يزداد انتشار ، سواء كان السبب إحساسا باحتمال فقدان الوظيفة أو الثروة أو الزوجة ، أو المستقبل الآمن.

إنسان نهاية القرن يزداد قلقا وحيرة ، والمتغيرات العصرية أسرع من أن يتكيف معها ويستقر نفسيا.

وتبقى تلك الإشارة السريعة التي أعطتها الحكومة البريطانية ، وهى تتحدث عن انتشار الظاهرة ، أعنى دور العصابات التي تروج للمخدرات والتي بات عملها كما قلت كأنه نتاج حكومة سرية.

خبراء الاقتصاد يتوقفون أمام ما يجرى ، ويدرسون ما أسموه " الاقتصاد السرى " ، وهو اقتصاد تغذية إيرادات غير مشروعة من تجارة مخدرات ، وأسلحة ، ودعارة ، ورقيق أبيض ، ورشاوى وفساد.

إنه الاقتصاد الأسود ، ذو الربحية العالية والذي يتيح إنفاقا عاليا في التسويق .

إنها قضية عرض الطلب ، العصابات توفر العرض مع الحفاظ على الحفاظ ترفع السعر ، وربما توافرت أيضا صلات الترويج والدعاية السرية ، وكل ذلك مفهوم ، لكن لغز القضية هو الشق الثانى منها ، أعنى : عنصر الطلب.

والمخدرات لا تمثل حاجة اقتصادية أو انسانية إلا في مرحلة نفسية معينة ، ومن يخلق الحاجة بدرجة أكبر ليسوا تجار الحشيش والهيروين ، ولكنهم تجار السياسة وأصحاب التأثير في المجتمع .

الظاهرة خطيرة ، والظاهرة زاحفة عبر الحدود من بلبد إلى بلد ، " المخدر " الذي يذهب العقول ما زال أقوى من " المسكن " الذي يحول دون ذلك ويتمثل في مقاومة اجتماعية أو حكومية هنا و هناك.

الجهود الدولية كثيرة ، لكن الجهود المطلوبة أكثر .

وجهود العلماء والخبراء أهم من جهود " الانتربول " ، ولنتذكر هذه الحقيقة : مدمنون تحت السادسة عشر من العمر!

 

 

محمود المراغي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات