جدارنا يرحل معنا

الجدار هو أول مسطح خطت فوقه يد الإنسان مخاوفها وهواجسها، استقبل في صمت طويل تعاويذه السحرية ثم رسومه الطقسية والشعائرية، رحلة البر الغربي، ونزهات أفروديت البحرية، صور السيد المسيح متخفية عن أعين الرومان، محاريب وقبور وأنهر وسجلات، وصولًا لحضور الجدار كمسطح فني معاصر يمثل نداء ضد عزل الفن في قاعات العرض.

كذلك فإن للجدار كمثير للإبداع تاريخًا قديمًا منذ أن أوصى ليوناردو دافنشي تلامذته بأن يتأملوه ويستقرئوا منه صورًا وأشكالًا تلتقطها أعينهم فتستقر في خيالهم الذي يكملها كصورة، ومازال الأساتذة في كليات ومعاهد تعليم الفن يطلقون طلابهم للرسم في الحواري القديمة يشيرون إلى جدرانها المتآكلة حاملة عبق السنين يستحثونهم لكي يبحثوا فيها عن روح المكان ونبض البشر وأصوات صياحهم ومشاجراتهم وأحاديث جلساتهم الودودة، فالجدار حامل لرقائق الملونات والخدوش والخربشات ومواضع يد الإنسان التي تراكمت عبر أزمنة وأزمنة فأصبح حقلًا مثيرًا للتخيل، صورًا ناقصة تنادي عين الفنان لالتقاطها وإكمالها.

والفنان مصطفى عيسى في هذا المعرض ينحاز إلى تجربة الجدار من خلال محورين، الأول تلك الذكرى الإنسانية التي تجعل حواسنا تنجذب لحبل سري خفي يربطنا بكل الأماكن التي مررنا بها وتعلقنا بجدرانها فأصبحت حاضنة لأحلامنا وإحباطاتنا ومخاوفنا وكأننا - بلاشك - نترك فيها جزءًا من أنفسنا لا نسترده إلا بالنزوح إليها مرة أخرى، وربما هذا ما يجعلنا نشعر بألم الاغتراب، فوجداننا لا يتكامل إلا بالمكان الذي احتضن أيامنا وبالجدار كرحم لذلك المكان.

أما المحور الثاني فهو التقنية التي رافقت تلك الفكرة وتوافقت معها. من هنا فإن الأداء في هذه التجربة يعتمد على تراكب طبقات اللون والحذف والإضافة ويميل إلى الإيحاء أكثر من المباشرة، فالأشكال تتوارى خلف هالات الضوء واللون المتراكبة الشفافة حينًا والمعتمة حينًا آخر، والأشكال تكاد أن تنكشف بالقدر الذي يريد أن يوحي به الفنان فهي غائمة مندمجة مع السطح حائرة بين التجريد ومفردات الواقع أو التاريخ ذات الدلالات الرمزية التي يحفظها اللا شعور الجمعي ضمن ما يحمل من إرث كثيف، مطروحة بما يتناسب مع صور الذاكرة التي غالبًا ما تكون غائمة مبهمة غطتها طبقات من أحاسيس متناقضة ومتداخلة أبعدتها عن النقاء المادي للصور الذهنية الخالية من العاطفة.

رقائق شذرات الذكريات

إن فكرة الرقائق التي يبني بها الفنان مصطفى عيسى أعماله ربما تؤكد ذلك التلاحم بين شذرات من ذكريات وشذرات أخرى من صور بصرية أعاد الفنان بناءها في نسق شبيه بالسجلات التي تنتظم من خلالها أحداث الصورة في التصوير المصري القديم، والفنان يحتفظ فيها بذلك الخط الواهي بين الحلم والواقع، لذلك لا تفصح تلك الأعمال عن نفسها من أول وهلة لكنها تنكشف بالتأمل الهادئ، فكلما أمعنت فيها النظر امتلأت عيناك بالتفاصيل والحكايات. وفى ثنايا الأداء اللوني المتحرر من ربقة الارتباط بالواقع أو بحسابات المكان الرياضية، تطل علينا تفصيلات لرسوم بالفحم الأسود تذكرنا برسوم الأوستراكا «الشقف الحجرية» تلك التي استخدمها المصريون في تدوين خواطرهم وبث شكواهم وتسجيل رسومهم الحرة بعيدًا عن القواعد المقدسة في الفن المصري القديم، ونرى أيضًا أسماكًا ملونة تغرق في الزرقة تبدو كأنها تسبح في جدار ومومياوات وأطلال وتيجان أعمدة وصورة لتمثال «ممنون»، أو قد نجد مركبًا مائلًا كأنه ينتمي لبحر جفت مياهه، ونخيل يذكرنا بجمال النخيل في تصاوير الأسرة الحديثة في الفن المصري القديم، وجدران معابد متهدمة، وفي وسط كل هذا يتسلل «بورتريه» لا نعرف هل هو وجه لامرأة فرعونية أو وجه أنموذجه الأثير زوجته «نادية» فالمفردات وعلاقاتها غير المتوقعة أحيانًا تجعل الصورة تبدو كفسيفساء جامع لأحلام عدة أو إرهاصات بصور قادمة أو ذكريات بصرية نائية. والأشكال هائمة متداخلة تحاكي حالة انسكاب الصور وتداخلها في الذاكرة، فتبدو كأطياف متحررة من الثقل الأرضي. ويتوافق هذا مع شخصية الفنان التي تحمل الكثير من الإرهاف والمثالية.

رحلة إلى الأقصر

يجدر أن نشير هنا إلى أن تجربة هذا العرض مرتبطة برحلة قام بها الفنان للأقصر في إطار دعوته لسمبوزيوم الأقصر للتصوير، مما جعله على حد قوله يستلهم من رحلته إليها عنوانًا مقيمًا داخله وداخل الفعل الإبداعي ذاته وربما لم يزل بدوره يستلهم أثر الجدار كحامل للتاريخ الإنساني، حيث تواصل سريعًا مع طرح إبداعي تراثي مصري لطالما ولعنا به عشقًا وإعجابًا منذ صغرنا، فالفن الأصيل يتردد صداه في كل رؤية جديدة له، من هنا توافدت على الأعمال تلك الرموز المصرية القديمة بالإضافة إلى ذلك الحس البنائي المعماري المصري الذي ينتظم من خلاله الطرح العاطفي التلقائي في الأعمال المقدمة، إنه المكان الذي احتوى الفنان وأجج طاقته الإبداعية، ثم احتواه الفنان مرة أخرى في تجربة تصويرية جديدة نسجت معها خصوبة تجربة الفن المصري القديم بعطاءاته المتجددة.

وتعيش المفردات في المسطح بصورة تبدو كأن الفنان لا يصورها فوقه بل يكشف عنها بكشط طبقات من اللون والعجائن الورقية لكي يظهرها كحفائر في أسطح متتالية حملت تاريخًا من الإضافات عبر فعل إنساني لا يخلو من متعة الكشف، خربشات وملامس وطبقات لون تستنطق الجدران وتحمل أثر تفاعل الفنان معها وملاحقته لأفكاره وتسابقه من أجل تحقيق الوجود فمسطح الرسم المحايد التقليدي لا يصلح مع فكرة الأعمال التي تتطلب زخمًا في الأداء يعادل زخم الرؤية وتتابع تجلياتها ونداءاتها المعرفية والتاريخية والإنسانية أيضًا.

والمحصلة من ذلك الأداء تجعلنا نشعر بأن الفنان لا يضيف أشكاله بل يكشف عن الأشكال المضمرة في السطح كأنها أثر لحيوات قديمة. ومن الواضح من الأداء استمتاع الفنان بكل تفاصيل مراحل عملية إبداع الصورة بداية من التحضير الخاص للسطح ثم تبنيه لأداءات مختلفة وملامس وخامات تضيء مرة أخرى الفكرة الفلسفية القديمة التي ربطت الفن باللعب كنشاط إنساني لا يحمل غرضًا إلا تلك المتعة الصافية التي تعيدنا ولو للحظات إلى طفولتنا الرائقة والحافلة بالمصادفات السعيدة التي من المؤكد أنها منحت الفنان الكثير من الأداءات العفوية التي التقطها الفنان لتخدم أبنيته التصويرية بخبرته وحساسيته كمصور قدير. فقد كان يسعى إلى تلخيص الفعل الإبداعي في صورته التقنية من خلال العجائن والوسائط الأخرى المتنوعة التي ربما ألهمته إحساسًا ببنية تتجسد بين التاريخ والزمن وجدار يترسخ وجوده المادي والمعنوي بداخله.

سطوح ناطقة

وعلى الرغم من حضور المسطحات المجردة في الكثير من الأعمال, إلا أننا نستشعرها تحمل عبقًا إنسانيًا ربما يعود إلى درجة اللون المضيء فيها والذي يجعلها كأنها تشع وتتنفس، فلا نجد عنده سطحًا صامتًا مصمتًا بل كلها سطوح موحية على الرغم من إيجازها المجرد. وكثيرًا ما يعتمد العمل الفني في تلك التجربة على فكرة بناء صورة داخل صورة، أو صورة حاوية لصور أخرى داخلها، حيث يقسم العمل إلى مستطيلين أساسيين أو أكثر منفصلين أو متداخلين يوحدهما فضاء ليلي صحراوي، وكل مستطيل - أو أحيانًا مربع - تنتظم من خلاله الأشكال بين التجريد المطلق أحيانًا والتلاقي والتجاذب مع مفردات أخرى، فهو مرة مستقل بعالمه الذاتي ينطوي على عناصره في أنشودة فردية ومرة أخرى تمتد بعض عناصر الصورة منه أو إليه، ومرة قد يشف أجزاء من الصورة الخلفية ومرة أخرى يبدو كأنه ينزح للخروج بعيدًا عن جاذبية الصورة. وكل مستطيل أو مربع يحوي داخله عالمًا متكاملاً بإضاءته الخاصة الساكنة التي تحتضن تداعيات كلها أثيرية تتهادى من عمق التاريخ إلى عمق النفس الإنسانية الراهنة.

وفي النهاية فإن جميع الأعمال التي يقدمها المصور القدير مصطفى عيسى في هذا المعرض تحمل لنا في وجد آسر، صحراء مصر وسماء مصر ونيل مصر وشوق مصري لمكان مثلت جدرانه صفحات العمر، وسحر مجهول استحضره حنين فنان يعرف كيف يمكن للصورة أن تقول كل شيء.
--------------------------------
* أكاديمية وفنانة تشكيلية من مصر.

-----------------------------------------

لا تنتقد خجلي الشديد.. فإنني
درويشةٌ جدًا... وأنت خبير..
ياسيد الكلمات.. هبني فرصةً
حتى يذاكر دروسه العصفور..
خذني بكل بساطتي.. وطفولتي
أنا لم أزل أصبو.. وأنت كبير
أنا لا أفرّق بين أنفي أو فمي
في حين أنت على النساء قدير..

سعاد الصباح

 

أمل نصر*