رحلتي مع الزمن ربيحة الدجاني المقدادي عرض: أشرف أبو اليزيد

رحلتي مع الزمن

أجملُ ما في السير الذاتية الفلسطينية هو ذلك النسيج الذي يضفره صائغوها بين الخاص والعام, بين المحن والأحلام, بين التاريخ والأدب, بين الواقع الذي يشبه الخيال, والخيال الذي يمتطي صهوة الألم.

تجمع هذه السير بين حياتين, أو أكثر, هكذا قرأنا في رحلة فدوى طوقان الجبلية الصعبة, وأوراق إدوارد سعيد خارج المكان, وذاكرة محمود درويش المتعمدة بماء النسيان, وانفعالات مريد البرغوثي حين رأى رام الله. حتى نأتي لصاحبة هذه السيرة, السيدة ربيحة الدجاني المقدادي, التي لخصت الهدف والغاية من كتابة مذكراتها بأنها (لإلقاء الضوء على الحياة في فلسطين بصفة عامة, وعلى القدس, مسقط رأسي, بصفة خاصة, منذ عشرينيّات القرن العشرين, في جانبها الاجتماعي, وما كانت تواجهه المرأة آنذاك من عقبات. كما أنني أردت أن أعرض كفاحي في سبيل تربية أولادي بعد وفاة والدهم وأنا في مقتبل العمر, وأنقل للقارئ خلاصة تجاربي بعد هذا العمر الطويل, لعلّها مع ما استوعبته واستفدته من دروسها ومن الحياة, تكون عِبرة وذات نفع للأجيال القادمة).

يقول الدكتور أحمد صدقي الدجاني عن هذه المذكرات إنها لفتته, باتّساع مدى الأحداث, زمانًا ومكانًا, فهي تمتد على مدى ثلاثة أرباع قرن, منذ أوائل العشرينيات حتى أواخر التسعينيات. وهي تشمل القدس وفلسطين ودمشق وسورية والكويت والأردن, وهي بلاد عاشت فيها صاحبة الذكريات. ويضيف: (لفتني أيضًا غنى مسيرة الحياة لطفلة مقدسية نشأت في أسرة كريمة, تفتح فتاة حيوية, ما أسرع ما تزوجت من فنّان, وأصبحت أمًا تعيش روعة مشاعر الأمومة وتستشعر مسئولياتها, ولم تلبث أن فقدت الزوج, فشقّت طريقها جامعة بين أعباء المنزل والعمل, وأقدمت على الزواج الثاني من مربٍّ صحِبته في رحلة حياة مليئة وتعلّمت منه الكثير - كما تفتأ تقول - وأنجبت منه. ثم تابعت رحلتها بعد وفاته بعزم وثقةٍ متابعة رسالة تربوية بدآها معا في الكويت).

علينا أن نستقي من السطور أن الكاتبة لا تؤرخ لسيرتها وحدها, وإنما هي تؤرخ لعادات شعب, وأعلام أمة, تقول :(سألت والدي عن سنة ميلادي فقال لي: أنا كنت أسجل تواريخ ميلادكم على المصحف وأذكر أنني كنت سعيدًا بميلادك لأني ربحت كثيرًا في هذه السنة فسميتك (ربيحة)). تتذكر ربيحة سنوات الطفولة في بستان اسمه فلسطين :(كانت ولادتي في بيت جميل محاط بالأشجار الكثيفة والأشجار المثمرة بأنواع مختلفة من الفواكه, وكانت الزهور منثورة في كل جانب من جوانبه, وقد بنى والدي هذا المنزل منذ زمن طويل ومازلت أذكره وأتذكّر والدتي التي كانت مولعة بتربية الحيوانات والطيور المنزلية, والعناية بالحدائق ورعايتها, والإشراف عليها بنفسها يوميًا, وقد ورثت عنها ذلك ومازلت حتى اليوم أقوم بالإشراف على الحديقة بنفسي, وأنا أشعر بالسعادة تغمرني. أما القابلة التي ولدت على يديها فكانت يهودية تتحدر من أصول عربية اسمها (خاية) وقد قامت بتوليد الكثيرات من نساء العائلات المقدسية العريقة لبراعتها وحرصها على سلامة الأم والمولود. وقد كانت العلاقات بين العرب واليهود, وبخاصة يهود فلسطين الذين يتحدرون من أصول عربية في ذلك الوقت تنطوي على الاحترام المتبادل, بل إن العلاقات الودية وصداقات الطرفين استمرت بين كثير من الأُسر العربية واليهودية حتى أواخر الأربعينيات, وبخاصة في المدن المختلطة مثل القدس ويافا وحيفا. وكانت القابلات اليهوديات يمارسن هذا العمل في كثير من المدن وكان لهن شهرة وتقدير, ومنهن قابلة يهودية في مصر اسمها لونا (Luna) ومعناها القمر وكانت رائعة الجمال, نظم فيها الشاعر حافظ إبراهيم أبياتًا منها:

للونا شُهرة في الطبِّ تَاهتْ بها مصرُ وتاهَ بهَا مديحِي
ومن عجبٍ أنها تدينُ بدين موسَى وتَأتينا بمعجزةِ المَسيح


تتذكر ربيحة المقدادي مواظبتها على العمل والدراسة معًا, وخلال فترة قصيرة تستطيع أن تحظى برضى المدير والمسئولين, وبنجاحها وتفوقها في الدراسة بالمعهد البريطاني عن طريق المراسلة, حتى حصلت على الشهادة من كلية بينيت (Bennett College) في لندن, وكانت دبلومًا (Diploma) فقط, وليست جامعية, التحقت بالجامعة للدراسة بالمراسلة أيضًا لفترة من الزمن. ثم دعاها المدير وأخبرها بأن السيد وبستر (Mr. Webster) ـ وكان آنذاك مسئولا كبيرًا في حكومة بريطانيا عن التوظيف ـ سوف يعطيها درجة يسمونها (N) وأنه سوف يتم تعيينها رسميًا في القدس.

تقول في رحلتها مع الزمن: (بعد أن تسلّمت عملي طلب مني المدير أن أتعلّم قيادة السيارة ليسهل علي التنقل في العمل وقال لي إننا سوف نخصّص لك سيارة من المكتب وأنا أعلم أن ذلك لا يستطيع فعله سواك, ولأنجح في عملي قرّرت أن أتعلّم قيادة السيارة وحتى لا أواجه بثورة العائلة نصحت قريبة لي في العائلة والدتها تركية وتربيتها أجنبية واسمها نرمين وفا الدجاني أن تتعلّم قيادة السيارة معي, فاستحسنت الفكرة, وبالفعل تعلمنا سويًا قيادة السيارة, وحصلنا على رخصة القيادة عام 1943, وكنا من أوائل السيدات اللاتي يقدن سيارة في القدس, وطبيعي أن تكون معارضة أهلي شديدة ولكن وجود نرمين معي قد خفّف الوطأة عني قليلاً), ولم تنس الكاتبة أن تضع صورة لها وهي تقود تلك السيارة.

بداية التعليم

وصلت أول بعثة تعليمية إلى الكويت من فلسطين عام 1937 وذلك بعد محادثات جرت بين مجلس المعارف في الكويت برئاسة الشيخ يوسف بن عيسى القناعي ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى في القدس الشريف والذي كان حينذاك المفتي الحاج أمين الحسيني, ورأس تلك البعثة التعليمية الأستاذ أحمد شهاب الدين وفي عضويتها الأساتذة خميس نجم, ومحمد جابر حديد, ومحمد المغربي. ووضع هؤلاء أسس التعليم النظامي بجميع مكوناته في الكويت, وقد عيّن الأستاذ أحمد شهاب الدين فور وصوله مدرسًا وناظرًا للمدرسة المباركية, كما عين مشرفًا على المدرسة الحمدية, وإلى جانب ذلك عمل مفتشًا عامًا على مدارس الكويت بما فيها المدارس الأهلية, ومديرًا للتعليم في الكويت.كما شغل شهاب الدين هذه الوظائف مجتمعة من عام 1936 إلى عام 1942, ومن زملائه الكويتيين الذين عملوا معه في التدريس خلال تلك الفترة عبدالملك الصالح, وعمر عاصم, وعبدالمحسن البحر, وعبدالرحمن الدعيج, وسالم الحسيان, وعيسى مطر ومحمد الشايجي, ومحمد زكريا الأنصاري, وراشد السيف, وأحمد بشر الرومي, وعبدالله السنان.

وكان حضور المؤلفة إلى الكويت بصحبة زوجها الراحل درويش المقدادي بداية عهد جديد لها, حيث سعت لتقديم خبرتها ـ وعلى مدى نحو نصف قرن لاحق, في مجال التربية, كانت فيها شاهدة على الأحداث ومحركيها في الدولة الوليدة, تقول متذكرة: (اتّسم عهد الشيخ عبدالله السالم بتحقيق المنجزات الحضرية المتعددة في نواحي الحياة العامة: التعليمية, والاقتصادية, والصحية, والعلاقات الخارجية, فقد جعل من الكويت دولة عصرية مؤهلة لدخول المجال الدولي, ومشاركة الأسرة مسئولياتها وتمتعها بالاحترام. ويلقب الشيخ عبدالله السالم بأبي الاستقلال وأبي الدستور, فهي عهده أعلن استقلال دولة الكويت في التاسع عشر من حزيران (يونيو) 1961, كما يعتبر أبا الديمقراطية ويؤمن بأنه لا يمكن لأحد أن يخلد في الحكم ولعلّ ما يؤكد هذه المقولة تلك العبارة التي أصرّ على أن تنقش بماء الذهب على مدخل قصر الحكم القديم (لو دامت لغيرك ما وصلت إليك)).

ومن طريف ما تتذكره عن الشيخ عبدالله السالم جولته المسائية التي كان يقوم بها كل يوم من قصر الشعب إلى القصر الأحمر في مدينة الجهراء, وكان يحرص على أن يعود إلى بيته قبيل أذان المغرب بلحظات, حيث كانت الإذاعة تبث كل يوم في مثل هذا الموعد أغنية تقول كلماتها:

إيه يا نفس إلى الله أنيبي (عودي)
وإذا وسوس لك شيطان بإثم لا تجيبي, واتق الله.

وهي تصف سمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح في كتابها الصادر في بيروت عام 2000, بأنه (شيخ الدبلوماسية, ودبلوماسي الشيوخ, وإليه يعود الفضل في بناء الكويت الحديثة في مجالات عدة, فقد قاد سفينة الكويت الدبلوماسية طوال ستة وثلاثين عامًا, وقاد مسيرة بناء الكويت الحديثة قبل ذلك بعشر سنوات, وتعتبر ابتسامة الشيخ صباح الأحمد هي السلاح الأمضى والأقوى لدخوله قلوب كل من يقابله. ويعتبر إخلاصه ووفاؤه وحبه لبلاده مفتاحًا لكل الأبواب المغلقة التي سرعان ما ينال التقدير والثناء من خلالها. كان الشيخ صباح يحرص على الاتصال بالصحافة والصحفيين والإعلاميين من مختلف الأقطار لإطلاعهم على سياسة الكويت ومنجزاتها الحضارية, إذ لم يكن هناك آنذاك محطات فضائية ولا محطات تلفزيون. لقد استطاع الشيخ صباح الأحمد, بحق, أن يأسر قلوب كل من عرفهم من رجال الصحافة في العالم كله).

شاهدةٌ على نهضة الكويت

تقول المقدادي: (لم يكن التطور الذي حدث في الكويت مقتصرًا على الناحية التربوية فقط, بل شمل جميع مناحي الحياة. فخلال الفترة الأولى لوصولنا الكويت كان كثير من الناس ينتظر وصول المسافرين الذين كانوا يحضرون بعض الصحف تنتقل من يد إلى أخرى ومن ديوانية إلى ديوانية, يقرأها أحد الحاضرين بصوت عال, على الموجودين, بعدها يجري التعليق على ما ورد في هذه الصحف من أنباء أو مقالات أو تعليقات, أما بعد عودتي الثانية إلى الكويت وإعلان الاستقلال فقد تطورت الأمور وتوالى صدور الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية. فاتني أن أذكر أن الصحافة في الكويت لها جذور قديمة بدأها المرحوم عبدالعزيز رشيد والد السفير الأديب يعقوب رشيد, بمجلة سماها مجلة الكويت. ولعبدالعزيز رشيد وولده يعقوب صفحات مضيئة في تاريخ الكويت, فقد تركا إرثًا ضخمًا من الإنجازات, إذ عمل عبدالعزيز رشيد مدرسًا في المدرسة المباركية, ثم هاجر إلى إندونيسيا وفتح مدرسة تعلّم اللغة العربية والدين الإسلامي فيها سماها (مدرسة الكويت). وعاد بعدها إلى الكويت حيث أصدر (مجلة الكويت). وقد أُطلق عليه لقب (مؤرخ الكويت). ولا يفوتني أن أذكر أن الدولة في الكويت لم تكتف بإنشاء المدارس (كغيرها من الدول) وإنما عملت على تزويد طلابها وطالباتها بالكتب المدرسية, والقرطاسية وكل ما يلزم للتعليم من أوراق واحتياجات. وجدير بالذكر أن الدولة أغدقت الأموال على المتفوقين والمتفوقات وأوفدتهم في بعثات دراسية إلى أرقى الجامعات في الخارج للتخصص في شتى فروع المعرفة, ولاسيما العلوم والتقنيات التي أصبحت من ضرورات العصر واحتياجاته الأساسية. إننا نفخر بما حققته المرأة في دولة الكويت من رقيّ, وما أحرزته من حقوق, وما تقوم به من واجبات).

لم تكن أيام ربيحة في الكويت عملا صرفا بل شملتها أيضا أيام من الاستئناس بالناس والمكان, فقد كانت تنتظر عطلة الربيع حتى تخرج للبر لجمع (الفقع) (أي الكمأة), وتقضي أيامًا جميلة في الخيام خارج المدينة وبعد أن تطور العمران في دولة الكويت انتقلت هذه الخيام إلى المناطق البعيدة, فوصلت إلى منطقة الروضتين, وأم العيش في الشمال, والوفرة وغيرها في الجنوب, وهذه الأماكن تبعد عن العاصمة حوالي 140 كلم تقريبًا.

تتحدث المقدادي عن بعض ما يمكن أن تسميه بإنجازات مبكرة, تقول: (أسعدني كثيرًا خلال عملي في مدرسة الشرقية للبنات أنني قمت (ولأول مرة في الكويت) بعمل مسرحية حول (موقعة بدر) الشهيرة في التاريخ الإسلامي, وكان ذلك عام 1953, ومازلت أذكر بالخير جهود الطالبات والمدرّسات في المدرسة, لقد استأذنت إدارة المعارف في الأمر, وحصلت على موافقة أولياء أمور الطالبات, وللعلم لم يكن هذا العمل مسموحًا به في ذلك الوقت وبخاصة في مدارس البنات كما أنه لم يكن لدينا مسرح في المدرسة, لكنني عمدت إلى تغطية الساحة في المدرسة وجهّزتها بشكل جميل لتتسع لأكثر من خمسمائة سيدة, وصادف أن كانت سيدة المسرح (السيدة أمينة رزق) موجودة في الكويت مع أعضاء (الفرقة القومية بالقاهرة) لعمل مسرحية في الكويت, كان يرأس هذه الفرقة آنذاك المرحوم فاخر فاخر, الذي توفّاه الله بسكتة قلبية في الكويت أثناء عرض المسرحية, وأذكر من الفنانات الممثلة القديرة السيدة أمينة رزق وسميحة أيوب والممثلة المشهورة رفيعة الشال وغيرهن كثيرات. أقامت الفنانات في قصر الشيخ عبدالله الجابر الصباح, (طيب الله ثراه), وكنت مع السيدة فاطمة الصالح مسئولتين عن توفير الراحة لهن. كما كان المذيع السيد مصطفى أبو غربية مسئولاً عن الفنانين. وأصبحت السيدة أمينة رزق (صديقتي الحميمة) منذ ذلك الوقت. وبعد استشارتها بإقامة مسرحية في المدرسة, سُرَّت كثيرًا وشجَّعتني على ذلك, وقالت لي إن التمثيل يزوّد التلميذات بالإرادة, والعزيمة, ويعوّدهن الاعتماد على النفس, ويبرز الشخصية, ويقويها. تقمّصت بعض التلميذات شخصيات المجاهدين من الصحابة, والبعض الآخر تقمّصن شخصيات صناديد كفّار مكة المكرمة, وأذكر أن من التلميذات اللاتي شاركن في هذه المسرحية الطالبة فاطمة الملا التي عملت مؤذنًا, ولبست مثل الرجال ووضعت (غطرة) على رأسها (أي كوفية) وكان صوتها رخيمًا, حتى أن بعض النساء حسبن أنها رجل, ووضعن البوشية على وجوههن. ومن التلميذات اللواتي اشتركن بالمسرحية الطالبة قمرية محمد أمين, وكانت تتحدث في المسرحية بلسان القائد, وتتقمص شخصيّته ذات العزيمة والقوة والصبر. لقد أعجبت جميع السيدات بأداء بناتهن هذه الأدوار بكل جرأة. ومن التلميذات اللواتي قمن بأدوار بارزة بصورة رائعة تحدّث عنها الجميع في ذلك الوقت كان دور الطالبة (دلال أحمد البشر الرومي) التي عملت دور البصّارة (أي كاشفة الفال), حيث ارتدت زيًا بدويًا كاملاً ووضعت العصبة على رأسها كالبدويات تمامًا, كما وضعت الحلي والقلادات الجميلة على صدرها ورأسها, وتكلمت باللهجة البدوية, وتصرفت كالبدويات تمامًا, مما جعل السيدات يصغين إليها بشدة ويرجينها لتواصل عملها معهن وكان هذا حدثًا طريفًا لا ينسى. لا شك بأن هذا الأداء المميّز أعطى الطالبات شحنة قوية من الثقة بالنفس والجرأة الأدبية في الكلام والتعبير, وفي التطلع نحو المزيد من العلم والمعرفة).

خلع الحجاب

كيف تبدأ التيارات الجديدة في حياتنا? إنها فكرة تحتاج لمن ينقلها إلى أرض الواقع, مختارا لها الزمان والمكان, وكانت المدرسات يرتدين العباءة على عكس رغبة بعضهن اللائي جئن من مجتمعات منفتحة, وفي عام 1963 تحققّت رغبات المدرسات بصورة عفوية, وأُعفيت جميع المدرسات من لبس العباءة. فقد كانت دولة الكويت في هذا العام تستعد لاستقبال المناضلة الجزائرية (جميلة بوحيرد), وكان في برنامج الزيارة أن يقيم الشيخ عبدالله الجابر الصباح, وزير التربية آنذاك حفل استقبال في مقره بمنطقة بنيد القار على شرف المجاهدة الكبيرة, ويدعو لهذه الحفلة المدرسات, والمدرسين, والمفتشين, وكبار رجال الدولة.

قبل الزيارة بأيام قليلة زارت ربيحة المقدادي وزير التربية الشيخ عبدالله الجابر الصباح في مكتبه وقالت له: (إن الزائرة الكبيرة هي إحدى المجاهدات المسلمات والمؤمنات بالدين الإسلامي الحنيف, وقد ثارت ضد الاستعمار انتقامًا لكرامتها وكرامة وطنها, وهذه المجاهدة الكريمة التي سوف تزورنا بعد غد لا ترتدي العباءة ولا غطاء الوجه, فكيف يكون موقفنا نحن في الحفلة, ونحن نضع غطاء الوجه ونلبس العباءة? في هذه الحالة سوف نحرج (ضيفتنا) كثيرًا, بالإضافة إلى أن هذا المشهد لا يليق بمكانة الزائرة الكريمة. عندئذ سألني الشيخ عبدالله الرأي في الموضوع وما أقترح, قلت له: إذا أحببت يا سعادة الشيخ بأن نعرض الأمر على صاحب السمو أمير البلاد سمو الشيخ عبدالله السالم الصباح, لأخذ الرأي, فإنني مستعدة لالتماس الإذن بمقابلة سموه لعرض الأمر عليه).

ووافق الشيخ عبدالله الجابر شريطة ألا يعلم أحد بذلك حتى لا يثير ضجة في البلاد. وبعد أن زارت المقدادي صاحب السمو وعرضت الأمر عليه, وشرحت لسموه أن الكثير من المدرسات اللواتي يرتدين العباءة قد جئن من مجتمعات ليس فيها هذا النمط من اللّباس, كما أن بعضهن كن يهملن مظرهن ولباسهن, باعتبار أن العباءة تستر ما تحتها على رأيهن, لذلك فقد كانت بعض المدرسات لا يلبسنها بالطريقة الصحيحة, وكان جهل بعضهن يجعل العباءة عرضة للنقد وكلام الناس. ووعدت سموه بأنه في حال موافقته سوف تكون هي مسئولة عن لباسهن وتصرفاتهن.

تقول المقدادي : (كان سمو الأمير الراحل الشيخ عبدالله السالم الصباح, طيب الله ثراه, واسع الصدر, يؤمن بالتطور, وكان يُصغي ويُفكر طويلاً قبل الإجابة بعد ذلك ابتسم, رحمه الله, وسألني: لو كان زوجك درويش المقدادي ما زال على قيد الحياة هل كان سيوافقك? أجبت سموه بأن الأمر الأول والأخير لسموك وليس لدرويش أيّ رأي إلا بعد استشارة سموك. عندها ابتسم وأومأ برأسه يعني أنه (مُوافق). وبحسب أوامر وزير التربية الشيخ عبدالله الجابر الصباح, نقلت الأمر إلى المدرسات شريطة أن يضعن (لفحة) - أي إيشارب - على رءوسهن ويكون لباسهن محتشمًا وكذلك تصرفاتهن في هذه الحفلة بالذات. وفي اليوم التالي كتبت الصحف عن زيارة المجاهدة الكبيرة مع صورها والمدرسات دون التعليق على ترك الحجاب, ولم يعترض الرأي العام على الأمر, واعتبرت كثير من الأوساط والعائلات في الكويت أن هذا العمل يعد إنجازا حضاريا مهما). وهكذا بين الخاص والعام, تتوزع صفحات المقدادي, تنقلنا بين تاريخ الأشخاص والبلاد, في محطات ثرية, ثراء الذين عاشت معهم, وهي تركت في فلسطين تاريخا زاخرا, لتنشئ تواريخ أخرى, لها ولأجيال من بعدها.

 

ربيحة الدجاني المقدادي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




 





الشيخ عبدالله الجابر الصباح وربيحة المقدادي في استقبال البطلة والمناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد





ربيحة المقدادي في مكتبها, الكويت, 1952