جمال العربية

جمال العربية

الشاعر والتجديد

لم يكن الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي مجرد شاعر كبير الحظ من الموهبة، يمتلك خيالا محلقا، وإحساسا مرهفا بموسيقى الحياة والوجود ـ لكنه بالإضافة إلى هذا كله ـ كان مجددا بفكره، ونظرته إلى الشعر العربي، مقارنا بين إبداع الشاعر العربي والشاعر الأجنبي في طبيعة الخيال الشعري وفي موقف كل منهما من المرأة والطبيعة. وكانت آراء الشابي ـ التي أعلن عنها في محاضرته الشهيرة "الخيال الشعري عند العرب ـ شديدة الجرأة والخروج على المألوف عندما ألقاها سنة ألف وتسعمائة وتسع وعشرين، يقول الشابي في لغة نثرية جميلة، لم تخل من ماء الشعر وجوهر إيقاعه:

خبروني يا سادتي، أي شاعر عربي يستطيع أن يحدثكم حديثا مغريا جميلا عن الحب، عن هذا المعنى العميق العريق في النفس الإنسانية الذي يهز المشاعر ويؤجج نيران الحياة، بل أي شاعر عربي يستطيع أن يحدثكم حديثا شعريا صادقا عن نشوة الحب وسكرة المشاعر، تلك السكرة الخالدة التي تستغرق النفس وتتغلغل بها في صميم الوجود أيان يترنم الحق وتخر أمواج الحياة؟ وأي شاعر عربي يقتدر أن يحدثكم عن الأمل، هذا الكأس السماوي المورد الذي تترشف منه الإنسانية التائهة رشفات المسرة وسلسبيل الوجود؟ وأي شاعر عربي يقتدر أن يصور لكم معنى الأمومة الحانية الرءوم هذا المعنى الكبير الذي ينبسط كالبحر في عمق وسعة وسكون؟ أو يريكم مثلا حيا من مثل الحياة الإنسانية الضائعة، كأن يريكم موقف النفس البشرية مابين العواطف المتباينة، تدعوها هذه وتهيب بها تلك، أو يريكم هجسات القلوب وخلجاتها، وأحلام النفوس الناشئة الواقفة على عتبة القدر تحلم بما خلف الغد البعيد؟

هل تجدون ياسادة واحدا بين شعراء العربية يستطيع أن يتحدث إليكم عن مثل هاته الأشياء القوية الغامضة، وإن استطاع فهل يقدر أن يرسم لكم منها صورة مغرية ساحرة أو يعطيكم منها معنى شائقا جميلا صادقا هو أدنى إلى الحقيقة مما عاداه؟ كلا، فأنتم لاتجدون مثل هاته المعاني في الأدب العربي بحال، وذلك لأنه أدب مادي محض لايعرف من عالم الخيال إلا أضواءه الأولى وغيومه الناشئة.

هذه الثورة العارمة التي حملها الشابي في وجدانه وعقله على تقاليد الشعر العربي، وبعده عن النفاذ إلى أغوار الوجدان الإنساني ـ في رأيه ـ هي التي ألهمته شعره البديع الجميل، وأذكت فيه شعلة التجديد ووهج الإبداع المتفرد.

يقول الشابي في قصيدته "صلوات في هيكل الحب"

في فؤادي الغريب تخلق أكوان

من السحـر ذات حسن فريدِ

وشمـوس وضـاءة ونجـوم

تنثر النـور في فضاء مديـدِ

وربيـع كأنـه حلـم الشـاعرِ

في سكـرة الشبابِ السعيـدِ

وريـاض لاتعرف الحلك الداجي

ولا ثـورة الخـريف العتـيدِ

وطيـور سحريـة تتنـاغى

بأناشيـد حلـوة التغـريـد

وقصور كأنها الشفق المخضوبُ

أو طلعـة الصباح الوليـدِ

وغيـوم رقـيقـة تتـهادى

كأبـاديد مـن نثار الـورودِ

وحيـاة شعريـة هـي عندي

صورة من حياة أهل الخلودِ

كل هـذا يشيده سحـر عينيكِ

وإلهـام حسنـك المعبـودِ

تنبيهات لغوية

عُنى كثير من علماء العربية بالتنبيه إلى ألفاظ وتعابير يقع فيها الاشتباه، مما يؤدي إلى استعمال بعضها بدلا من الآخر، فيختل المعنى ولايستقيم سياق الكلام.

من نماذج هذا الخطأ الخلط بين أكفاء وأكِفَّاء: فأكْفاء جمع كفء أما أكِفَّاء فجمع كفيف.

والخلط بين خُطبة وخِطبة، فالخُطبة من الخطابة أما الخِطبة فمجالها حين يقال خطب فلان فلانة.

والخلط بين العَقَار والعقَّار والعُقار: فالعقار "بفتح العين والقاف" ما يمتلك من أشياء ثابتة كالبيت والأرض وجمعه عقارات، أما العقّار "بتشديد القاف" فهو ما يُتداوى به وجمعه عقاقير، والعُقار "بضم العين" هو الخمر ومنه قولهم يعاقر الخمر ومعاقرة الخمر والعُقار ـ في اللغة أيضا ـ من كل شيء: خياره وأفضله.

والخلط بين طِوال وطَوال: فالكلمة الأولى جمع طويل، أما الثانية فظرف زمان بمعنى طول، يقال: طَوال الدهر وطَوال الوقت.

والخلط بين قاصرة ومقصورة: يقال: قاصرة عن أي، عاجزة عن وغير قادرة على، أما مقصورة على كذا فمعناها موقوفة على كذا أو خاصة بكذا.

ويقولون: جاءوا سويا: وصوابه جاءوا معا، أما السوى فهو العادي الخالي من العيوب ويخلطون بين خلاق وأخلاق: فالأول بمعنى الحظ والنصيب. يقول تعالى: "وما له في الآخرة من خلاق" أي من نصيب في الخير. أما الأخلاق فجمع خُلق.

الشعر.. ديوان العرب

تحت هذا العنوان يفرد الأديب الكبير الراحل عباس محمود العقاد واحدا من فصول كتابه الجميل "اللغة الشاعرة" للحديث عن الدور الذي قام به الشاعر العربي في التعريف بالقيم الأخلاقية المفضلة واستقصاء المناقب التي تستحب من الإنسان في حياته الخاصة أو حياته الاجتماعية، مصداقا لقول الشاعر الحكيم أبي تمام:

ولولا خلال سنّها الشعري ما درى

بُناة العـلا مـن أين تُؤتى المكارم

ويتوقف العقاد عند نموذج حاتم بن عبدالله الطائي باعتباره مثلا من أمثلة الرجولة الناضجة والقدوة للسيد المسئول عن قومه، وإلى هذا اليوم يُضرب المثل بالكرم الحاتمي في أحاديث الناس الذين يعرفون من هو حاتم هذا، أو الذين لايعرفون منه إلا اسما أصبح في عداد الصفات المتجمعة للنبل والكرامة.

وقد اتفق الرواة على أنه "رجل يصدق قوله فعله، إذا قاتل غلب وإذا سئل وهب وإذا سابق سبق وإذا أسر أطلق". وقد شهدت بنته البعثة الإسلامية وجيء بها مع أسرى قبيلتها إلى النبي عليه السلام فقالت: يا محمد، هلك الوالد وغاب الوافد. فإن رأيت أن تخلي عني فلا تشمت بي أحياء العرب، فإني بنت سيد قومي، كان أبي يفك العاني ويحمي الذمار ويقري الضيف ويشبع الجائع ويطعم الطعام ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط، أنا بنت حاتم طيء.

وشهد السامعون بصدقها، ولم يكن يخفى على النبي حقيقة قولها فقال عليه السلام: خلوا عنها، إن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق.

وما من صفة من هذه الصفات إلا قد تواترت الأنباء بتأييدها وتكررت النوادر التي تثبتها. وجملة مايقال عن هذا النموذج إنه كان سيدا ينهض بأعباء قومه ويخجل من العيش الرغد إذا كان في قومه من يشقى بالفقر وبالأسر، ويكرم نفسه مع الحلم في ساعة الغضب، قائلا وعاملا بما يقول:

فنفسك أكرمهـا، فإنـك إن تهـن

عليك، فلن تلقى لك الدهـر مكرما

تحلم على الأدنين واستبـق ودهم

ولـن تستطيع الحلـم حتى تحلما

وأغفـر عوراء الكريـم ادخـاره

وأصـفح عـن شتـم اللئيم تكرما

لحـي الله صعلوكاً منـاه وهمـه

من العيش أن يلقى لبوساً ومطعما

وجُماع رأيه أنه يشارك الناس في ماله إذا اغتنى ولايشاركهم في ماله إذا افتقر، ويحمي شرفه بماله ولايحمي ماله بشرفه:

وإني لعف الفقـر، مشتـرك الغنى

وتـارك شكـلٍ لا يـوافقه شكـلي

وأجعل مـالي دون عـرضي جنةً

لنفسي، وأستغني بما كان من فضلي

ومن أجمل أقواله التي سبق بها القائلين قبل أربعة عشر قرنا: إن المال عبد وليس بسيد:

إذا كـان بعض المال ربـا لأهله

فإنـي بحمـد الله مالي مُعبدُ

معبد: أي جعلته عبداً لي

ومن تمام أدب الرجولة فيه أنه كان يجمع العفة إلى الكرم والشجاعة، ولم يُذكر عنه قط خبر واحد ينفي قوله:

فأقسمت لا أمشي على سر جارتي

يد الدهـر، مادام الحمام المغـردُ

يد الدهر: أي طول الدهر، ومادام الحمام المغرد: أي ما بقيت الحياة مستمرة.

ولا أشتري مالاً بغدر علمته

ألا كل مالٍ خالط الغدر أنكدُ

وشريعة الرجولة في هذا النموذج الأخلاقي الحي أنها حلم مع قوة، وعفة مع شجاعة وكرم مع وداعة وطيبة، وأنها حقيقة عملية وليست أمنية من أماني المثل الأعلى.

رأي في البلاغة العصرية:

والرأي يقدمه الكاتب الكبير الراحل أحمد حسن الزيات صاحب مجلة "الرسالة" الأدبية الشهيرة، وصاحب مدرسة أسلوبية مجددة في فن الكتابة العربية، تركت تأثيرها العميق على أجيال عديدة من بعده لما تميزت به من حس لغوي عصري، وسلاسة واضحة، وتدفق منهمر، وبعد عن التكلف والتقعر والإغراب.

يقول الزيات في تعريف البلاغة العربية الجديدة البلاغة التي أعنيها هي البلاغة التي لاتفصل بين العقل والذوق، ولابين الفكرة والكلمة، ولابين المضمون والشكل، لأن الكلام كائن حي روحه المعنى وجسمه اللفظ، فإذا فصلت بينهما أصبح الروح نفسا لاتتمثل والجسم جمادا لايُحس.

والأسلوب خلق مستمر، خلْق الألفاظ بواسطة المعاني، وخلق المعاني بواسطة الألفاظ. فليس هو المعنى وحده ولا اللفظ وحده، وإنما هو مركب من عناصر مختلفة يستمدها الفنان من ذهنه ومن نفسه ومن ذوقه، وتلك العناصر هي الأفكار والتصورات والعواطف ثم الألفاظ المركبة والحسنات المختلفة. ويجب أن يتوفر في الأسلوب البليغ عنصر التلاؤم أو الموسيقية، ويكون ذلك في الكلمة بائتلاف الحروف وتوافق الأصوات وحلاوة الجرس، وفي الكلام بتناسق النظم وتناسب الفقرات وحسن الإيقاع، وسبيل ذلك المزاوجة بين الكلمات والجمل كقوله تعالى: "وآتيناهما الكتاب المستبين، وهديناهما الصراط المستقيم.

فآتيناهما مثل وهديناهما، والكتاب مثل الصراط، والمستبين مثل المستقيم.

ولا بأس من أن ينتثر في خلال السياق قليل من السجع المطبوع في المواقف الشاعرية العاطفية.

وهذه السطور نموذج لأسلوب الزيات، وطريقته في الكتابة والتعبير، وعرض أفكاره وآرائه، وهو أسلوب رائق اللغة، صافي الحس، عصري التناول، نفتقده في الكثير مما يكتب وينشر الآن.

 

 

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات