واحة العربي

واحة العربي

البحر
المثير للحلم والرؤى المتلاطمة في الجغرافيا والموسيقى والشعر والغرام

أكثر البحار اتساعاً واستعمالاً في العالم: بحر الغرام، والذي يرد كثيراً في الأشعار والمواويل والأغاني، في بلادنا وبلاد الآخرين، وهو مجاز تعبيري يشي الإبحار في أمواجه العاطفية بالمكابدة والمعاناة، وتبدو فيه ـ هذا البحر المتلاطم ـ شجاعة المحب وبسالته، وقدرته الفائقة على الغوص في عمقه ليصل إلى الدر واللؤلؤ والمثيرات الأخرى، ويليه ـ في الأهمية: بحر الشعر العربي الذي قامت على تعدد مساحاته القصيدة العربية منذ العصر الجاهلي حتى جاءت الحداثة الأولى على يد بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور محافظة عليها مع عدم الالتزام بالقافية، وبعدها أصبحت بحور الشعر العربي نهباً لغير المتمكنين من الإبحار، فتهشمت المساحات والشواطئ وانتاب الغموض كل ما تلقي به الأمواج، غير أن البحر المتوسط، أو بحر الروم قديما، أو ما يتصف به من أنه البحر الأبيض، فلعله أهم كل بحار العالم، إذ هو الوحيد الذي يتوسط ثلاث قارات ـ آسيا وأوربا وإفريقيا، كما كان ـ ولايزال ـ بؤرة تصادم ـ أو توافق ـ الحضارات: الفينيق والروم والفرس والعرب والعثمانيين، وحالات المد والجزر والعواصف والسكون في هذا البحر تؤثر في مزاج الدنيا كلها، ولاسيما أن الديانات السماوية أنزلت قريباً من شواطئه، وبالتالي فإن رحلات معظم الأنبياء تتوازى مع شواطئه الشرقية والجنوبية لتكون المنبع العظيم للأخلاق ونظم الحياة الدنيا والأمل في الآخرة المريحة المأمولة.

وكل مساحة مائية تتسع أو تزحف نحو الآفاق البعيدة الغامضة هي بحر، حتى المحيطات ـ التي هي في التعريف الجغرافي أكثر اتساعاً وعمقاً من البحار ـ تشملها كلمة بحر، ومنها جاء البحر المحيط، لينفصل المحيط عن البحر في العصور الحديثة، لكن الذاكرة الإنسانية ظلت ـ ولاتزال ـ تتلاطم مع تلك الأمواج العاتية التي دمرت سفينة السندباد في قصص ألف ليلة وليلة، أو ربنسون كروزو عند الإنجليزي دانيل ديفو، أو عند الأمريكي هرمان ملفيل في موبي ديك، أو حتى البحر الذي لم يواجه فيه بطله أمواجاً عاتية عند هيمنجواي في العجوز والبحر، فقد ظل هذا الأفق الممتد ـ الغامض حتى ونحن نعرف ما وراء الامتداد ـ يثير في الذهن الإحساس الضاغط بأن الأمور ـ هناك في آخر المدى ـ لاتزال تحمل علامة الاستفهام الضخمة، وهو ما عبر عنه الموسيقي الروسي ريمسكي كورساكوف حينما وضع موسيقى المتتالية الشهيرة ـ وبالذات في أقطارنا ـ والتي تحمل اسم "شهرزاد"، مجموعة أفكار مستقاة من مفهومه لشهرزاد التي كانت تنتظر الأمير، هذا الذي عاد منتصراً، لكنها ـ الحبيبة المتوقدة الصعبة المنال ـ طلبت منه أن يخترق حجب البحر "لماذا؟؟ لا أعرف" حيث قام الأمير باقتحام البحر بسفينته، في موسيقى ذات مذاق بالغ العذوبة ـ وبالذات لنا نحن العرب الذين قد لانتذوق بسهولة موسيقى الغرب التي تخلو من التطريب الشرقي، ثم لايلبث الأمير العاشق المحب، والمتهادي على صفحة ماء البحر الأنيس الأليف، أن تداهمه عاصفة، وتصوير هذه العاصفة لايزال أقوى وأجمل ما قدمت الموسيقى، حيث ينتابنا نحن المستمعين للعاصفة، ثم الهبوب الثاني، ثم الثالث، فترات متوجسة من الصمت والسكون، بعدها تكون الواقعة الدامية التي تتحطم فيها السفينة، وتتلاطم الأمواج العاتية حول المقاومة الإنسانية للأمير، حيث تحمل الأمواج ـ التي بدأت تهدأ ـ جثمانه المناضل لتصل به ـ في جنازة وداع مؤثر ـ إلى الشاطئ، لتكون النهاية هي ذات النغمات التي بدأت قوية طاغية جذابة في أول المتتالية، لتنتهي إلى نعومة بالغة الشجن في نهايتها.

وتحتل الألوان عدداً لا بأس به من البحار ابتداء من الأبيض المتوسط، ومروراً بالأحمر الممتد بين قارتي آسيا وإفريقيا ـ وحوله كثير من أقطارنا العربية، ثم الأصفر ـ وهو ذراع للمحيط الهادي يقع بين الصين وكوريا، فالبحر الأسود في جنوب روسيا وشمال تركيا وشرق بعض أقطار أوربا والذي يتصل بالمتوسط عن طريق البيسفور وبحر مرمرة والدردنيل. كما أن كثيرا من الأنهار العذبة ـ وحتى الترع والجداول ـ تتنازع لقب البحر، مثل بحر الجبل ـ وهو جزء من نهر النيل بين بحيرة البرت ونهر السوباط، ثم بحر الزراف جنوب السودان، وأيضا ـ في ذات الجنوب السوداني يكون بحر الغزال، كذلك يمكن أن تضيف ترعة بحر يوسف الشهيرة التي ـ فيما يقال كانت مجرى نهر النيل الأول، أو كانت فرعاً من فروعه، ولاتزال تأخذ طريقها من مدينة ديروط ـ بلدتي الأثيرة ـ لتخترق الوادي المصري عند الحافة الغربية ـ لتصنع منخفض الفيوم، وتصب في بحيرة قارون.

وربما يجرفنا البحر إلى عالمه المتعدد، حتى حينما يتم تصغيره ليصبح بحيرة، وهي تلك البحيرات المنتشرة على وجه الدنيا، والتي برغم تصغيرها ـ هي أكبر من كثير من البحار التي لم تتعرض لهذا التصغير: البحيرات العظمى في إفريقيا، والبحيرة المالحة ـ هذا اسمها. قليلة العمق في شمال أمريكا، كما أن بعض البحيرات تتسع لتصبح بحراً ضخماً مثل بحر قزوين، والبحر الذي يشغي بكل أنواع الصراع والقلق: البحر الميت في فلسطين.

وسيظل البحر: محيطا كان أو ترعة أو بحيرة: جزءاً من الخيال الإنساني المؤثر في الحلم البعيد، نرتعد ـ حين يداهم رؤانا ـ ثم نستكين ونهدأ، ونستمتع بهذا المشهد الذي يفوق أي مشهد في شجنه وجماله: قرص الشمس الذي يزحف غربا كي تضمه أمواج البحر الهادئة.

 

 

 

محمد مستجاب